لماذا ينبغي إعادة النظر بقراءة استعمار فلسطين؟
قاسم عز الدين
قراءات عديدة متباينة في الغرب والشرق وفي دولة الاحتلال، عن أسباب استعمار فلسطين وأهدافه. لكنها تتقاطع فيما بينها على قاعدة واحدة مقلوبة على رأسها، ترى أن الحركة الصهيونية اليهودية أسّست استعمار فلسطين، وأن الدول الاستعمارية التوسّعية قدّمت الدعم، ولا تزال تقدّمه أسيرة “سيطرة الصهيونية العالمية”.
هذه القراءة تعزّز في “الكيان الصهيوني” “عظمة الآباء المؤسسين”، وتدفع إلى اتخاذهم أمثولة صهيونية خارقة قادرة على “تحقيق المعجزات”، بفرض انصياع الدول الغربية و”المجتمع الدولي”، إلى ما تقرّره الصهيونية اليهودية في فلسطين والعالم، إذا رغبت الدول الغربية والشرقية أم لم ترغب.
تعزّز في الدول الغربية الإجماع على أن وجود “الكيان الغاصب” هو نتيجة جهود اليهود لحل “المسألة اليهودية” في أوروبا، فيدعو المتعاطفون مع القضية الفلسطينية إلى الضغط للتعايش السلمي مع الفلسطينيين في وهم “إسرائيل العلمانية الديمقراطية”، بينما يسعى المناوئون الغربيون للقضية الفلسطينية إلى مزيد من ابتزاز “المجتمع الدولي” للتعويض عن “العداء للسامية والهولكوست” وتكريس الاحتلال دولة يهودية توراتية على “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
في بلادنا يأخذ اعتبار الحركة الصهيونية اليهودية، أساس استعمار فلسطين وبقائه، مناحي متضاربَة:
أ- الحركة الوطنية الفلسطينية والعربية التي حملت لواء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة عام 67 بشكل خاص، أدّى المطاف بقسمها الأكبر إلى المراهنة على وخزة ضمير الدول الغربية و”المجتمع الدولي”، في الضغط على “الكيان الصهيوني” من أجل “السلام” وإنشاء دولة فلسطينية.
وتأخذ هذه المراهنة أشكالاً متفاوتة، منها المراهنة على “المجتمع الدولي” في اقتباس تجربة إزالة الفصل العنصري (الأبارتيد) في روديسيا وجنوب أفريقيا، حين قاطعت دول “المجتمع الدولي” أنظمة “أفريقيا البيضاء” العنصرية إثر المجازر وعظمة نضال الأفارقة في سياق حركات التحرّر، ما أدّى إلى انهيارها وطردها من الأمم المتحدة عام 1990.
لكنّ حماية الدول الغربية و”المجتمع الدولي” لاستمرار المجازر الإسرائيلية بدعوى “حق الدفاع عن النفس”، بعد تطويب الاحتلال “دولة ديمقراطية وحيدة في الشرق الأوسط”، يبرهن على أن مشروع تأسيس “الكيان الصهيوني” وتأبيد الاحتلال، يقوم على التطهير العرقي وإحلال المستوطنين الأوروبيين محل السكان الأصليين.
وما سبحة “المجتمع الدولي” في “السلام” وحلّ الدولتين سوى تجميل لفظي لتمرير الفعل العملي في سياسات المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى. والمقاربة الأقرب إلى المقارنة الواقعية هي مشاريع إحلال المستوطنين الأوروبيين في أميركا الشمالية وكندا وأستراليا… محل السكان الأصليين وإبادتهم، وليس مشاريع المستوطنات البيضاء الاستعمارية، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية التي أنشأتها الدول الأوروبية ثم تراجعت عن حماية بقائها.
لقد كانت هذه المستوطنات استعماراً أوروبياً مباشراً مكشوفاً أدّى إلى تصفيتها كباقي الاستعمار المباشر في عالم الجنوب. لكن تغطية الاستعمار الأوروبي في فلسطين بغطاء الصهيونية اليهودية، يضعه في مصافي استعمار الأوروبيين البيض لأميركا الشمالية وكندا… المستقلّة عن أمهاتها.
ب – بعض الحكومات العربية والإسلامية (منها تركيا إردوغان)، وتيارات الإسلام السياسي التي تتخيّل احتلال فلسطين صراعاً دينياً وعرقياً بين اليهود والمسلمين، لا تزال تراهن على إمكانية استمالة أميركا ودول مجتمعها الدولي، إذا وطّدت مصالحها مع حلفائها الطبيعيين من الحكّام العرب والمسلمين، بهدف تخليص “الدول المتحضّرة” من عقدة الذنب المتخيّلة ومن سحر اللوبيات اليهودية.
ولم ينقص هذا البعض أكثر من خطوة واحدة للانتقال من معتقدات نصف صهيونية، في الانخراط مع “الشرعية الدولية” بدعم الاستيطان اليهودي على نصف فلسطين في “عملية السلام”، إلى معتقدات صهيونية كاملة مع أميركا في معركة الأسرلَة لتسييد “الكيان الصهيوني” في المنطقة ودعم استمرارية إبادة الشعب الفلسطيني، بذريعة “السلام بين الأديان” والتحالف بين أبناء العمومة وأتباع الديانة الإبراهيمية الجامعة.
في هذا السياق تتعرّض حركات المقاومة الإسلامية التي تغلّب العامل الديني اليهودي في احتلال فلسطين، على عامل المصالح الاستراتيجية لدول “المجتمع الدولي”، إلى تحمّل جزء من أعباء “المسألة اليهودية” الثقيلة الوقع التاريخي في الدول الغربية وروسيا وأوروبا الشرقية والوسطى، نتيجة اضطهاد اليهود في بلدانهم الأصلية، لأسباب عنصرية دينية بدأتها الإمبراطوريات الملكية وكنائسها الغربية والشرقية، وتلاحقت موجاتها ضد اليهود والعرب والمسلمين والأفارقة وشعوب الشرق والجنوب.
وباتت تتجشّم حركات المقاومة الإسلامية اليوم، إلى جانب ثقل “المسألة اليهودية” التاريخي (الحرب الأيديولوجية الغربية، ومجتمعها الدولي، في اللاسامية والهولوكوست)، أعباء “صهينة” أنظمة عربية وإسلامية وأتباعها، في حروب المعتقدات الدينية وفي “حوار الأديان” وسلامها.
ولم تعرف المناطق العربية والإسلامية وعالم الجنوب حالاً من هذه العنصرية الدينية الأوروبية طوال تاريخها، أو حالاً من عنصرية العرق الأبيض والمركزَة الأوروبية المتمحورة على غرائز أحشائها. فتعايش الأقليات في المناطق العربية-الإسلامية شابَهُ اضطهاد وتنكيل، إنما لم تصل حدودها إلى إبادة وتهجير ديني جماعي بهدف فرض إيمان السلطة الحاكمة.
فالثقافة العربية والإسلامية حفظت وجود أقليات دينية وإثنية-عرقية يعود تاريخها إلى ما قبل الأديان التوحيدية كالأزيدية والزرداشتية وغيرها، التي أُبيدت شبيهاتها في أوروبا. ووقع العرب المسيحيون والمسلمون واليهود، ضحية العنصرية الأوروبية البيضاء الدينية والسياسية معاً، منذ الغزو الصليبي ومحاكم التفتيش في إسبانيا “الأندلس”، حتى الاستعمار الأوروبي واحتلال بلدانهم، وصولاً إلى استيطان فلسطين وتهجير اليهود العرب من بلدانهم، الذي لم يخلُ من عمليات إجرامية إرهابية. (العراق نموذجاً)
ولم يبرز صخب كراهية الشعوب العربية والإسلامية لليهودية الدينية، إلّا نتيجة استخدام الدول الأوروبية الحركة الصهيونية اليهودية حصان طروادة لتأسيس استعمار فلسطين، واستخدام تهجير المستوطنين الأوروبيين اليهود في احتلالها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية والـ 48، ولا سيما في إثر تمدّد “الدولة اليهودية” بالحرب عام 67.
صنيعة بريطانيا ودول “عصبة الأمم”
العمل الموسوعي الضخم لفريق الدكتور عبد الوهاب المسيري، “اليهود، اليهودية والصهيونية، 8 مجلدات 1999” يبرهن الحقائق التاريخية بأن غالبية اليهود العظمى لم تكن ترغب بالاستيطان في فلسطين على الرغم من معتقداتها التوراتية الخرافية. وأن الحركة الصهيونية نتاج غربي غير ديني على الأعمّ، لكنه يعتقد أنها قوة سحرية قائمة بذاتها، تتقاطع في مشروعها لتهجير اليهود بتلبية احتياجات أوروبا، في التخلّص من السكان، بحسب نظرته.
يظن أن تهجير اليهود من أوروبا إلى استيطانهم في فلسطين، شبيه بتهجير السكان الأوروبيين إلى المستوطنات “البيضاء” في أفريقيا وأميركا اللاتينية، “للتخلّص من فائض السكان”، كما يرى. (عدد السكان اليهود في ألمانيا وكل أوروبا الغربية عام 1918 بعد الحرب الأولى، أقل من 2,5 مليون نسمة مع المهجّرين من روسيا وأوروبا الشرقية والوسطى ابتداء من عام 1880).
لا يستقيم البحث في مقاربة تاريخ الاستعمار والاحتلال والاستيطان، من غير قراءة طبيعة النظام الرأسمالي المبنيّة، في تأسيسها وفي استمراريتها، على التوسّع وأشكال الاستعمار القديم والجديد، وأن تعظيم مصالح الرأسمالية على الدوام، هو الدافع الأساس لإنشاء المستوطنات والغزو والسلب واحتلال الأراضي، أو فرض التبعية السياسية والاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، من أجل السيطرة والنهب. ولا يقوم النظام الرأسمالي ولا يبقى، بغير استراتيجيات، توظّف في خدمة مصالح السطو والسيطرة، أدوات ووكلاء التفتيت والتخريب والسمسرة والمصالح الضيّقة، الأوروبيين والمحليين، للهيمنة على العالم.
القراءة النقدية الموضوعية لتاريخ احتلال فلسطين، تدلّ على أن استراتيجية مصالح الإمبراطوريات الغربية القديمة في تفتيت المنطقة العربية، هي العمود الفقري في تأسيس “دولة قومية يهودية” في فلسطين، في إطار مساعي التوسّع الاستعماري العالمي. وأن استراتيجية مصالح الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية صنعتها في المنطقة العربية ونقلت المستوطنين الغربيين والشرقيين، في إطار تقسيم العالم ودعمه بمؤسسات الأمم المتحدة التي طوّبها المنتصرون في الحرب “شرعية دولية”.
ولا يزال مجرى استراتيجية مصالح الدول التوسّعية القديمة والجديدة في النظام العالمي الحالي وأممه المتحدة، يصبّ في تثبيت الإحلال اليهودي محل السكان الفلسطينيين، محميّة أميركية-دولية برعاية مؤسسات “المجتمع الدولي”، لاستكمال التطهير العرقي وتوسيع احتلال حربي 48 و67.
تحقيق أهداف استراتيجية الدول الاستعمارية على أبواب الحرب العالمية الأولى، استدعى بالإمبراطوريات القديمة البريطانية والفرنسية والقيصرية الروسية وإيطاليا، ثم بدول عصبة الأمم (ومن بعدها أميركا والاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة في إثر الحرب العالمية الثانية) التلطّي خلف صنيعتها الصهيونية اليهودية لتمرير استخدام مستوطنيها الأوروبيين اليهود، ولاستخدام بعض حكّام العرب والمسلمين (ثورة الشريف حسين في الحجاز والشام) في تغطية تهويد فلسطين واحتلال العراق وبلاد الشام وتفتيتها، كما يتم اليوم استخدام أنظمة المطبّعين والمتأسرلين وجماعات “دعاة السلام” العرب والمسلمين لأهداف استراتيجيتها المتجدّدة.
مَن يدعم مَن؟
قراءة الوقائع التاريخية من دون أحكام مسبّقَة، تفقأ الأعين بالبرهنة على أن بريطانيا ودول “التحالف الدولي” القديم (بريطانيا، فرنسا، روسيا القيصرية)، اختلقت “المؤتمر الصهيوني” من لا شيء تقريباً، قبل أن تعدّ “عصبة الأمم” اليهود الأوروبيين لاستيطان فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى عام 1914.
مع تأسيس عصبة الأمم عام 1919 أقرّت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، بزعامة الثلاثة الكبار، ولسون الأميركي، ولويد جورج البريطاني، وكليمنصو الفرنسي، قبل النازية ومعسكرات الاعتقال والموت، “الاعتراف بالشعب اليهودي التاريخي في فلسطين وحقه في إعادة بناء وطنه القومي”، ولم تكن الحركة الصهيونية اليهودية التي أنشأها “تيودور هرتزل وماكس نوردو” في بازل السويسرية عام 1897، ذات بال بين غالبية اليهود في أوروبا الغربية والشرقية وبريطانيا وأميركا وأوروبا الوسطى، طيلة مرحلة الحرب العالمية الأولى. (1900 – 1920)
فقد راهنت أقلية قليلة من المهاجرين اليهود الشرقيين على خدمة مصالح بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية، والانخراط في موجة معاداة اليهودية التي ترى اليهودي الأوروبي عنصر تفجير في المجتمعات الأوروبية المسيحية الغربية والشرقية، ينبغي انتزاعه وإسكانه في “بيت يهودي” خارجها. (هرتزل نقلاً عن موسى هس الألماني، روما وأورشليم، 1862) فدعت هذه الأقلّية إلى استخدامه مستعمِراً يهودياً لمصلحة الإمبراطوريات، في إحدى المستعمرات الأوروبية البيضاء في الأرجنتين أو أوغندا أو فلسطين التي زارها هرتزل لاحقاً مرّة واحدة عام 1898.
الصحافي النمساوي-الهنغاري هرتزل أخذ عبارة “صهيوني” عن الصحافي “الفيلسوف” النمساوي الآخر “ناتان بيربوم” الذي اخترع اسم “الدولة اليهودية” لأول مرّة عام 1886، متأثراً بمجموعة “أحباء صهيون” المولودة في سان بطرسبورغ الروسية عام 1882 وإرسالها أوّل مجموعة يهودية استيطانية إلى فلسطين إثر “البوغروم الروسي” وموجة تهجير اليهود من أوروبا الشرقية والوسطى عام 1880.
لكن غالبية المهاجرين اليهود من روسيا وأوروبا الشرقية والوسطى إلى أوروبا الغربية، لم تشأ الاستيطان في فلسطين التي كانت تتعرّض للعوَز والجوع والحرب، بتأثير انهيار الإمبراطورية العثمانية في “النظام الدولي” والصراع بين الإمبراطوريات الآفلة. (هاجرت بمعظمها إلى الولايات المتحدة)
المهاجرون إلى فرنسا وحدها تجاوز عددهم 175 ألفاً بين عامي 1880 و1900 وقت فبركة “المؤتمر الصهيوني”، وقد اتخذوها ممراً إلى الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين والمغرب العربي المستعمَر… فاستقرّ حوالى50-60 ألفاً في “غيتوات” باريسية مدقعَة بحسب جنسيات بلدانهم الأصلية، “وسط امتعاض كبير من اليهود الفرنسيين، الذين وصفوا المهاجرين الشرقيين بالبرابرة الهمجيين”، بحسب تعبير برنار لازار عام 1891 (وثائق الأرشيف الفرنسي، تاريخ الصهيونية ودولة إسرائيل، معهد بواتيه، دراسات 1975).
ولم يكن لدى اليهود الفرنسيين والبريطانيين والأوروبيين الأصليين وقتها، نفوذ اقتصادي أو سياسي مؤثّر. فبعض الشرائح القليلة العاملة بالتجارة والربا والبنوك، ولا سيما الفئات المستفيدة من روتشيلد وتجارة “شركة الهند الشرقية والغربية” في بريطانيا وهولندا، شكّلت كتلة مالية أثارت شكوك وقلق الأكثرية، لكنها ظلّت تابعة اقتصادياً وسياسياً إلى الحكم الملكي وللكنيسة البروتستانتية وإلى صلة “المعمد اليهودي” الذي يعتمد “التقيّة الدينية” مع الكنيسة.
القاعدة الاجتماعية اليهودية العريضة تألفت من شرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة العاملة في المشاغل والتجارة الصغيرة والإدارة والجيش والمكاتب… أغلبهم في ألمانيا حوالى 650 ألفاً في مطلع القرن الأسبق، ولا يتجاوز عددهم في بريطانيا 60 ألفاً وفي فرنسا 1% من السكان (أقل من 70 ألفاً) ليسوا مندمجين بشكل كامل كالأوروبيين المسيحيين، لكنهم مستقرّون في بلدانهم الأوروبية الغربية إلى حدّ بعيد على الرغم من الاضطهاد الديني والسياسي.
وأثبتوا استقرارهم في بلدانهم بالتكيّف في أحداث الدول الأوروبية وصراعاتها، فاشترك 100 ألف يهودي ألماني في الحرب العالمية الأولى من أجل ألمانيا، وقبلها في الصراع ضد فرنسا في الألزاس واللورين عام 1870. واشترك يهود فرنسيون مع الجيش الفرنسي ويهود أوروبيون غربيون وشرقيون مع دولهم في الحرب بين عامي 1914 ــ 1918. فالمجموعات اليهودية المسلّحة التي اتجهت نحو فلسطين في هذه الفترة، نظّمتها بريطانيا والولايات المتحدة ودرّبتها في جيوشها، وأشرفت على استيطانها في إثر الثورة البلشفية عام 1917.
وإلى جانبهم، تكشف وثائق الأرشيف الفرنسي أن الجاليات اليهودية الشرقية المهاجرة إلى أوروبا الغربية، تمايزت فيما بينها وفق جنسياتها الوطنية في بلدانها (روسية، رومانية، بولندية، نمساوية..) وتمايزت في انتماءاتها الاجتماعية-الطبقية (طلاب، مستخدَمين، صغار البائعين…) وتمايزت أيضاً في تعدّد طوائفها الدينية (حوالى 10 مذاهب يهودية مختلفة) وتعدّد لغاتها الوطنية والدينية، وفي تعدد انتماءاتها السياسية المتضاربة في جمعيات سياسية متصارعة، (اشتراكية، أناركية، شيوعية أممية، تنويرية، صهيونية…) (جوزيف سلفادور، المهاجرون اليهود في الغرب) وفي أثناء جنازة هرتزل عام 1904 لم يتجاوز الحشد الصهيوني بضع مئات.
المؤتمر الصهيوني وتأسيس الحركة الصهيونية
في حقبة تأسيس “المؤتمر الصهيوني”، اشتدّ الصراع السياسي بين الحركة الصهيونية ومناوئيها اليهود وفي طليعتهم تنظيم “بوند” الروسي (الجبهة اليهودية العامة) الداعي إلى مساواة اليهود بالحقوق المدنية والسياسية في بلدانهم الأصلية، والتمسّك باللغة اليديشية القريبة من اللغة الألزاسية المنقولة تاريخياً إلى أوروبا الوسطى (فيينا والمجر). (آلان باين، قرن من تاريخ الصهيونية الفرنسية، 1822 ــ 1920).
ولم تنبت بذور الصهيونية السياسية في حدائق أروقة الدول الاستعمارية الأوروبية، قبل حاييم وايزمان في مؤتمر لاهاي عام 1907 على أبواب الحرب العالمية الأولى، فدفعت به بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية إلى وضع حجر الأساس على طريق استيطان فلسطين (ألان ديكهوف، اختراع أمّة، غاليمار، باريس، 1993).
وايزمان الذي وصل إلى بريطانيا عام 1904 مهاجراً روسياً، أدخلته الاستخبارات البريطانية مع هرتزل وصحبه في مؤتمر لندن الصهيوني في العام نفسه، ونقلت ملف استخدام الصهيونية اليهودية في استراتيجيتها، إلى “المفوضية الملَكية” على أعلى مستوى سياسي بريطاني في ذلك الحين.
كلّفت بريطانيا أعتى عتاة البروتاستينية معاداة لليهودية، جوزيف شامبرلين بالملف والمفوّض السامي في مصر السير مكماهون، وحمّلت وايزمان رسالة إلى والتر روتشيلد للعمل مع المؤتمر الصهيوني على إنشاء “البيت اليهودي” في سيناء والعريش لحماية قناة السويس البريطانية-الفرنسية. (المحاولة البريطانية السابقة لتوطين اليهود من أجل قناة السويس، قدّمها وزير الخارجية إلى السلطان العثماني عام 1840 بذريعة كبح جماح محمد علي).
تعيين وايزمان، ضابطاً للارتباط بين الأجهزة البريطانية والحركة الصهيونية اليهودية منذ مؤتمر لندن عام 1904، ترافق بدعم بريطانيا والدول الأخرى إلى جماعات “المنظمة الصهيونية العالمية” في مراهنة غير موثوقة حينها، على دعم اليهود الأوروبيين لاستراتيجية بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في أوروبا الغربية والشرقية والمستعمرات، ضد الإمبراطورية الألمانية وريثة “القيصرية الجرمانية الثانية”.
وهو الأمر الذي نفخت في رماده العنصرية العرقية النازية لاحقاً، متعالية على هزيمة تفوّق العرق الآري، في اختراع كبش محرقة تعلّل به سحق الإمبراطورية وتفتيتها في الحرب الأولى، واعتبارها نتيجة مؤامرة الطابور الخامس اليهودي عميل بريطانيا وفرنسا، الذي ينبغي أن ينال عقابه في “الحل النهائي”.
انهيار الامبراطوية العثمانية ودور الدول الأوروبية في دعم الصهيونية
وفي إطار الهيمنة العالمية نفسها، توافقت استراتيجية “الوفاق الثلاثي” في الشرق، ضد “الرجل المريض” العثماني الممتد إلى الخليج والجزيرة العربية والمغرب العربي وإلى أوكرانيا والقرم وآسيا الوسطى، بهدف وراثة “أراضي العدو” وإنشاء مستوطنة أوروبية يهودية في المشرق العربي وفق تقاسم نتائج الحرب العالمية الأولى، بإشراف “عصبة الأمم”.
في هذا السياق، حرصت بريطانيا على الاتفاق مع الحسين بن علي في الجزيرة العربية، على انخراطه في استراتيجية الاحتلال وإيهامه بوعود “الاستقلال العربي” عام 1915 في مراسلات حسين-مكماهون. لكنها اتفقت مع فرنسا وإيطاليا وروسيا القيصرية على “الوفاق الثلاثي” في 23 نوفمبر عام 1915 وسلسلة من الاتفاقات السرّية، على خريطة توزيع الغنائم التي عبّرت عنها “معاهدة سايكس-بيكو-سازونوف” عام 1916.
وعلى أساسها أعلن وزير الخارجية البريطاني في حكومة لويد جورج، أرتور بلفور صاحب قانون “الغرباء” ومنع اليهود من دخول بريطانيا، “وعد بلفور” في 2 نوفمبر عام 1917، الذي قال فيه وايزمان عام 1915 “عندما يُمنح الوعد سيكون بالتعاون والاتفاق بين الحلفاء”.
اندلاع الثورة البلشفية في أكتوبر1917، سرّع “إعلان الوعد” لليهود من أجل التعويض عن خسارة الحليف القيصري الروسي، وسرّع حسم الاعتماد على دعم الحركة الصهيونية لتجنيد اليهود الأوروبيين (ولا سيما الشرقيين) في المراهنة على إنشاء قاعدة عسكرية يهودية على أرض فلسطين والمشرق العربي لاستعمار المنطقة، وإقامة سدّ في مواجهة الزحف البلشفي الثوري ضد الاستعمار الغربي والإمبريالية الغربية “أعلى مراحل الرأسمالية” (لينين).
في هذه المواجهة، بدأ البلاشفة بنشر سلسلة الاتفاقات السرّية وخريطة “الوفاق الثلاثي” في استراتيجية توزيع الغنائم فيما بينها وإنشاء “بيت لليهود في فلسطين”، على صفحات برافدا وأزفستيا في 23 نوفمبر 1917، ونقلته صحيفة الغارديان البريطانية. وعلى الأثر دعا قائد الجيش الأحمر ليون تروتسكي (مولود في خيرسون الروسية قبل إنشاء أوكرانيا دولة سوفياتية) أمام السفراء في بيتروغراد “مقترحات لهدنة وسلام ديمقراطي” يقوم على استقلال الأمم وحق تقرير المصير رافضاً الضم والاحتلال وتقسيم الغنائم.
وبخصوص “البيت اليهودي” في فلسطين، تبنّى البلاشفة نظرية كارل ماركس في المسألة اليهودية” التي أكّد لينين عام 1903 في مقال يرى فيه “أن حلّ العداء لليهودية ولثقافات الأقليات الأخرى ذات الأصول الأجنبية، يكمن في اندماج الأقليات في كتلة الأكثرية من السكان، ولا تبقى ثقافاتها عنصراً خارجياً أجنبياً”. (لينين، الأعمال الكاملة، المجلّد السابع، اليهود والعداء لليهودية).
وظل البلاشفة يرون “الصهيونية وكيلة الإمبريالية” (لينين) ويتمسّكون باندماج اليهود في بلدان أوروبا الغربية والشرقية والاتحاد السوفياتي حتى انقلاب ستالين عام 1944 على اللينينية وتراجعه عن دمج اليهود.
وفي المقابل شدّدت بريطانيا وفرنسا من عزيمة استراتيجية احتلال “أراضي العدو” والهيمنة العالمية بمواجهة الثورة البلشفية في إنشاء “عصبة الأمم” عام 1919 مع إيطاليا واليابان والآخرين، (من دون انضمام روسيا وأميركا في البداية) لتقاسم الغنائم بين المنتصرين في الحرب، وللأهداف نفسها ورثتها “الأمم المتحدة” والنظام الدولي لتقاسم السيطرة والسلب بين المنتصرين في الحرب الثانية.
قام اليابان باحتلال ميناء “فيلادفوستك” الروسي، واتفقت الولايات المتحدة مع فرنسا وبريطانيا على إشعال الثورة المضادة في دعم الجيش القيصري الأبيض، وإنشاء حكومة الجنرال كورنيكوف في غرب أوكرانيا البولندية-الروسية، وكذلك إنشاء حكومة كوجاك في سيبيريا التي دعيت إلى مؤتمر باريس عام 1919 لتكريس انتصار بريطانيا وفرنسا وابتلاع الإمبراطوريتين الألمانية والعثمانية ووراثة أراضيهما.
استراتيجية العمل على إحلال اليهود الأوروبيين محل الفلسطينيين تولّاها الوكيل البريطاني وايزمان، طيلة رئاسته المنظمة الصهيونية 1920-1947 مع المفوّض السامي للانتداب هربرت صموئيل، فسعى في دعم السياسة البريطانية بنقل 25 ألفاً من “أحباء صهيون” الشرقيين إلى فلسطين إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية و”ملء الفراغ بالمستوطنات اليهودية” ومواجهة زحف الشيوعية. (صموئيل)
ولهذه الغاية أنشأت بريطانيا عام 1918 “الفيلق اليهودي” من 6400 فرد درّبتهم في مصر وأدخلتهم إلى فلسطين. (الموسوعة الفلسطينية- 2017) وأنشأت الولايات المتحدة في العام نفسه الكتيبة 39 وسلّمتها مدرّبة إلى قيادة ديفيد بن غوريون وإسحق بن تسيفي (من قيادات الحركة الصهيونية في أميركا)، وأنشأت مع بريطانيا 3 كتائب عام 1920 (5 آلاف فرد) مدرّبة على التطهير العرقي انضمّت إلى عصابات الهاغانا على يد مناحين بيغين (إيلان بابي، التطهير العرقي للسكان الأصليين، أرشيف 48 الإسرائيلي، وأيضاً وليد الخالدي، مخطّط داليت 1959).
تولّى وايزمان عام 1918 تسويق الاستراتيجية البريطانية بالتفاهم مع الملك فيصل بن الشريف حسين، الموكل البريطاني بالعمل على حرب “استقلال سوريا والعراق” و”التسامح بين الأديان” في فلسطين. ودخلت الولايات المتحدة الأميركية بأنفها عبر جولة “لجنة كينغ-كراين” في سوريا عام 1919 للعمل على مبادئ ولسون (14 بنداً) القاضية بتقسيم سوريا الكبرى بين الأقليات العرقية والدينية، بحسب تأويل الديمقراطية الأميركية “لحق الجماعات الوطنية (الإثنية والدينية…) في تقرير المصير”، ومن ضمنها تقسيم فلسطين بين “الجماعات الوطنية” (العرب والمستوطنين اليهود البالغين 55 ألفاً).
أقرّها الكونغرس لإنشاء “بيت يهودي” المعروف بقرار “لودج فيش” عام 1922 الذي ظل سارياً مع إنشاء الأمم المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية بقرار 181. ولم يكن “حل التقسيم” استراتيجية أميركية وبريطانية، بل تكتيكاً على طريق تهويد فلسطين، فيقول ولسون عشية وعد بلفور عام 1917 ” لن تصبح فلسطين مؤهّلة للديمقراطية إذا لم يمتلكها اليهود كما سوف يمتلك العرب شبه الجزيرة العربية ويمتلك البولنديون بولندا…” (ناحوم سوكولوف، تاريخ الصهيونية).
بريطانيا المعتمدَة على “صهينة” اليهود الشرقيين لتفتيت المنطقة العربية ومواجهة الثورة البلشفية للهيمنة العالمية، أكثر حرصاً من ولسون على “الديمقراطية” في فلسطين، فظلّت على عهدها في استراتيجية الإحلال (تمنّعت لاحقاً عن تأييد قرار التقسيم 181) ويكتب شرشل في صحيفة “صاندي هيريل” (شباط/ فبراير 1920) بأن “الحل الصهيوني هو هوية وطنية” وأن الصراع “بين اليهودي الصهيوني واليهودي البلشفي هو صراع من أجل روح الشعب اليهودي”، متجاوزاً بذلك الطعم البريطاني في مراوغة “البيت والملجأ” نحو “دولة قومية” لليهود.
تحولات جيوسياسية ساعدت على نقل اليهود لاحتلال فلسطين
وفي نهاية المطاف لم تكن كل استراتيجيات ومخطّطات الدول الغربية وأجهزتها أكثر من مراهنات غير مؤكَّدة النتائج، على “صهينة” اليهود الأوروبيين ونقلهم مستوطنين للإحلال محل الشعب الفلسطيني، لولا تضافر عوامل وتحوّلات جيوسياسية أساسية في الحرب العالمية الثانية، أدّت إلى نظام دولي جديد أهمّها:
أ- أهوال مذبحة الحرب العالمية والتضحية بحوالى 150 مليون جندي ومدني وقتيل في الأسر ومن الجوع، (سكان العالم وقتها أقل من 2,5 مليار نسمة)، وانفجار همجية العرق الأبيض الأوروبي والأميركي نحو المستعمرات للسيطرة على العالم، وأشدّها همجية عنصرية العرق الآري الجرماني في “الحل النهائي” لليهود وجموحه للحرب واحتلال العالم.
بـ-وراثة الولايات المتحدة الأميركية إرث الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في استراتيجيات الهيمنة العالمية، إثر الحرب العالمية الثانية، وانتقالها من احتكار النفوذ في أميركا اللاتينية (عقيدة مونرو) إلى قيادة النظام الرأسمالي في توسّع المصالح والسيطرة على العالم، وإدارة شرعنة سيطرتها في إنشاء “الأمم المتحدة والشرعية الدولية”.
جـ-انقلاب الاتحاد السوفياتي الستاليني عام 1944 على اللينينية في عملية دمج اليهود، ونقل ثلث مستوطني فلسطين اليهود من أوروبا السوفياتية والدول الشرقية، ودعم الاحتلال عام 1947 بالمال والسلاح، في إطار التراجع عن استراتيجية الثورة الأممية ضد الرأسمالية، والمراهنة على استراتيجية “التعايش السلمي” مع استراتيجيات مصالح الدول الغربية في النظام الدولي، ولا سيما المشاركة في قيَم الدول الغربية التي اتخذت “حل المسألة اليهودية”، رمزاً لانتصار ديمقراطيتها على الطغيان والنازية. (يؤيد هذه القيم بل يجلّها، المؤرخ الروسي ليونيد ميلتشين “لماذا أنشأ ستالين إسرائيل؟” موسكو 2005، مقابلة آرتي الفرنسية 15-2-2007) فضلاً عن وقائع التحوّل الستاليني التي يسجّلها (لوران روكر، الأرشيف السوفياتي، ستالين واليهود وإسرائيل).
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وتم نقله بتصرف وليس بالضرورة عن رأي الموقع