شرحبيل الغريب*

3 أعوام مرّت على اغتيال قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإيراني، الشهيد قاسم سليماني. وكلما مرّت الذكرى تحضر السيرة والمسيرة لقائد وجنرال استثنائي وكبير ورمز من رموز محور المقاومة وقادته، أفنى حياة حافلة بالعطاء والجهاد، وحمل رسالة القدس، وتعلّق قلبه بها حتى قدّم روحه من أجلها، وعمل على دعم المقاومة الفلسطينية وإمدادها وإسنادها وتطوير قدراتها، ووقف سداً منيعاً في وجه الأطماع الصهيو أميركية، وشوكة في حلقها، وشكّل خطراً وجودياً على “إسرائيل”.

كلما تأتي الذكرى يستحضر الفلسطينيون مسيرة عطاء لامحدودة في دعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، بدأها الشهيد القائد قاسم سليماني. وكما كانت فلسطين حاضرة في قلبه ووعيه كانت حاضرة في جهده وجهاده. فلسطين والمقاومة لهما النصيب الأكبر في أجندة سليماني، إذ كان يعمل وفق رؤية ثورية خالصة، بعيداً عن أي جوانب مذهبية، وانطلاقاً من أنها قضية أخلاقية، بل قضية الشرفاء في هذه الأمة. ومع استشهاده، ما زالت مسيرة الدعم والإسناد مستمرة كإحدى أهم الثوابت في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والتي خطتها إيران منذ انتصار الثورة الإسلامية.

ظنّ البعض أن اغتيال الشهيد سليماني سيُنهي مسيرته، لكنه استطاع أن يترك أثراً وبصمات ثابتة وراسخة في رحلة العطاء والتضحية، تعكس صوابَ نهجه الذي خطّه لفلسطين وقضيتها، وحتى في مختلف الجبهات التي وَطِئتها قدماه، فلقد استطاع أن يؤسّس محور مقاومة ممتداً من طهران إلى فلسطين، في وجه محور “إسرائيل” وأميركا، في وقت لم يكن هذا المحور قائماً بهذه القوة وهذه الصلابة وهذا التماسك قبل بصمات القائد الشهيد قاسم سليماني فيه.

عند الحديث عن شخصية الشهيد سليماني، كمدرسة ثورية، في ذكرى استشهاده الثالثة، تحضر ملاحم البطولة وتعاظم المقاومة، التي سطّرها في مواجهة مشاريع الظلم والبطش والإرهاب بحقّ الشعوب المستضعَفة في المنطقة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، الذي آمن بفلسطين عقيدةً، وكرّس حياته لتحريرها وخدمة أهلها، انتماءً واخلاصاً، وضحّى في سبيلها عبادةً وشهادة.

أكثر من يتذكر الشهيد قاسم سليماني في ذكرى استشهاده الثالثة هو الشعب الفلسطيني، الذي كان له نصيب الأسد في الدعم والإسناد، عند استحضار الأسلحة المتطورة والتي وصلت إلى فلسطين، كصواريخ كورنيت والصواريخ بعيدة المدى، التي خاضت عبرها المقاومة صولات وجولات ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال حروب أربع خاضتها على مدى الأعوام الماضية. كما يستحضر الفلسطينيون خبراته في الأنفاق الهجومية والطائرات المسيّرة، والتي أصبحت سلاحاً استراتيجياً في يد المقاومة، وغيرها كثير من التقنيات العسكرية التي أحدثت توازناً في ميزان الردع أمام عنجهية “إسرائيل”.

اغتيال سليماني وتغييبه عن المشهد كانا هدفاً أميركياً إسرائيلياً مقصوداً، وظنّ الأميركيون والإسرائيليون، بعد اغتياله، أن جذوة المقاومة التي أشعلها في فلسطين ومحور المقاومة ستنطفئ، وأن الخطر الذي كان يتهدد مشاريعهم وكيانهم انتهت إلى الأبد، ولن يكون بعد اغتياله شيء يهدد أمنهم ومستقبلهم للخطر. كما ظنوا أن الشعب الفلسطيني سيصبح يتيماً بلا أب، وأن مقاومته ستصبح ضعيفة هرمة بعد اغتياله، لكنهم لم يكونوا يعلمون بأن الشهيد سليماني عاش لفلسطين أكثر مما عاش لقضية أخرى في المنطقة. وهنا أستحضر الرسالة الأخيرة الشهيرة التي خطّها القائد سليماني بيده قبل استشهاده، ووجّهها إلى قائد هيئة أركان المقاومة في فلسطين، محمد الضيف، والتي عنونها بأن إيران لن تترك فلسطين وحيدة.

وقفت إيران إلى جانب الشعب الفلسطيني ودعمته وساندت مقاومته، وما زالت في المسار والطريق ذاتيهما اللذين خطّهما الشهيد القائد سليماني. حتى بعد استشهاده، لم يشعر الفلسطينيون، لحظةً، بأن إيران تراجعت أو تخلّت عن دورها تجاه قضية فلسطين ومقاومتها على رغم تعاظم المؤامرات عليها، بل عززت موقفها وتبنّيها قضية فلسطين ودعم المقاومة في وقت هرولت دول خليجية إلى التطبيع والتقرّب إلى “إسرائيل” أكثر، وطعنت القضية الفلسطينية في خاصرتها، وأنظمة أخرى صنّفت مقاومة الشعب الفلسطيني بالإرهاب، وأخرى زجت بقادتها في السجون كالسعودية، الأمر الذي يجعل المشهد في حالة تمايز كبيرة بين من وقف وما زال ثابتاً على موقفه تجاه المقاومة وفلسطين، وبين من باع القضية الفلسطينية وارتمى في أحضان المشاريع الصهيو أميركية.

المقاومة الفلسطينية، بفعل الدعم الكبير للقائد سليماني، أصبحت قوية ومتينة وعصيّة على الانكسار. وما قدّمه الشهيد إلى فلسطين أكبر من أن يتصوّره عقل إنسان. وبفعل هذا الدعم استطاعت المقاومة أن تخوض الحروب وتفرض المعادلات التي لم تكن قادرة على فرضها، وتحقق انتصارات استراتيجية على “إسرائيل”، كان آخرها انتصار معركة “سيف القدس” في أيار/مايو 2021.

بفعل ما قدّمه القائد الشهيد سليماني، من دعم وإسناد، أصبحت في فلسطين مقاومة حكيمة تحمل مشروعاً استراتيجياً كبيراً ورؤية ثاقبة تعدّ لمعركة التحرير الكبرى واجتثاث الاحتلال الإسرائيلي من الأرض الفلسطينية المحتلة والمقدسات كافة؛ مقاومة تمتلك سلاحاً استراتيجياً يطال كامل التراب الفلسطيني، فرضت فيه معادلات الرعب والردع، وباتت قادرة على هزيمة الاحتلال، ودحره أصبح غير مستحيل.

رحل الشهيد القائد سليماني جسداً، وبقي نهجاً وأثراً في فلسطين وقضيتها ومقاومتها، واستطاع توحيد جهود الأمة في محور مقاومة قوي ومتين لمواجهة المشروع الأميركي الإسرائيلي ومؤامراته، وثبّت معادلات راسخة قائمة على رفض التطبيع مع “إسرائيل” ونبذه، وتوجيه بوصلة أحرار الأمة كافةً نحو فلسطين والقدس، كما أذلّ المشروع الصهيو أميركي عبر إحباط مشاريعه الأخرى في المنطقة وإفشالها.

* المصدر: الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع