د. علي دربج*

من المتعارف عليه في العمل الدبلوماسي والدولي أن الشخصيات التي توكل اليها مناصب رسمية أو قيادية سواء داخل الدولة أو خارجها يجب أن تتحلى بصفات تجمع بين المسؤولية والرصانة والاتزان والدبلوماسية والحنكة والأدب والاحترام سواء خلال التعامل مع الآخرين أو حتى عند كتابة مذكراتها.

هذا على صعيد القواعد النظرية. أما على أرض الواقع، فالأمر يبدو في كثير من الحالات مختلفًا ومتناقضًا تمامًا عندما نتحدث عن المسؤولين الأميركيين. ولنا عبرة في هذا المجال بالمرشح الرئاسي المستقبلي للولايات المتحدة، وزير الخارجية السابق مايك بومبيو الذي لجأ في كتابه الجديد إلى استخدام لغة سوقية شوارعية تجاه كل من كان يعارضه أو ينتقده من وسائل الإعلام أثناء تولّيه منصب رئاسة دبلوماسية أمريكا، في انعكاس واضح لمستواه المتدني البعيد كل البعد عن مزايا الدبلوماسيين ممن يفترض أنهم واجهة بلدهم.

 علامَ احتوى الكتاب الجديد لبومبيو؟

كشّر وزير الخارجية الأمريكي السابق عن أنيابه في كتابه تحت عنوان “لا تعطِ شبرًا: القتال من أجل أمريكا التي أحبها” -كان نُشر يوم الثلاثاء الماضي 17 الجاري ويُفترض أنه مقدمة لخوض انتخابات الرئاسة (عن الحزب الجمهوري) لعام 2024 – بعدما سخِر من فكرة أن السعودي جمال خاشقجي كاتب عمود في صحيفة “واشنطن بوست” (الذي قُتل بوحشية عام 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول) كان صحفيًا.

والأنكى أنه بدلاً من التصرف كزعيم للدبلوماسية الأمريكية التي يمثلها، أبدى بومبيو تعاطفه مع القاتل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والمدان -بحسب تقرير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الـ CIA- بإعطاء أمر باغتيال خاشقجي. زد على ذلك، دفاعه المستميت عن علاقة الولايات المتحدة بالسعودية.

أما الطامة الكبرى، فهي أن بومبيو لم يخف إعجابه بولي العهد السعودي فقط، بل أغدق عليه عبارات الثناء المديح والتبجيل والتفخيم عبر قوله “اليسار التقدمي يكره محمد بن سلمان على الرغم من حقيقة أنه يقود أكبر إصلاح ثقافي في تاريخ المملكة. سيثبت أنه أحد أهم القادة في عصره وشخصيّة تاريخيّة حقًا على المسرح العالمي”.

ليس هذا فحسب، كشف بومبيو في إحدى صفحات الكتاب أنه شعر هو والرئيس السابق دونالد ترامب بأنهما أنقذا ولي العهد من ورطته خلال أزمة خاشقجي، مستذكرًا أن الرئيس آنذاك طلب منه الذهاب إلى المملكة، وأنه كان أول مسؤول غربي يرى محمد بن سلمان منذ مقتل خاشقجي.

وكتب بومبيو: “مثلما قضت وسائل الإعلام سنوات، في محاولة دق إسفين بيني وبين الرئيس ترامب، أمضوا الأسابيع التالية في محاولة تفكيك علاقة أمريكا بالسعودية”.

اللافت أن بومبيو لم يكتف بوصف موت خاشقجي بـ”الحادث القبيح” وليس “الجريمة” كما فعل العالم أجمع، لكن ما يثير الصدمة أن القتل بحد ذاته لم يكن مفاجئًا له وفق تعبيره، ولهذه الغاية عمد الى تسخيف رواية تقطيع الضحية بالمنشار، فضلًا عن تكذيبه تقرير الـ CIA مشيرًا إلى أنه “على عكس ما تم الإبلاغ عنه لا توجد معلومات استخباراتية تقريبًا تربط محمد بن سلمان مباشرة بالأمر بالقتل”.

وتابع بومبيو “التقيت بالعديد من الأشخاص الذين أمروا بالقتل. إذا تم إثبات أن ابن سلمان قد أمر بهذا الأمر فهذا يعني أن هذا النوع من القسوة كان روتينيًا للغاية في هذا الجزء من العالم”. كما ذهب بومبيو أبعد من ذلك في استهزائه هذا عبر اشادته بقرار ترامب عدم معاقبة ولي العهد. أكثر من ذلك، مضى بومبيو في تشويه سمعة خاشقجي المقتول باعتباره “ناشطًا” وليس صحفيًا موضحًا أنه “دعم الفريق الخاسر في معركة أخيرة على العرش.

وفي الإطار ذاته، ادعى وزير الخارجية السابق في كتابه أن خاشقجي كان “على علاقة جيدة مع جماعة الإخوان المسلمين الداعمة للإرهاب”، وهي تهمة نفتها أسرة خاشقجي ــ وخاشقجي نفسه عندما كان على قيد الحياة ـــ مرارًا وتكرارًا.

ماذا عن اللغة الشوارعية التي استخدمها بومبيو في كتابه؟

في الحقيقة، لم يتوقف بومبيو عند الدفاع عن ابن سلمان والمبالغة والمغالاة في كسب ودّ الأخير غير أن المخزي هو العبارات المبتذلة التي ميزت بعضًا من سطور كتابه، وطبعت شخصيته كفاقد لآداب التخاطب، وهو ما ظهر في كلماته الشهرية التالية:

“في بعض النواحي أعتقد أن الرئيس كان يغار من أنني كنت من أعطى الوسطى لصحيفة “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” والآخرين الذين يبللون الفراش وليس لديهم سلطة في الواقع”. وكشف أن ترامب قال له “مرحبًا مايك، اذهب واستمتع بوقتك. قل لابن سلمان إنه مدين لنا”.

المفاجأة أن كلام بومبيو لم يمرّ مرور الكرام لدى الصحافة الأمريكية، إذ لاقى ردًا عنيفًا وصاعقًا من صحيفة “واشنطن بوست” التي ردّت له الصاع صاعين قائلة “هذه هي لغة الشارع القاسي، وليست لغة زعيم أمة تقوم على سيادة القانون”. وأضافت “يقدم السيد بومبيو حجة واهية وجاهلة مفادها أن الشرق الأوسط منطقة صعبة”.

في المحصلة، يرى عدد من النخب الإعلامية الأمريكية أن ما أقدم عليه بومبيو من محاباة للسعودية، ومحاولته تلميع صورة ابن سلمان، وتبرئته من جريمة أجمع عليها أغلبية الشعب الأمريكي وكافة دولة العالم (إلا قلة قليلة)، لا يخرج عن كونه خطوة دنيئة لجأ إليها لبيع كتابه الفائض بالأكاذيب على ذمة صحافة بلاده.

* المصدر: موقع العهد الاخباري

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع