حكومة عديمة الرحمة تدفع فقراء بريطانيا نحو دوامة ديون قاتلة
غوردون براون*
بالتزامن مع إجراء تعديل وزاري في #الحكومة_البريطانية، على رئيس الهيئة الناظمة لعمل شركات #الغاز والكهرباء في #بريطانيا “أوفجيم” Ofgem الرقابية جوناثان بريرلي، أن يعيد النظر في موقعه الوظيفي لفشله في تحمل مسؤولياته حيال المستهلكين في قطاع الطاقة وعملية إجبار العملاء على تركيب عدادات كهربائية مدفوعة مسبقاً.
إن مسؤولية الهيئة الرقابية الرسمية لا يمكنها أن تكون أكثر وضوحاً. إن دوره الذي تنص عليه الإجراءات هو ضرورة “حماية المستهلكين للطاقة عبر التأكد أنه تتم معاملتهم بشكل عادل”، وهذا توجيه مهم للغاية، خصوصاً في وقت تسجل خلاله شركات الغاز والنفط عوائد وأرباحاً غير متوقعة قياسية.
حتى لو لم تكن تلك المسؤولية موضحة بشكل كاف، فإن واجباته مكتوبة بكلمات مطبوعة وبشكل موضح جداً: “على الهيئة منع التصرفات المسيئة والحادة” [التي ربما تمارسها شركات الطاقة]. إذاً على بريرلي، ووزارة الطاقة التي أعيد تنظيمها أخيراً، أن يقوما بشرح ما جرى بشكل فوري ولماذا، بدلاً من انحيازهما والوقوف إلى جانب الشعب، فشلت الهيئة بشكل مؤسف في فرض رقابتها وفضحها شركات توفير الخدمات الأساسية من كهرباء وغاز وموفديها المكلفين جمع الديون الذين قاموا في وسط أسوأ أزمة غلاء معيشة تشهدها البلاد منذ 50 عاماً بخلع أبواب منازل العملاء الفقراء [لتركيب تلك العدادات].
بعد فرض قاض في المحكمة العليا البريطانية وقفاً موقتاً لقرارات المحاكم التي سمحت بعمليات الدخول بالقوة إلى منازل العملاء، فإن الوكالات الرسمية المذنبة لإهمالها في أداء واجباتها، لا بد لها من تحمل مسؤولية الضرر الكبير الذي تكبده أولئك المواطنون وهم الأقل قدرة من أبناء المجتمع على تحمل كلفة التزود بالطاقة.
هناك حوالى 3.2 مليون مواطن بريطاني يدفعون كلفة استهلاكهم للطاقة عن طريق عدادات “مسبوقة الدفع”، ومن ضمنهم 600 ألف تم تركيب عدادات مماثلة لهم من خلال الدخول عنوة إلى منازلهم في الآونة الأخيرة. وكما قال [وزير دولة الظل لتغير المناخ وتصفير الانبعاثات] إد ميليباند أخيراً، إننا بحاجة إلى فرض حظر على عملية التركيب القسري للعدادات حتى يتم إصلاح هذا النظام الفاسد.
تماماً مثلما استنتجت المؤسسات الإنسانية التي أعمل معها، أن من يستخدمون العدادات المسبقة الدفع تتم جباية سعر أعلى عبرها مقابل كل وحدة من الطاقة المستهلكة [مقارنة بغيرها من العدادات]. وحتى في تلك الحال فإن 20 في المئة منهم لم يتمكنوا من الاستفادة أو الحصول على التعويضات الحكومية عبر الحسومات على الفواتير أو نقداً كما وعدوا بها رسمياً، وولد هذا التقصير في التحرك مشكلة طوارئ اجتماعية أكثر خطورة بالنسبة إلى المواطنين المعوزين، ودفعهم أكثر إلى الغرق في الديون وما هو أسوأ من ذلك دفعهم إلى أن يصبحوا ضحية المتاجرين بالقروض غير الشرعية.
وهيئة “أوفجيم” Ofgem الرقابية لم تكن وحيدة في عجزها عن حماية ذوي الدخل المنخفض من العائلات في مواجهة ما يصعب حمايتهم منه. وعبر كل الدوائر الحكومية ووكالاتها، أدت السياسات القاسية والشنيعة إلى تحويل وكالات الدين غير الشرعية “حيتان القروض” loan sharks، إلى إحدى أكثر المصالح التجارية ازدهاراً في أوساط شرائح المجتمع المتواضعة الدخل.
وكان لقرار وزارة العمل والتقاعد، مواصلة فرض إجراءات عقابية متتالية مثل “قانون ضريبة عدد غرف النوم” وقاعدة الطفلين [قصر المساعدات الحكومية على طفلين مع استثناءات بسيطة] ووضع سقف على التعويضات [للعاطلين من العمل أو ذوي الدخل المحدود] والإجراءات الاحتيالية التي تتعلق بعدم تقديم ما يكفي من الدعم لمساعدة الأسر في دفع إيجارات منازلها، فإن الوزراء يقومون من خلال ذلك بترك العائلات غير قادرة على تحمل كلف ومصاريف توفير الغذاء الأسبوعية من دون اللجوء إلى الاستدانة من أي مكان يمنحهم الأموال نقداً. إن شبكة الأمان الاجتماعي الحكومية باتت مليئة بالثقوب، وبدلاً من كونها الخط الدفاعي الأخير للأشخاص المحتاجين، باتت وزارة الضمان الاجتماعي البريطانية تدفع العائلات نحو اللجوء إلى حلول بائسة.
إن “حيتان القروض” غير الشرعيين يتصيدون على بؤس المعوزين ومعاناتهم. فعدد قياسي من العائلات غارقة اليوم في الديون إلى درجة تدفعهم إلى الاعتماد على ما يعرف “بموفري القروض على عتبات المنازل” [خدمة القروض السريعة بفوائد عالية] door-step lender، وآخرون يعرفون محلياً “بموفري القروض حتى يوم الحصول على المرتبات” pay-day lender الذين يقفون عادة خارج محال بيع السلع بأسعار اقتصادية، أو خارج الحانات ومحال المراهنة. وحتى إن ما يقلق أكثر من ذلك وفيما تنتقل عملية توفير القروض إلى الانتشار على مواقع الإنترنت، فإن المحتاجين يصبحون أكثر عرضة للخطر، طالما أن مواقع التواصل هذه، تبقى معفية من أي عمليات تنظيم ومساءلة حقيقية.
وتظهر تقديرات كل من “مركز السعي إلى العدالة الاجتماعية” Centre for Social Justice و”خدمة تسجيل المحتاجين” Vulnerability Registration Service، عدداً صادماً من العائلات يبلغ تعدادها 1.08 مليون عائلة و1.2 مليون عائلة لكل من المؤسستين التي أصبحت تحت رحمة مخالب موفري القروض غير الشرعيين “حيتان القروض”، وهو عدد يقدر بأربعة أضعاف آخر التقديرات الحكومية التي كانت تضع هذا الرقم عند 310 آلاف عائلة.
بالطبع، وحتى رقم 1.2 مليون عائلة قد يبدو في حد ذاته رقماً لا يعكس النسبة الحقيقية على أرض الواقع، فآخر مسح أجري في شهر يناير (كانون الثاني) بواسطة استطلاع نظمته هيئة الإذاعة البريطانية أكد أن خمسة في المئة من المواطنين يلجأون حالياً إلى الاقتراض بهذه الطريقة، ويشير الاستطلاع إلى أن من وقعوا ضحية هذا النوع من التعاملات المالية من قبل “حيتان القروض”، ربما وصل إلى ما نسبته 1.4 مليون عائلة. وهذه الأرقام مرشحة للارتفاع. فهي تشكل فقط النصف من حوالى 3 ملايين عائلة في بريطانيا تم وضعها في خانة العائلات غير القادرة على تدفئة منازلها، وفيما تتزايد الضغوط عليهم من أجل دفع فواتيرهم، خصوصاً في فترة ما بعد أعياد الميلاد التي ربما تراكمت خلالها، فإن كثيرين مهددون بالوقوع في براثن أسوأ المقرضين غير الشرعيين وأكثرهم قسوة.
واعتاد “حيتان القروض” على التسكع في الأزقة الخلفية للأحياء حيث تعيش الشرائح الاجتماعية الأفقر في البلاد. لكن اليوم بات هؤلاء يحومون حول الأهل البائسين، ويفرضون فوائد خيالية التي من المعروف أنها يمكن أن تصل إلى ما نسبته 130 ألفاً في المئة، وهم قادرون على زيادة تهديداتهم لغير المحصنين عندما يفشلون في الوفاء بدفع الأقساط، وهو ما يؤدي إلى دوامة تصاعدية من الديون والبؤس. إذا لم نتحرك، فسيؤدي هذا قريباً إلى الفقر المدقع لآلاف أخرى من العائلات الفقيرة.
توضح الأرقام الخاصة بالمبلغ الإجمالي للمديونية الصورة المتفاقمة التي رأيتها بنفسي في مجتمعاتي المحلية. في نهاية الصيف الماضي، بلغ حجم الديون ذات الفوائد العالية للغاية والمسجلة على ذوي الدخل المحدود ما مجموعه 3.5 مليار جنيه استرليني (4.2 مليار دولار) أي أكثر من ألف جنيه استرليني (1200 دولار) لكل مقترض. في شهر ديسمبر (كانون الأول)، ارتفعت تلك الديون إلى 4.6 مليار جنيه استرليني (5.5 مليار دولار)، أي بارتفاع قدره أكثر من 30 في المئة.
وأفادت دراسات معمقة أكثر أجراها مركز العدالة الاجتماعية بأن أربعة من كل خمسة مديونين يحاولون أن يستدينوا من مؤسسات شرعية، قبل أن يلجأوا إلى “حيتان القروض”، ولكن مؤسسة “فير باي ديزاين” Fair by Design، تظهر أن العائلات من ذوي الدخل المحدود تعاني في الأساس من شروط قاسية عندما تحاول الاستفادة من قروض متاحة في الأسواق المالية العادية. فأي بطاقة ائتمانية من الفئة المخصصة للمتعثرين مالياً تكلف صاحبها 200 جنيه استرليني (240 دولاراً) أكثر في السنة من بطاقات الائتمان العادية، أما القروض النقدية الخاصة بالأفراد، فإنها تكلف 500 جنيه استرليني سنوياً (600 دولار).
إذاً، وبعدما يعانون رفض المصارف وجمعيات البناء building society [مؤسسة مالية مملوكة من قبل أعضائها باعتبارها منظمة مشتركة توفر قروض الادخار والرهون العقارية] طلباتهم، يلجأ الناس اليائسون إلى “حيتان القروض” وبعدها تكر سبحة مستحقات مغشوشة للفوائد على دفعات تواصل ارتفاعها، فيما العائلات تتعثر وتصبح غير قادرة على دفع إيجارات البيوت وفواتير الاتصالات، وبالطبع فواتير التدفئة والوقود.
إن اللجوء إلى الاقتراض لا يعني في كل الأحوال السماح للعائلات بالنجاح في الوفاء بمصاريف فواتيرهم العادية من إيجار وفواتير الخدمات من كهرباء وغاز ومشترياتهم العادية. فهم بالتأكيد يكونون مديونين لعدد من الدائنين أصلاً، مثل الجهات المسؤولة عن توفير السكن الاجتماعي في بلدية منطقتهم، إضافة إلى وزارة العمل والتقاعد، ومؤسسات الطاقة، وأيضاً إلى “حيتان القروض”. قبل عام، كان حجم المتعثرين في سداد هذا النوع من الفواتير يبلغ 33 في المئة، أو ما يعادل 3.8 مليون منزل. حالياً تقف تلك الأرقام عند 4.6 مليون منزل، وبحسب الأرقام الأخيرة هناك أكثر مما معدله 500 جنيه استرليني (600 دولار) تراكمت عن كل منزل في بريطانيا كمتوسط ديون للبلدية، وما معدله 440 جنيهاً استرلينياً (530 دولاراً) عن كل منزل لمصلحة المياه، و410 جنيهات استرلينية (495 دولاراً) فواتير طاقة. إن نصف 4.6 مليون منزل تخلفوا أيضاً عن الوفاء بثلاثة أو أربعة أنواع من الديون، لذلك فهم مهددون بشكل أكبر بالسقوط في فخ مقدمي القروض السهلة.
وهكذا فإن حلقة موت شنيعة تتكون. يلجأ الناس عادة إلى طلب قرض عالي الكلفة لدفع معظم الفواتير المستحقة ما عدا واحدة أخيرة، ثم وفيما تكون نسبة الفائدة المستحقة على قرض “حيتان القروض” ارتفعت من جديد، فإنهم يسقطون مجدداً في فخ الدين ويتعثرون ويعجزون عن دفع فواتيرهم الجديدة.
كل ذلك يمكن أن يكون له تأثير مدمر على الحياة العائلية. وكما يقول تقرير مركز العدالة الاجتماعية “لقد أثارت مخاوفنا حالات عدة كنا لاحظناها حيث قام موفرو قروض غير شرعيين بالطلب من المديونين دعم ’تجارة‘ موفري القروض الأخرى، من خلال توزيع المخدرات، أو أن يجبرون على البحث عن طالبي قروض جدد. في حالات أخرى، لقد تم طلب الحصول على خدمات جنسية [في مقابل دفعة القرض المتعثر]، حتى إن أحد حيتان القروض قام بكتابة شرط الخدمات الجنسية في ’عقد توفير الدين‘ [في حال التخلف]”.
إن “فريق إنجلترا لمكافحة موفري القروض غير الشرعية” England Illegal Money Lending Team ينشط في تحذيرنا عن رصد عدد كبير من القضايا من مثل هذه الحالات في مدينة مانشستر ومنطقة لانكشير وميرسي سايد، وأيضاً في ميدلاندز. الشرطة من ناحيتها أيضاً كانت أصدرت تحذيرات بأن آلاف العائلات تواجه حالياً “خليطاً من الديون” التي من الممكن أن تتزايد وتخرج عن السيطرة إذا عجزت السلطات عن القيام بأي تدبير حيالها. حالياً، لا بد من زيادة نسبة التحذير من التهديدات التي يشكلها “حيتان القروض” من كافة الوكالات الرسمية المعنية بفقر العائلات.
هناك بالطبع مسار أفضل يمكن التوصية في اتباعه. فما يقارب من 1.5 من أبناء العائلات يستخدمون تعاونيات مالية وعلينا أن نسهل عملية انضمام الناس إلى تلك البرامج.
وكي نتفادى أن تصبح العائلات تحت رحمة “حيتان القروض”، على وزارة العمل والتقاعد البريطانية أن تعيد النظر في دورها كونها أكبر وكالة لجمع الديون في البلاد. فعليها أن تخفض من حجم شروط الدفع، والمهل الممنوحة المفروضة على حوالى مليونين من المستفيدين من المساعدات الاجتماعية حالياً والخاضعة لاقتطاعات على قروضهم التي كانوا حصلوا عليها عندما انضموا إلى برنامج “الائتمان الشامل” (يونيفرسال كريديت) universal credit [برنامج مساعدات حكومية للأكثر عوزاً].
وفيما تواصل فواتير التدفئة وفواتير الغذاء في الارتفاع، إذاً على وزارة العمل والتقاعد أن تخفض، ولمرحلة أن تعلق الجبايات المستحقة على التعويضات الممنوحة. حالياً قد تصل هذه المستحقات إلى ما نسبته 30 في المئة من الأقساط الشهرية، وهو ما يدفع المستفيدين إلى اللجوء إلى “حيتان القروض”. كما يجب إعادة النظر أيضاً في قساوة نظام العقوبات. إن العقوبات قد تصل إلى ما يساوي 11 جنيهاً استرلينياً في اليوم، وعندما زادت نسبة العقوبات بثلاثة أضعاف في ثلاث سنوات إلى 115 ألفاً وهي من المتوقع أن ترتفع من جديد، فلا بد من طرح الأسئلة.
إن الأحكام القضائية المفروضة على موفري القروض غير الشرعيين لا بد من تغليظها وفق التوصيات التي أعلنها “فريق إنجلترا لمكافحة موفري القروض غير الشرعية”. ولا بد من إدخال تعديلات على قانون الحماية على الإنترنت الجديد الذي يحاسب مواقع التواصل الاجتماعي على مسؤولية اكتشاف وحظر “حيتان القروض” من على تلك المنصات.
الشتاء البريطاني الذي بدأ مع تزايد أسعار الغذاء وفواتير الطاقة لا يجب أن ينتهي باستغلال المجرمين لبؤس الملايين. تماماً كما هي مسؤولية الحكومة أن تضمن توفير الجهات الناظمة والموظفين الرسميين الخدمات لعامة للشعب، أيضاً على الحكومة أن تضمن أنه لن يتوافر مكان للاختباء فيه لمن يخرق القوانين وللذين يضاعفون نسبة البؤس الذي تواجهه العائلات المهمشة.
* المصدر : الاندبندنت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع