السياسية:

 

 

لو أردنا أن نُجري جردة للمصطلحات الأكثر تكرارًا على ألسنة الناس عام 2022، لحصد “الدولار” ربما لقب “مصطلح العام”.

العملة الخضراء شغلت بال عامة الشعب لما حملته من تداعيات. انشغل الناس طوال العام بين “نزل الدولار” و”طلع الدولار” وما بين الحركتين حدّث ولا حرج عن انعكاسات انسحبت على يوميات الناس. حركة الهبوط كانت ضئيلة جدًا أمام حركة الصعود حيث حلّق الدولار عاليًا وسجّل على مدى 12 شهرًا ارتفاعًا قياسيًا قفز فيه من 20500 ليرة حتى 46000 ليرة وذلك بارتفاع قدره نحو 26 ألف ليرة حتى تاريخه (23/12/2022)، ومن يدري قد يواصل التحليق أكثر فأكثر في الأسبوع الأخير من العام!!. 

الارتفاعات القياسية التي شهدها الدولار هذا العام تفوّقت على الأعوام السابقة، فعام 2020 مثلًا سجّل الدولار فيه بشهر كانون الثاني 2400 ليرة واختتم العام في كانون الأول على 8500 ليرة أي بزيادة نحو 6 آلاف ليرة طوال العام. أما عام 2021 فقد افتتح سوق الدولار في كانون الثاني على 8500 ليرة، وأقفل العام على 27500 للدولار الواحد أي بزيادة 19 ألف ليرة. المنوال ذاته أكمل في عام 2022 لكن مع ارتفاعات أوسع تفوق لو جمعناها ارتفاعات عامي 2020 و2021 سويًا، فيما يواصل التحليق ومن غير المعلوم الى أين سيصل في ختام العام.

الحديث عن أسباب ارتفاع الدولار وثغرات السياسة النقدية والمالية في لبنان ربما بات حديثًا مكررًا يُشبه بعضه البعض. على مدى أكثر من ثلاث سنوات من الأزمة طالعتنا العديد من التحليلات والرؤى والمقاربات من أصحاب العلم والاختصاص وأهل الاقتصاد والمال وأجمعت على اختلافها أنّ سعر صرف الدولار الجنوني ما كان ليكون لو أنّ في لبنان سياسة حكيمة تعرف كيف تُدار الأزمة، أو بالأحرى تريد فعلًا إدارة الأزمة لمصلحة الوطن والمواطن. اللعب والتلاعب بالدولار وبأعصاب اللبنانيين ليس قدرًا. منذ اللحظات الأولى كان يمكن وضع حد جذري لمهزلة الدولار، لكنّ المستفيد لا يريد فكيف اذا كان بموقع قرار وسلطة؟!.

وعلى قاعدة “فذكّر إن نفعت الذكرى”، يُجري الخبير الاقتصادي الدكتور حسن مقلد قراءة في دولار عام 2022، فيلفت الى أنّ ثمة مجموعة من الأسباب دفعت بالدولار صعودًا. لكنّه يشدد على أن كل تلك الأسباب لا تبرّر هذا الحجم من الصعود لو كان هناك حد أدنى من الإجراءات الإدارية والقضائية والتنظيمية. المضاربون استباحوا البلد بحمايات رسمية كاملة. وفق حساباته، فإنّ سعر الدولار من الناحية الاقتصادية ليس منطقيًا وطبيعيًا أن يكون الدولار 1500 ليرة، ولكن من الجنون أن يكون 30 ألف و46 ألف ليرة وكل هذه الأرقام التي نراها اليوم.

2022..الدولار مصطلح العام

لبنان عائم على الدولارات!!

ما يقوله مقلد يستند الى قاعدة علمية ومنطقية مفادها أن المحدّد الأساسي للدولار في الأزمات هو وجوده وتوفره. وفق مقلد، فإنّ حجم توفر الدولار في لبنان أكثر بكثير من حجم الحاجة اليه. لبنان -برأيه- عائم على الدولارات. وإذا أردنا أن نتحدّث عن موجوداته فهي رسميًا 11 مليار دولار وهذا فعليًا موجود رغم كل الأزمة التي يتخبط فيها. صحيح أنّ هذا المبلغ موجود تحت عنوان “احتياطي الزامي” لكنّه ليس ملكًا للدولة بل للناس، مع الإشارة الى أنه بإمكان مصرف لبنان والدولة استخدامه. برأي مقلّد، فإنّ مبلغ الـ 11 مليار دولار ليس قليلًا بعد 3 سنوات من الانهيار، فمصر “بقضها وقضيضها” لديها 7 مليارات دولار رغم أنها دخلت مع صندوق النقد الدولي في ثلاثة برامج وحصلت على ما يفوق الـ44 مليار دولار من السعودية والامارات.

يُدرج مقلد بعض الأمثلة التي تقطع الشك باليقين وتبيّن كيف أنّ لبنان يمتلك الكثير من الدولارات ما ينفي قطعًا فرضية وشماعة قلّة العرض التي تسبّبت بأزمة ارتفاع الدولار. لبنان استورد منذ بداية العام الحالي وحتى الأول من تشرين الثاني حوالى 18 مليار دولار أي بالقدر ذاته الذي كنا نستورده قبل الأزمة، وهذا ليس طبيعيًا ولا منطقيًا يقول مقلد. الصدمة تعترينا عندما نغوص ببعض المستوردَات. مليار و200 مليون دولار بدل سيارات جديدة. 500 مليون دولار بدل قطع غيار سيارات، 20 مليون دولار عطور.

وفق مقلد، لا يوجد بلد في العالم غارق في أزمة كأزمتنا ويكون فيه الاستيراد مفتوحا بهذه الطريقة بل لا بد من وضع محددات. في بلدان العالم عندما تندلع أزمة وينجز “كابيتال كونترول” لمحاصرتها تتحدّد ما هي السلع التي سيتم استيرادها بناء على ترتيب الأولويات. وهنا يشير مقلد الى أن البلد الذي يستورد بهذه القيمة أي يُصدّر الى الخارج مبلغ 18 مليار دولار هو بكل بساطة بلد عائم على الدولارات، ما يعني أنّه دخل الى لبنان مبلغ أكثر من 18 مليار دولار في الفترة نفسها.

يكرّر مقلد ويشدّد على أنّ حجم دخول الدولار الى لبنان وتوفره كبير، ما يعني أنّ العرض كبير والمطلوب أقل. وهنا يسأل: لماذا يرتفع اذًا؟ قبل أن يجيب على نفسه بالإشارة الى أنه بكل بساطة هناك “صناعة” كاملة تستفيد منها مجموعة كبيرة من المصارف والسياسيين والمافيا الموجودة.

هؤلاء يستغلون باب تمويل جديد اسمه “اللعب بالدولار”. يأسف مقلد فالمضاربون معروفون بالأسماء وطريقة عملهم مكشوفة وقد أجريت عدة محاولات لإنزال الدولار وكانت ناجحة حيث انخفض الدولار بموجبها أكثر من عشرة آلاف ليرة، لكن العملية لم تُكمل لأن المضاربين هدّووا من يعمل على محاربتهم وعلى مرأى العالم، فيما لم تحاسبهم أي جهة رسمية أو قضائية، وبكل بساطة لأن لهم شركاء.

قضية الدولار تحولت الى تجارة وحرفة كاملة

ولدى مراجعته لأسباب جنون الدولار، لا يستثني مقلّد غياب الحل السياسي والأزمة البنيوية الكبيرة فضلًا عن غياب الاقتراحات الاقتصادية والإجراءات التي تشكّل مشكلة ضخمة جدًا، ولكن تحت هذا السقف ثمّة دولار متوفر يجب أن يكون سعر الصرف بموجبه مختلفًا، يقول مقلد الذي يأسف لتحول قضية الدولار الى تجارة وحرفة كاملة بكل معنى الكلمة. وفق قناعاته، لا بد من برنامج اقتصادي وحل سياسي، وهذا مطلوب لكن بالموازاة ثمة إمكانيات لإدارة الأزمة تكفل مئة إجراء غير الإجراءات الموجودة. منها على سبيل المثال، توقيف المضاربين عند حدّهم. يعطي مقلّد مثالًا بسيطًا لا يزال حيًا. قبل أيام هبط الدولار نحو 4 آلاف ليرة، فطالعنا أحد المضاربين غير الشرعيين بالإشارة الى شراء 7 ملايين دولار على سعر صرف 46 ألف ليرة لبنانية، ما أدى الى ارتفاع الدولار مجددًا، وهذا موثّق بالصوت والصورة، لكن لا أحد تحرّك، يقول مقلد.

إجراء ثان من الممكن اللجوء اليه يكمن في ما جرى طلبه من المصارف من وضع 3 بالمئة من الدولارات الموجودة لديها كاحتياطي الزامي على الودائع التي كانت عام 2019. وفق مقلد، يجب أن يتم منع المصارف من الإتيان بدولارات من الخارج، وحتى اذا أتت بدولارات من داخل لبنان يجب أن تكون وفق معايير معينة وليس بسقف مفتوح.

يعطي مقلد عنوانًا للدولار عام 2022 بالقول “مرآة لإدارة الأزمة”. برأيه، فإنّ الدولار يعكس واقعًا حقيقيًا لكيفية تعاطي المسؤولين مع الأزمة السياسية والدستورية والاقتصادية، يختم مقلد مقاربته الاقتصادية.

* المصدر: العهد الاخباري
* المادة الصحفية: تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع