ليلى نقولا

 

تطورت آليات الدبلوماسية الحديثة، ودخلت إليها عناصر عدة بفعل العولمة والتطور التقني والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل، وخروج الحيّز السياسي من هيمنة النخب إلى مساحة الشعوب والأفراد على مستوى العالم. وفي هذا الإطار، دخلت الرياضة معترك العلاقات الدبلوماسية، وباتت جزءاً من الدبلوماسية العامة، وفرعها: الدبلوماسية الرياضية.

تعريف الدبلوماسية الرياضية في العلاقات الدولية يشير إلى استخدام الظواهر الرياضية في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ولتحقيق أهداف الدول على اعتبار أن الرياضة ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود اللغوية والوطنية والثقافية، ما يسهّل التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة أو التسويق لأفكار ومعتقدات. ولأهمية هذا الأمر، أنشأت الولايات المتحدة الأميركية قسم الدبلوماسية الرياضية في وزارة الخارجية في أعقاب أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، كوسيلة للوصول إلى الشباب في الشرق الأوسط من خلال كرة القدم، ثم توسع نطاق هذا القسم تدريجياً ليشمل جميع مناطق العالم ومجموعة كاملة من الرياضات.

تاريخياً، شكّلت الرياضة أداة دبلوماسية منذ الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة، وتمّ استخدام الألعاب الأولمبية لتحسين صورة بلد ما في الخارج، أو لتحسين العلاقات بين الدول المتحاربة. وخلال الحرب الباردة وقبلها، كانت الرياضة عاملاً هاماً في العلاقات الدولية، تستخدمها الدولة في سياساتها الخارجية، أو ضمن محاولاتها اكتساب الشرعية الداخلية والخارجية كما فعل هتلر خلال أولمبياد برلين عام 1936.

وقد تطورت الدبلوماسية الرياضية، وتباينت أساليبها منذ الحرب الباردة وما بعدها، وذلك على الشكل الآتي:

 

أولاً: الدبلوماسية الرياضية خلال الحرب الباردة:

أ‌-دبلوماسية كرة الطاولة:

خلال الحرب الباردة، تم استخدام الأحداث الرياضية الثنائية بشكل متكرر لزيادة التواصل بين الدول المعادية. مباراة كرة الطاولة، على سبيل المثال، بين الصين والولايات المتحدة سمحت للدولتين في منتصف الحرب الباردة باستئناف الحوار وكسر الجليد بينهما، الأمر الذي مهّد لزيارة تاريخية قام بها الرئيس الأميركي ريشارد نيكسون إلى الصين، ما أدى إلى تحسن العلاقات الثنائية بين البلدين في العقود القادمة.

ب‌- دبلوماسية لعبة “كريكيت”:

عام 1987، قرر رئيس باكستان، آنذاك، الجنرال ضياء الحق، حضور مباراة كريكيت بين الهند وباكستان في جايبو، حيث رافقه 68 مسؤولاً حكومياً وأفراد عائلته، وهي زيارة أدّت إلى تهدئة التوترات التي كانت قائمة بين الدولتين في ذلك الحين.

ج‌- حرب كرة القدم:

هي حرب حصلت بين السلفادور وهندوراس، واستمرت 100 ساعة، قبل التدخل الدولي الذي أوقفها. كانت لعبة “كرة القدم” الشرارة التي أشعلت الحرب، على الرغم من أن جذور المشكلة أعمق بكثير.

في بداية القرن العشرين، بدأ سكان السلفادور الهجرة بأعداد كبيرة إلى هندوراس؛ بسبب الضائقة الاقتصادية. وبحلول عام 1969، كان أكثر من 300 ألف سلفادوري يعيشون في هندوراس، ويشكّلون 20 في المئة من سكان هندوراس، الأمر الذي أدّى إلى تشنج العلاقات بين البلدين.

تحضيراً لكأس العالم لكرة القدم عام 1970، كان من المقرر أن تلعب هندوراس والسلفادور 3 مباريات تأهيلية في حزيران/يونيو 1969 بعد الانتهاء من صدارة مجموعتهما. وقعت اشتباكات واستفزازات عنيفة بين مشجعي الفريقين خلال المباريات، وحدثت عمليات قتل وتهجير بين الطرفين.

وفي المباراة الثالثة الفاصلة في مكسيكو، ربحت السلفادور المباراة، لكنها قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع هندوراس، وادّعت أنه في الأيام العشرة التالية للمباراة التي ربحت فيها السلفادور، أُجبر عشرات الآلاف من السلفادور على الفرار من هندوراس، واتهمت هندوراس بالإبادة الجماعية، وشنّ الجيش السلفادوري حملة عسكرية ضد هندوراس.

 

ثانياً: ما بعد العولمة: الرياضة في خدمة السياسة

سلطت الألعاب الأولمبية الشتوية التي أقيمت في روسيا عام 2014 الضوء على استخدام الأحداث الرياضية في البروباغندا وحملة العلاقات العامة والتسويق السياسي.

فيما استخدمت روسيا تلك الألعاب الشتوية ومونديال عام 2018، لتظهر الأهمية السياسية والسياحية للبلد، قاطع عدد من رؤساء الدول الغربية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي؛ احتجاجاً على ما سمّوه انتهاكات الحقوق المدنية لمجتمع المثليين في روسيا، وضمّ القرم. وبالمثل، بعد الحرب الأوكرانية هذا العام، تمّ منع الفرق الروسية من المشاركة في مباريات رياضية عالمية، وطرد عدد من اللاعبين الروس وحرمانهم من حق المشاركة.

ومؤخراً، تعرضت قطر بعد استضافتها المونديال لعدد من الانتقادات والحملات الإعلامية الغربية التي دعت إلى مقاطعة المباريات؛ بزعم إجحاف قطر بحقوق العمال، وتوجيه تهم بالفساد والرشوة لحصولها على حق استضافة المونديال، والتضييق على المثليين، وغير ذلك. وكانت التصريحات الألمانية غير الدبلوماسية مثيرة للدهشة، إذ قالت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، إنه “من الأفضل عدم منح شرف تنظيم البطولات لدول كهذه”.

وبعد انتهاء المونديال، شنّت حملة عنيفة غربية عنصرية ضد قيام لاعب كرة القدم الأرجنتيني، ليونيل ميسي، بارتداء “البشت” العربي، خلال الاحتفال بتتويج الأرجنتين بطل العالم لكرة القدم لعام 2022، بالرغم من أن المشجعين الأرجنتينيين رحبوا بتلك الصورة، معتبرين أنها بمنزلة التكريم وليست مسيئة أبداً.

وهكذا، دخلت الرياضة اليوم إلى السياسة من بابها الواسع، وباتت المباريات الرياضية مناسبة لتسويق الأيديولوجيات السياسية وللاستخدام في الحرب الناعمة، وفي تشويه صورة الخصم، وللاستخدام في فرض نمط ثقافي شمولي واحد على العالم، والترويج لقيم ثقافية معينة باعتبارها النمط الذي يجب أن تسير به الدول وإلا عدّت متخلفة وخارج ركب الحضارة الإنسانية (الغربية).

لكن نجاح قطر في استضافة المونديال، والإشادات الدولية بمستوى التنظيم والحشد سيدفع العالم إلى تغيير النظرة القديمة بشأن تقسيم العالم، وسيحثّ على استخدام الدبلوماسية الرياضية لإبراز التنوع الحضاري، ولتكريس حق الشعوب في الاختلاف الفكري والعقائدي والثقافي مع دول الغرب.

  • المصدر: الميادين نت
  • المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع