2022.. بين هزائمهم وانتصاراتنا
أحمد فؤاد*
تبقى آخر أيام العام فرصة ومناسبة لتوقع القادم، ووضع سيناريو يغازل الحقيقة للسنة المقبلة، لكنها في حالتنا العربية الراهنة تحوّلت ــ مع بؤس الظرف ــ إلى لحظة لتوجيه المساءلة والنقد إلى القرارات والخيارات، وحتى إلى المبادئ، وهي لحظة تحاول فيها أبواق الغرب الممولة، بالتعاون مع غربان الداخل الناعقة، استنزال كل ما أمكنها من لعنات تجاه كل بلد وأهله، ومحاولة جديدة لصبغ الروح العربية بالهزيمة، وكأنها قدر مقدور علينا.
نحن في ظل وضع مأساوي تمر به الشعوب العربية كلها، الواقفة في وسط أزمة حقيقية قد وصلت إلى حدود غير مسبوقة من التراجع والخطورة، هذه اللحظة التي اتحدت فيها أزمة الاقتصاد الغربي مع نتائج الحرب الروسية الأوكرانية، وتزامنت مع استمرار تداعيات فترة انتشار فيروس كورونا القاتل، ثم بما حملته من موجة تضخم عالمية، ومخاوف مرعبة وقائمة من الدخول إلى مرحلة كساد مدمرة، قد وضعت الكل في الخندق ذاته، خندق العجز والفقر الشديدين، ومع إدارة مهلهلة ضعيفة الكفاءة والقدرة، ومجتمعات تنضح بأسباب التفسخ والتشظي، قد عنونت هذه الفترة من عمر الأمة العربية كلها بأنها الفترة الأسوأ.
في الحقيقة فإن هذا الخطاب التشاؤمي يتزامن مع تقارير دولية تؤكد صعوبة الوضع الاقتصادي العالمي، وانعكاساته المؤلمة على المجتمعات العربية، وبالتحديد فإن كلًّا من البنك وصندوق النقد الدوليين قد أصدرا عدة تقارير خلال الشهر الأخير وحده، تساعد بشدة في تبني التوقعات السلبية لمستقبل أغلب الدول العربية، وسواء كانت منخفضة أو متوسطة الدخل، فإنها ستعاني بالتأكيد في العام الجديد، ومنها دول على لائحة الأكثر خطورة وهي لبنان وتونس ومصر، مع وصول الأوضاع في سوريا والسودان واليمن إلى طرق مسدودة بالفعل.
إذًا فإننا نواجه فتنة جديدة، تستهدف أول ما تستهدف الإرادة العربية، عبر إشاعة وفرض هذا الجو الكئيب السام من التشاؤم والفقر، باستغلال ما هو موجود بالفعل من أزمة، وهذه تجربة أميركية ناجحة، أجريت مرارًا على شعوب ومجتمعات عدة، بدءًا من الربيع الملون في أوروبا الشرقية، وصولًا إلى الربيع العربي الأسود، وهي تنفخ في الأزمة وتزيدها عبر أدواتها ورجالها اشتعالًا، ثم تتدخل لتدمير المجتمعات من الداخل عبر الفجوة المفتوحة بين الحكم وبين المواطنين، وهي فضلًا عن نجاحها، قليلة التكلفة بالنسبة للأميركي لا تحتاج لأكثر من أنظمة حكم غبية ونخبة يميل هواها ومصالحها إلى الدولار والغرب.
وإذا كانت المقاومة في قلبها وأعمق نقطة فيها هي ذلك المزيج المشع من الإيمان والثقة والبذل، وأنها كما تنطبق على مواجهة العدو تنسحب أيضًا على الواقع ومصاعبه وعثراته، فإننا أحوج ما يكون إلى الوقوف ضد هذا المناخ السام من العجز واليأس، باستعادة مطلوبة ــ وبشدة ـــ لواحدة من أعظم معارك الإرادة التي جرت في المنطقة كلها.
خلال عام 2022 نجحت المقاومة الإسلامية في كسر خطوط حمراء كثيرة لدى الكيان والغرب، في معركة تعيين الحدود البحرية، بداية من الإصرار والحسم المطلوبين، وحتى الاستعداد والتهديد بتسخين الموقف الذي كان ملتهبًا أصلًا، وصولًا إلى حافة الهاوية المفتوحة لكل الاحتمالات، والتي ضعفت عندها أعصاب حكومة العدو، وقرروا التسليم.
كثيرة هي الدروس التي قدمتها لنا إدارة المعركة، بفضل حزب الله وسماحة السيد حسن نصر الله، وكثيرة هي أيضًا النتائج التي ترتبت عليها، سواء في فصل وجود هذا الكيان أصلًا، أو في تعامله المستقبلي مع المقاومة كفاعل رئيس وأول في خط المواجهة، ثم هي أيضًا كثيرة التغيرات التي أدخلها الحزب في معادلة الحركة والتأثير على الصراع العربي الصهيوني كله.
وإذا جاز لأحد أن يلخص هذا الفصل من الصراع العربي الصهيوني في 2022، فإنه كسر مركزية القرار التي كانت تحتكرها “تل أبيب” طوال سنوات وجودها على الأرض العربية، وحطم تمامًا أسطورة الردع التي كانت المبدأ الأول لحركتها والحاكم الحقيقي لقرارها، فالكيان لم يسبق أن واجه فعلًا استباقيًا عربيًا طوال سنوات الصراع، وكان أفضل ما تحقق هو كشف أسطورة تفوق الكيان، و”فرقعة” بالونة جيشه الذي لا يقهر، والذي بدا للحظة في ذروة اشتغال الصراع غير راغب وغير قادر على تخيل سيناريو مواجهة عسكرية كبيرة، بعد أن كان متلهفًا إلى استغلال مثل هذه الفرص لنسف أي تهديد موجه إليه.
إذا كانت المعركة بيننا وبين العدو الصهيوني هي معركة مصير، وهي كذلك بالفعل، فإنها معركة تترابط حلقاتها وتتصل مشاهدها، وأي نصر يتحقق في واحدة من جبهاتها كفيل بتقدم ــ ولو معنوي ــ على جبهة أخرى، وخصم من قدرة العدو على لملمة شتاته، وبجانب ما يحدثه مباشرة من أثر سلبي هائل على سلاحه الأول ــ الردع ــ فإن كل ضربة تصل موجاتها عائدة إلى قلبه مؤلمة مؤثرة.
..
قبل عدة أعوام من اليوم، قدمت السينما العالمية أحدث رواياتها لمعركة “دونكيرك” الشهيرة، في إنتاج بريطاني أميركي مشترك، وفي واحدة من أضخم ميزانيات الأفلام العسكرية عبر التاريخ، وهي مجال له عشاقه ومتابعوه، وحرص منتجوه على الحرفية في تناول القصة المعادة، واستخدام أفضل التقنيات وأحدثها، وحتى في أبسط التفاصيل، مثل الملابس التي صنعت خصيصًا في باكستان، لتتطابق مع الأصواف المستخدمة في الزي العسكري البريطاني وقتذاك، والاستعانة بالطرازات نفسها من القوارب والسفن البحرية وتوظيف آلاف من الكومبارس، بالإضافة إلى الترويج الهائل للفيلم.
وتلقفت الدعاية البريطانية الفرصة الكبيرة، فأعادت صخبها الممل حول قدرة الشعب الإنجليزي على الصمود والثبات وبذل التضحيات، ولا غرابة في الموقف، فإن الأمم تستغل تلك اللحظات المريرة والدقيقة عبر تاريخها لزرع الإيمان وبث اليقين في نفوس مواطنيها، والتبشير بنهاية سعيدة ــ بل ومنتصرة ــ رغم ما يفرضه الواقع من تحديات وآلام، عبر اعتماد رسالة مررنا بأسوأ من هذا وعبرنا.
الغريب أن القصة الأصلية لا تنتمي بأي معنى إلى انتصار أو إنجاز، على العكس تمامًا فإنها تجسد الانسحاب والهزيمة المجللة بالعار. يمكنك إطلاق أي وصف على واقعة ترك جيش لكل سلاحه وعتاده وتخليه عن واجب القتال والهروب أمام عدوه سوى أن تنعته بالبطولة، لكن الرواية الرسمية البريطانية المعتمدة لما جرى في الفترة بين 26 آيار/مايو إلى 4 حزيران/ يونيو عام 1940 اعتبرت أن إجلاء جنودها يساوى انتصارًا ما، ولا تزال مصرة على تصورها المجافي للمنطق والعقل والحقيقة، فقط لإنها تعرف كيف تغازل وجدان الناس ووعيهم عبر تلفيق تلك القصص، ولو كانت مزيفة كاذبة، في الواقع فإننا أحوج ما نكون إلى تبني وإشاعة رسالة القدرة والإيمان في صفوف مواطنينا وأهلنا، كطوق نجاة من مناخ الإحباط واليأس القائم، وهو، كجهد صادق، أكثر ما ينقصنا في بدايات عام جديد.
*المصدر : العهد الاخباري
*المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع