نصر القريطي 

قد يكون العنوان عاماً وبالتالي قاسياً لكننا نتحدث هنا عن ادعاءات حرية التعبير والحق في تداول المعلومة التي مثّلت الوجه الأبرز للديموقراطيات الغربية الحديثة وهو ما اثبتت الأيام انه عملةٌ ذو وجهين مختلفين بل متناقضين..
الحق في تداول المعلومات على الصعيد الداخلي في الدول الغربية واقعٌ لا ينكره احد لكن حينما يتعلّق الأمر بالسياسات التي يمكن وصفها بـ”الاستعمارية” فيما وراء البحار والانتهاكات الدائمة لحقوق شعوب ودول العالم الثالث فإن المصلحة هي الثابت الوحيد في السياسات الغربية ومن خلفها تصبح كل طرق حرية التعبير خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها..
من واشنطن الى لندن الى باريس وبرلين وروما حكاية تناقضٍ في ممارسة حرية التعبير ووأدٌ لمصادر الوصول الى الحقيقة أينما وجدت..
هذا ما علمتنا إيّاه الأيام وهو ما نشهده في كل البلاد التي تمتد إليها اليد الاستعمارية بوجهها الناعم من أفغانستان الى العراق الى سوريا فاليمن..
إنها حكاية تهميشٍ لمبادئ الديمقراطيات السامية التي يعليها الامريكان والغرب والتي تظهر الوجه الحقيقي القبيح لديمقراطياتهم المزعومة..
لا تزال فضائح الحكومة الفرنسية وشراكتها المباشرة في جرائم الحرب المرتكبة في بلادنا ماثلة أمامنا الى اليوم..
هذه الشراكة في العدوان كشفت عنه الصحافة الباريسية بالبيانات والوثائق وإن كانت قد توارت خلف رحى العدوان التي لم توقف طحينها إلاّ أن هناك ما يدفعنا اليوم لإعادتها مجدداً إلى خانات الأضواء التي لم تعد مسلطةً عليها..
يقول موقع “الجيري باتريو تيك” ان الحكومة الفرنسية شرعت في معاقبة الصحافيين الذين كشفوا تورطها في الحرب على اليمن..
ووفقاً لمصادر من العاصمة الفرنسية فإن باريس تمارس الترهيب بحق هؤلاء الصحافيين وتحت قبة القضاء الباريسي الذي يدّعي النزاهة والعدالة..
وفي تفاصيل هذه القصة اكد الموقع الجزائري الناطق باللغة الفرنسية ان باريس احالت مجموعة الصحافيين الذين كشفوا عن بيانات ووثائق تورط الحكومة الفرنسية في العدوان على اليمن الى القضاء..
هكذا إذن تتصرف الحكومات الغربية حينما تتعارض حرية التعبير والحق في تداول المعلومة مع مصالحها بعيداً عن المبادئ والشعارات التي ترفعها أمام الإعلام والرأي العام..
قد تكون حرية الرأي على الصعيد الداخلي أو فيما يتعلق بعالم الفضائح والانتهاكات واللا اخلاق واقعاً لا نستطيع ان ننكره لكن ذاك الواقع يأخذ طابعاً مختلفاً إن كان الأمر مرتبطاً بمصالح الدول الغربية في دول العالم الثالث التي لا تزال الدول الكبرى تنظر اليها بذات العين الاستعمارية الخبيثة..
يعلق الموقع الناطق باللغة الفرنسية على هذه المحاكمات المتناقضة مع مبادئ حرية التعبير والحق في تداول المعلومة بالتأكيد على ان باريس ومن خلال هذه الممارسة اللا أخلاقية واللا إنسانية تمارس الترهيب والقمع بحق كل من يربطها بجرائم الحرب المرتكبة في اليمن..
أننا حينما نبرز هذه التناقضات الفاضحة فإننا لا نتحدث عن حالةٍ شاذّة بل هي سياسات فرنسية أمريكية بريطانية غربية ثابتة حينما يتعلق الامر بأياديهم غير النظيفة في بلادنا..
مثّلت حرب الخليج وآثارها الاستعمارية ذروة الوقاحة الامريكية والغربية فيما يتعلق بالفضائع التي ارتكبت في الحرب على العراق وفي العاصمة الامريكية واشنطن تم محاكمة وحبس العسكريين الأمريكيين الذين كشفوا فضائح سجن أبو غريب التي أظهرت الوجه الاستعماري القبيح للديمقراطية الامريكية..
أينما وجّهت عين الانصاف في العواصم الغربية فإنك سترى حالات متكررةٍ لصحافيين أو حقوقيين تمت معاقبتهم فقط لأنهم سلطوا الأضواء على العلاقات المباشرة بين حكومات تلك الدول وجرائم الحرب في بلدان الشرق الأوسط..
محاكة الصحافيين الفرنسيين الذين فضحوا العلاقة المباشرة لوزارة الدفاع الفرنسية بالحرب على اليمن اخذت طابع العلنية ولم تتم بصورة سرية..
ذاك لا علاقة له بحقوق من تتم محاكمتهم أو بالشفافية القضائية بقدر ما هي مرتبطة بعقلية الترهيب التي تمارسها الحكومات الغربية بحق كل من يتجرأ على فضح علاقاتها المشبوهة بأمراء الحرب في منطقتنا العربية والشرق أوسطية..
مع استمرار رحى الحرب في بلادنا ستتكشف الكثير من الفضائح والفضائع التي تتعارض مع حقيقة مبادئ حرية التعبير والحق في الوصول الى المعلومة ومبادئ حقوق الانسان الامريكية والغربية..
حتى ان الإعلام الغربي لم يعد يسلط الضوء كثيراً على قضية تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي الذي تمت بأوامر واشرافٍ مباشرٍ من ولي العهد السعودي ليس لأن هذه القضية قد تم طيّ صفحاتها بل لأنها تمر بمرحلةٍ جديدةٍ من مراحل استثمارها اللا أخلاقي واللا انساني..
يستخدم الامريكان والغرب حرية التعبير والصحافة الحرة كسلاحٍ ذو حدّين حينما يتعلق الامر بنا فمن جهةٍ تتولى الصحافة الغربية غسل ايدي حكوماتها الملطخة بدمائنا ومن جهةٍ أخرى فإنها تقوم وبصورةٍ ممنهجةٍ بابتزاز حكومات وامراء الحرب الخليجيين..
تلك هي حقيقة بلدان الديمقراطيات العريقة التي تحاكم اليوم صحافيين كل ذنبهم انهم كشفوا تورط حكومات بلادهم في امداد السعوديين والاماراتيين بالأسلحة بصورة تتعارض مع أبسط القوانين الدولية في زمن الحرب..
ليس ذاك فحسب بل تورطت تلك الحكومات وبشكلٍ مباشرٍ في جرائم الحرب المرتكبة في بلادنا وعملت على إدارة هذه الحرب الملعونة ولا تزال تعمل على إطالة أمدها خدمةٍ لمصالحها.