الكسندر كرامارينكو *

لم يكن لمقالة أستاذ وبطريرك العلوم السياسية الأميركية في مجال العلاقات الدولية والسياسة الخارجية والدبلوماسية، هنري كيسنجر، والتي كتبها تحت عنوان “كيف يمكن تجنب حرب عالمية جديدة”، ونشرت في 17 كانون الأول/ديسمبر 2022 في الأسبوعية البريطانية المحافظة “سبيكتاتور”، إلا أن تثير رود أفعال متناقضة ومجموعة متضاربة من التفسيرات.

وفعلاً، لماذا ينشر كيسنجر مقاله في مؤسسة عبر المحيط، وليس في صحف كـ “نيويوركور”، و”نيويورك تايمز” و”بوك ريفيو”، والتي هي بمثابة نظير تقريبي لهذا المنشور البريطاني؟ لماذا قرر كيسنجر، البالغ من العمر 99 عاماً، دق ناقوس الخطر بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية، في الوقت الذي تتلخص الرواية الرسمية لواشنطن في أن “كل شيء يسير وفقاً للخطة”، وأن الروس أصبح لديهم أفغانستان الخاصة بهم، بل وحتى في أوروبا، والمقصود أوكرانيا.

لننتبه إلى أن وزير الخارجية أنتوني بلينكين قال مؤخراً، أن إدارة بايدن تعمدت استبدال أفغانستان بأوكرانيا؟ كيف نقرأ مقال كيسنجر، وما هي الخلاصة التي يمكن وضعها؟

لأكثر من عقد من الزمان، تحدث كيسنجر، الجالس في قمة العلوم السياسية، عن السياسة الخارجية لجميع الإدارات الأميركية تقريباً، واتخذ موقفاً غير حزبي. وفي الوقت نفسه لم يتعدى سياسة الإدارة الحالية. في الممارسة العملية، هو يمتنع عن النقد المباشر، لكنه يقدم النصائح. ولكن كان تقديم المشورة لإدارة جورج بوش الابن، التي كان يديرها متعصبون من المحافظين الجدد، قضية خاسرة. أما أوباما فتقاعس بشكل واضح عن التحرك، وكان الاستثناء هو قضية أوكرانيا التي نشأت خلال فترة ولايته الثانية.

في عهد الرئيس ترامب، لم تضيع ما تسمى بـ”الدولة العميقة” الوقت. وعندما عاد الديمقراطيون إلى السلطة، نضج الوضع إلى نهاية اللعبة التي سارت بشكل خاطئ منذ البداية. فالحرب الخاطفة لم تنجح، وكان لابد من الارتجال نظراً لعدم وجود خطة احتياطية.

تدخل كيسنجر مرة واحدة فقط، قبل 6 أشهر، عندما حذر من خطورة التطورات الخارجة عن السيطرة، وأصر على تسوية تفاوضية بين موسكو وكييف. ويجب القول أنه منذ ذلك الحين أصبح أكثر قوة في آرائه. لكن كان عليه أيضاً أن يناشد النخبة بأكملها، بما في ذلك الجمهوريون الذين انتزعوا السيطرة على مجلس النواب.

لمدة 6 أشهر، أصبح الوضع مشحوناً من الناحية الأيديولوجية، لأن كيسنجر يتمتع بحرية “البث” من الخارج، وحتى من لندن، التي تحتفظ بسمعة الحليف الرصين والمخلص لكثير من الأميركيين.

فهل سيتمكن كيسنجر من القيام بذلك من الجزر البريطانية، هو أيضاً سؤال كبير. ولكن لكي يتم سماعه، يجب أن يتناسب ما يطرحه مع رواية الإدارة الحالية. وهنا، من باب صيغة “استراتيجية الخروج”. كما أنه مجبر على تعديل الوضع “على الأرض”.

في كل الأحوال، لا تبدو توصياته واضحة. فليس هناك توقف أو تعليق للأعمال القتالية على الإطلاق، ومن الواضح أن كلا الجانبين، الروسي والأوكراني، يستعدان لحملة الشتاء.

ولكن إذا نظرت من زاوية أخرى، لا سيما إذا كانت روسية، فإن كيسنجر يعترف بشكل غير مباشر – من خلال عنوان مقالته – بأنه لا واشنطن، ولا الغرب ككل، كانا مستعدين لنزاع طويل الأمد في أوكرانيا.

أما الآن، فهم مجبرون، كطرف ضعيف، على الإحتكام إلى القانون الدولي، ومفهوم السيادة، وما إلى ذلك من المصطلحات التي كانت منسية من قبلهم في “لحظة أحادية القطب”.

يتجاهل كيسنجر الحرب العالمية الثانية، بما احتوته من نزعات نازية وفاشية. ولكن بما أن الاتحاد السوفياتي قد وضع في حالة من الجمود حينها، فقد اضطر بفعل انتصاره، إلى المساهمة في القضاء على القطبية الثنائية بين الغرب (كانت ألمانيا واليابان تحت الاحتلال الأميركي لفترة طويلة)، وبالتالي استعادة وحدة الغرب، التي أدت في السابق إلى حرب القرم والحرب الروسية اليابانية.

والآن هل ستؤدي جزيرة القرم إلى حرب ثانية حتمية؟ من الصعب أن نتخيل أن كيسنجر، كمؤرخ حتى النخاع، وحتى رغم تحيزه، لا يدرك ذلك، ولا يحذر من أنه لا يمكن للمرء أن يدخل في نفس المتاهة مرتين.

لا أحد ينكر الآن، وليس فقط في أوكرانيا، أن الغرب أراد أيضاً إشراك روسيا في مواجهة عسكرية على حدودها الغربية لحل “المسألة الروسية” مرة واحدة وإلى الأبد – ويفترض أن كيسنجر يعارض مثل هذه الأوهام، وفي الوقت نفسه، يعتبر أن قضية التحييد العسكري السياسي لأوكرانيا أصبحت غير واردة، وأنها كدولة مستقلة، يجب أن تكون الآن “مرتبطة” بطريقة ما بحلف الناتو. بعبارة أخرى، سيحصل الغرب على ما أراده من البداية.

ولكن أين أصبح ميزان القوى في أوروبا؟ أعتقد أنه يخادع، ويدعو لأن تكون إدارة بايدن راضية عما تم تحقيقه، أي تشجيع كييف على الموافقة على تسوية تفاوضية على حساب الحد الأدنى من الخسائر الإقليمية، ولكن مع الحفاظ على شخصيتها القانونية الدولية (بتعبيره – أوكرانيا الحرة).

كما أنه ليس من الواضح من هذه الرسالة الغامضة ما إذا كان الناتو، أو الاتحاد الأوروبي، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، سيظلان على حالهما، وما إذا كان سيتم إنشاء شيء على غرار الناتو، مع طوق أمني جديد على الحدود الغربية لروسيا.

لكن هذا كله يترك للمستقبل. أما الآن، فالشيء الرئيسي الذي يقترحه هو إشراك روسيا في مفاوضات سيكون من الصعب عليها الخروج منها.

تظهر التجربة أن واشنطن تجاهلت كل نصائح كيسنجر بتثقيف النخب الأميركية، وهو ما فعله الراحل بريجنسكي، الذي سرعان ما أصبحت كتبه عتيقة، ولم تواكب تطور الأحداث، رغم أنه في كثير من المنعطفات كان أكثر تحديداً وأحسن التنبؤ.

كيسنجر، من جانبه، كان اقترح الثنائي الكبير Chimerica المكون من الولايات المتحدة والصين. لكن هذه الفكرة لم تمر، لأن واشنطن غير قادرة على القبول بأن تكون على قدم المساواة مع أي طرف آخر. وأما بكين فأوضحت أنها لن تلتزم بأية قواعد توضع دونها، وهي نفس المشكلة مع روسيا.

يبدو أنهم لن يستمعوا إلى كيسنجر هذه المرة أيضاً. ومع ذلك، قد يكون لسلوك كيسنجر عواقب تتمثل في أنه قد يقدم نفسه كوسيط (مثل روبرت كينيدي في أيام أزمة الصواريخ الكوبية).

أن جميع النظراء المفترضين للكرملين قد أخرجوا أنفسهم من اللعبة، سواء أكان بايدن أو ماكرون أو حتى ميركل، والذين كانوا يقولون صراحة أن الغرب قام بتضليل موسكو من وراء اتفاقيات “مينسك”.

فهل سيتمكن كيسنجر من تصحيح شيئاً ما وفي أي مرحلة، أم سيتعين على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي قبول هزيمة كييف على أنها هزيمة لهما.

إن أفضل حل وسط يمكن اعتباره دائماً انتصاراً لـ “عالم بلا رابحين” وهو ما لن يحصل منذ 100. وليس الغرب جاهز بعد لتقبل هكذا حقيقة جيوسياسية، فهل طرح “الثعلب العجوز” هذا السؤال على نفسه، لا سيما أنه لا بمكن أن يكون لوساطة كيسنجر أي معنى وأية نتيجة، إذا ما حمل نفس مقاربة الإدارة الأميركية الحالية للنزاع الروسي الأوكراني.

* المصدر: موقع الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع