بثينة شعبان*

حين سمعت الرسالة الصوتيّة للأسيرات العربيات الواقعات تحت ظلم أبشع احتلال عنصري في القرن الواحد والعشرين، شعرت بالحرج والخجل كامرأة عربيّة تسمع أخواتها يتساءلن بحق: “من سينتصر لنا ويلقّن العدوّ درساً يتعلّم منه ألا يتطاول علينا”، “أين من يحرّرنا بعد أن وقعنا في الأسر لقيامنا بتأدية واجبنا تجاه الوطن”.

كم هو مؤلم هذا النداء لهنّ ولكلّ مؤمن بقضيته وضرورة الانتصار لها، وكم هو مخجل أن الأسرى فقط هم الذين انتصروا للأسيرات وهم جميعاً مكبّلون بالأصفاد وواقعون تحت براثن ظلم كيان مبنيّ على أساس عقيدة مشبعة بالكراهية والأحقاد والعنف والإرهاب والتطرّف التي لا مثيل لها في عصرنا الراهن. وهل تحوّل الأسرى والأسيرات اليوم إلى الأحرار الوحيدين في ضمائرهم ووجدانهم المدافعين عن الأوطان والمقدّسات، بينما الآخرون يضيّعون وقتهم فيما أسموه “وساطات” بين القاتل والضحيّة وبين السّجان والسجين أو بالحديث عن وحدة صفٍّ كان يجب أن تكون أولى بديهيّات العمل المقاوم والوقوف في وجه الأعداء.

حين رأيت الأسير كريم يونس يتحدث بعد أربعين عاماً من سجنه ويقول: “لقد خرجت إلى عالم مختلف تماماً عن العالم الذي غادرته منذ أربعين عاماً”. فكّرت في نفسي من يعيد له الأربعين عاماً التي اقتطعها الصهاينة الأغراب من عمره وشبابه؟ ولا شك أنه ليس بحاجة إلى إعادتها حين يرى إخوانه يحملون الراية ويكملون المسير. ولكنّ قضية الأسرى والأسيرات اليوم هي قضية عربية إنسانية بامتياز ولا يعقل ألا تكون مثل هذه القضية النبيلة في أعلى سلّم أولويات أصحاب الضمائر الحرّة في هذه الأمة وفي العالم بأسره.

صحيح أن الغرب الاستعماري الحاقد على الأمة العربية متواطئ إلى درجة التماهي مع الكيان الصهيوني، لكن هناك البعض من أحرار الشعوب في الغرب ودول أخرى في العالم مستعدّ للانضمام إلى العمل من أجل رفع الظلم الصهيوني عن الأسرى ومن أجل وضع حد لهذا الاحتلال العنصري البغيض عن كل الأرض العربية المقدّسة التي دنّستها قدماه. ولكن علينا جميعاً أن نحمل هذه القضية بصدق وإصرار، ولا شك أنها قادرة على جذب أنظار العالم تماماً كما فعل نيلسون مانديلا ورفاقه حين حملوا قضيتهم إلى الضمير الإنساني في كل مكان.

الانتصار لهؤلاء الأسرى والأسيرات فرض عين على كل مؤمن بالله تعالى وبتعاليمه وبقضية فلسطين وبضرورة إزالة هذا الاحتلال الغاشم الذي ينتهك الأرض والمقدسات وحياة البشر كل يوم، ويصدر القوانين العنصرية الآثمة لتهجير السكان الأصليين وحرمانهم من أرضهم وديارهم. هؤلاء الأسيرات والأسرى هم الشهداء الأحياء المؤمنون بالأرض والمقدّسات وعلى كل مؤمن بالله ورسله الانتصار لهم بكل الوسائل الممكنة. قال الله عزّ وجل في كتابه الكريم: “ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً” (النساء 69).

لماذا رفع الله سبحانه وتعالى الشهداء إلى مرتبة الأنبياء والصديقين والصالحين والذين هم الأسمى والأرفع مكانة عند الله عزّ وجلّ؟ لأن الشهادة في سبيل الله قضية نبيلة تمثّل أعلى درجات الإيمان والتضحية والتفاني في سبيل إحقاق الحق أو رفع ظلم والانتصار لمظلوم أو مقاومة عدوان سافر على كرامة البشر أو حياتهم أو ممتلكاتهم. ولكنّ هؤلاء الشهداء الذين يضعون الأوطان والمقدسات فوق كل اعتبار يجب ألا تذهب تضحياتهم سدى بل يجب أن تبقى قضيتهم حيّة على أيدي المؤمنين بهذه القضية من بعدهم. ولهذا فإن وعد الله للشهداء هو بشرى لهم ولكلّ من يحمل قضيته بصدق وإخلاص ويضحّي حتى بحياته في سبيلها.

والأمر ذاته ينطبق على هؤلاء الشهداء الأحياء الأسيرات والأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي البغيض والذين وضعوا الوطن والمقدّسات فوق كل اعتبار ومضوا في جهادهم. فهل من المعقول أن يُتركوا وشأنهم وهم مكبّلون بالأصفاد ويقعون ضحيّة عدوان آثم مهين؟ وهل من المعقول لأمة آمنت بالله ورسله أن تخذل هؤلاء وهم بأمسّ الحاجة إلى المساندة والمؤازرة؟

حين أسر الاحتلال الفرنسي بطلة المقاومة الجزائرية جميلة بوحيرد صدحت لها حناجر العرب من المغرب إلى العراق وزُرع اسمها في قلب وضمير كل عربي إلى أن انتصرت الجزائر على الاحتلال وتحرّرت من براثنه. فأين نحن اليوم من الأسيرة ياسمين شعبان وأخواتها ومن كل الأسرى المؤمنين الصابرين المضحّين بكل ما أوتوا من قوة من أجل الوطن وأبناء الوطن حاضراً ومستقبلاً؟

ولمن يشك بجدوى تضحيات هؤلاء وجدوى مسيرتهم النضالية المشرّفة والظافرة كما فعل البعض بعد العملية الاستشهادية في القدس أحيله إلى التقييم الاستراتيجي المقدّم مؤخّراً من معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) إلى رئيس الكيان الصهيوني والذي يعتبر التهديد الأكثر إلحاحاً “لإسرائيل” في عام 2023 هو التصعيد المقاوم في الساحة الفلسطينية الناجم عن تصاعد عمليات المقاومة المسلحة الفلسطينية داخل المدن والمخيمات رغم الفارق الهائل في التسليح بين العدو المدجّج بالأسلحة الأميركية وبين مقاومين يقاتلون بالأسلحة الخفيفة في جنين ونابلس وأريحا.

هؤلاء الذين يواجهون العدو بلحمهم الحي وبأياديهم المكبّلة بالأصفاد تمكّنوا من أن يشكّلوا التهديد الأول والأخطر لكيان آثم مهزوز، فماذا يحدث لو تلاحمت القوى الفلسطينية والعربية الشريفة في مواجهة هذا الكيان الغاصب المعتدي المعبّأ بالكراهية للعرب مهما طبّعوا معه؟ وأين الذين يدّعون الالتزام بدين الإسلام وتعاليمه من قول الله عزّ وجل “إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيان مرصوص” (الصف 4)؟

إن وحدة الصفوف في وجه الأعداء والانتصار للمقاومين والمضحّين في سبيل قضاياهم واجب كل إنسان مؤمن بالله والأرض والوطن، وأول واجب أمامنا جميعاً هو أن نقف في وجه من يحاولون خلط الأوراق والمفاهيم وبثّ اليأس في النفوس متجاهلين الدروس الأكيدة التي أثبتها التاريخ والإنسان مراراً وتكراراً والتي يجب أن تشكّل القاعدة والبوصلة، وليس ما يتم نشره عمداً من خلال إعلام يتحكّم به الأعداء بكل مفاصله وسرديّاته.

إنّ نداء الأسيرات المؤلم والجارح لا يدلّ فقط على سوء الأوضاع البشعة والمعاملة الصهيونية القذرة من قبل جنود الاحتلال المجرمين، ولكنّه أيضاً دليل على حالة الترهّل والخدر التي وصلت إليها بعض حكومات هذه الأمة التي خصّها الله عزّ وجل بكثير من التكريم بلغتها وكتابها الكريم. وهي حال إضافة إلى أنها مخجلة فعلاً يجب أن تدقّ ناقوس الخطر حول المستقبل الذي ينتظر جميع قضايانا وينتظر المؤمنين بهذه القضايا.

فهل يمكن أن تكون القضية الفلسطينية الشرارة التي يمكن أن تعيد رصّ صفوف الشرفاء والمؤمنين واجتراح آليات عمل لإعادة الاعتبار للغتنا ومقدساتنا ومناضلينا، وبالنتيجة لأنفسنا وأجيال المستقبل؟  قد تبدو المهمة صعبة أو مستحيلة في ضوء الواقع الرسمي العربي المتردّي والمترهّل اليوم، ولكنّ مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ودروس التاريخ تُنبئنا أنه لا يموت حق وراءه مقاوم ومدافع، وأن النصر حليف الصادقين والمؤمنين بقضاياهم والمدافعين عنها.

طوبى للأسيرات والأسرى وللمقاومين في فلسطين والجولان العربي السوري وفي كلّ بقعة وكلّ مكان وطوبى لكل نفس أبيّة قرّرت عدم السكوت عن الحق وعدم الخوف وقرّرت التصدي للشرّ الغربي الصهيوني سرّاً وعلانية ولينصرنّ الله من ينصره.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع