سيول في السعودية أم موسم لفضح الفساد؟
السياسية :
ككل مرة تتجاوز فيها كمية الأمطار المتساقطة المعدل الطبيعي تغرق شوارع السعودية وأحياؤها في سيول جارفة وتؤدي إلى وقوع خسائر بشرية وأضرار مادية، ففي الأمس جدة و اليوم مكة المكرمة بما يذكر أيضا بكارثتي جدة عامي 2009 و2011 حيث توفي وفقد مئات المواطنين بسبب السيول.
و مع عودة موسم الأمطار إلى السعودية تجتاح السيول شوارع المدن و البلدات في عدد من المحافظات لتحولها إلى أنهار و بحيرات، وتتراوح مع تعالي صرخات الاعتراض و الاحتجاج على مواقع التواصل الاجتماعي على سوء إدارة الأزمات في البلاد منددة بالفساد و عدم تأهيل البنى التحتية في أكثر بلدان العالم غنى بالنفط !! فبعد أقل من شهر من غرق محافظة جدة السعودية بمياه الأمطار، شهدت مناطق عدة بأرجاء المملكة، خلال الساعات الماضية، هطول أمطار غزيرة، وسط انتقادات متزايدة لضعف الاستعدادات لهذه الأجواء المناخية، ومن جانبها، رفعت منطقة مكة المكرمة، درجة الإنذار إلى تنبيه متقدم مع استمرار هطول أمطار من متوسطة إلى غزيرة على عدد من المناطق.
حجم الضرر
بث العديد من الناشطين، يوم الجمعة 23 ديسمبر، مقاطع فيديو تُظهر غرق مناطق واسعة من المملكة، وتحديدا في مكة المكرمة، في مياه الأمطار والسيول. التي شهدت سيولا جارفة أغرقت شوارع المدينة وجرفت المكبات في الشارع، بعد موجة أمطار غزيرة. وأظهر مقطع فيديو، تكدس السيارات في حي العتيبية في مكة المكرمة بسبب السيول. وأعادت مشاهد غرق أحياء في مكة المكرمة الى الأذهان مقاطع شبيهة في محافظة جدة حيث أدت الامطار الغزيرة في جدة إلى تعليق الدراسة وتأخير رحلات جوية وإغلاق الطريق المؤدية الى مكة لساعات رغم وجود تقارير عن الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك تتحدث عن أن الأمطار التي عمت مناطق المملكة تعتبر طبيعية جدا، ولكن البنية التحتية السيئة جعلت الأمر الطبيعي أمراً كارثياً، فعدم وجود شبكة تصريف وخاصة الجسور جعلت المركبات تعلق في بحر من المياه.
و يظهر أحد الفيديوهات أثناء هجوم السيول على حي الضيافة في مكة المكرمة، سيدة تستغيث وسط حالة من الهلع والخوف و هي تطلب من قوات الدفاع لإنقاذ الأشخاص الذين جرفوا بين سيول مكة المكرمة اليوم، ولحقت بهم السيارات في محاولة منهم لإنقاذ أنفسهم، إلا أن حركة المياه كانت أقوى.
الهروب من تحمل المسؤولية
عدم تحمل المسؤولية يتكرر في كل مرة، فبعد كارثة 2009 خرج الأمير خالد الفيصل أيضاً مبررًا ومختلقًا للأعذار. وبعد سيول 2022 حاول الإعلام الرسمي تهوين الكارثة وعدم نقل أضرارها الحقيقية. وكان محافظ جدة الأمير سعود بن جلوى زعم أن الأمطار هذه السنة بلغت ١٧٩ ملم، بينما يقول خبراء بالأرصاد إنها لم تتجاوز ٩٠ ملم!!. وفوق ذلك، فالحكومة والقصر الملكي لم يقدما حتى بيان اعتذار أو مواساة للأهالي، أو تطييبا لأهالي الضحايا والخاسرين، من خلال وعدهم على الأقل بمحاسبة المقصرين.
في مملكة آل سعود يُكَرَم الفاسد!
من الواضح أن الحكومة بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان، لم و لن تحاسب المقصرين ومحافظ جدة باعتباره من العائلة المالكة يبقى في منصبه ولن يحاسبه أحد، ومثله أمير مكة، وكما يعلم الجميع ستتحول التهم ضد صغار الموظفين، كما يفعلون دائما!
في أغلب دول العالم ولاسيما المتقدّمة منها؛ تعكف وزارات وهيئات ومنظمات مختلفة، بوزرائها وخبرائها ومختصيها، من أجل استحداث طرق وآليات وأساليب جديدة لمكافحة الفساد والتعجيل بهدم أركانه، كما يقوم الإعلام فيها بتدعيم ذلك عبر تقاريره وتحقيقاته الاستقصائية التي تلاحق الفاسدين في كل مكان وتترصّد لهم، لذلك وصلت هذه الدول إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدّمٍ في شتّى المجالات.
أما في المملكة العربية السعودية – وللأسف – فإن الناس لا ينفكّون من تريد عبارة “يا حظ الفاسدين في هذا البلد”، فالفساد في السعودية اتّخذ طابع “القداسة”، وكبار الفاسدين لهم وضع الحصانة، أبواب الخزينة مُفَتَّحةٌ أمامهم، ينهبون منها ما يشاؤون ليلاً ونهاراً، ولا أحد يجرؤ على محاربتهم أو انتقادهم، ومن يفعل ذلك يلقَ أصنافاً من التضييق والملاحقة، حتى وإن كان انتقاداً عابراً وغير مباشر.
بعد كارثتي 2009 و2011 تشكّلت لجان لكشف المتورطين، وتعهّد الأمير نايف بكشف المتورطين قريبًا، ولكن لم تصب الفأس رؤوس الفساد الكبيرة. لنضرب مثلاً صغيراً عن حجم الفساد الكبير في البلاط الملكي، ألا يحقّ للمواطنين في السعودية أن يتساءلوا عن نتائج لجنة مكافحة الفساد العليا التي تأسست بأمر ملكي عام 2019، برئاسة ولي العهد محمد بن سلمان، والتي نصَّت على إعادة التحقيق في ملف فساد كارثة سيول جدة بأثر رجعي؟ وبدل أن تتم محاربة الفاسدين والقبض عليهم وسَوقهم إلى المحاكم ومن ثمَّ إلى الزنازين، يتم التكتم على جرائمهم واختلاساتهم، وربما تكريمهم وترقيتهم إلى مناصب أعلى، وفي المقابل يُسجَن ويُعاقَب منتقدوهم والمطالبون بمحاكمتهم، ولا يمر يوم إلا وتخرج إلى العلن فضيحة فساد مدوية مالية أو اخلاقية وغير ذلك يشيب لها الرأس، لكن القضية إما أنها تندثر بكامل تفاصيلها -مع سبق الإصرار والترصّد-، أو أن الفاعلين يبقون مجهولين وتُنسى القضية مع تقادم الأيام، وقد يحصل أن يتم تكريمهم وترقيتهم، وهذا ما حصل مع أمين محافظة جدة السابق عادل فقيه؛ إذ بدل أن يُعاقَب (فقيه) على كارثة سيول جدة في 2009، والكل أجمع وقتها على أن الفساد والفشل وسوء التخطيط والإدارة، هو المسبب الأول لها، إلا أن المواطنين تفاجؤوا بصدور أمر بتعيينه وزيرا للعمل بعد أشهر قليلة من وقوع الكارثة. وكم من فاسد ومقصّر غيره تمت ترقيته إلى مناصب أعلى بعد اكتشاف فساده وتقصيره! وهذا الأمر أقل ما يمكن أن يُقال عنه: “تحدٍّ للوطن والمواطن” وتشف بالعباد وتدمير للبلاد.
اصلاح مشكلة الصرف الصحي تبتلع أموال الشعب
ومع صعود محمد بن سلمان لولاية العهد، رفع شعار “مكافحة الفساد”، وتعهّد بمحاسبة المقصرين عن كارثة جدة 2009 بأثر رجعي. لكنّ الحقيقة أن شيئًا لم يتغيّر ورائحة الفساد زكمت الأنوف أكثر، فمع أول موجة أمطار حقيقية تبيّن أن لجنة مكافحة الفساد التي أنشأها وترأسها تحتاج لمن “يكافح فسادها”. وكثرت الوعود بوضع حلول نهائية للمشكلة، ومعها كثرت الأموال التي سُرقت بحجة تنفيذ المشاريع التي تنوعت بين الوهمية وسيئة التنفيذ. بعد كارثة 2009، تم الكشف عن إنفاق 1.6 مليار ريال لمعالجة مشكلة الصرف الصحي في جدة على مدار 4 عقود، فأين ذهبت ومن ابتلعها؟.
وفي عام 2012 أرست الحكومة 8 مشاريع وصفتها بـ “الحلول الدائمة” لمعالجة مشاكل الصرف الصحي في جدة. كما تمّ تخصيص 900 مليون ريال في 2015 في مدن المملكة ومنها جدة. و ها هي اليوم قد مضت عدة سنوات وجاءت موجة الأمطار لتعرّي المشاريع الفاسدة.
وبدل أن يسعى ابن سلمان لإصلاح الموجود من مجاري الصرف الصحي، وإنقاذ الأحياء المهددة بالغرق مع كل موجة أمطار! خصّص 75 مليار دولار لجعل جدة ضمن أفضل 100 مدينة في العالم، مقابل 106 ملايين دولار فقط لتحديث أنظمة الصرف الصحي في المدينة. لتبقى جدة منكوبة بين مطرقة الغرق وسندان الهدد.وعلى مدار عقود بقيت جدة تعاني إهمال المسؤولين ووعودهم الكاذبة أكثر ممّا عانت من الأمطار والغرق. من الجدير بالذكر أن السعودية استطاعت تهجير ما يقارب من ربع السكان وتدمير ممتلكاتهم في غضون أشهر، من أجل إعادة تخطيط المدينة كما تدعي، ولكنها لم تستطع إنشاء بنية تحتية قوية في مدينة تتعرض للسيول كل عام تقريبًا، على امتداد ١٤ سنة ففي كل عام هناك مونديال مأساوي في جدة ومدن أخرى، ولكن بلا فيفا ولا جمهور ولا تصفيات.. في هذا المونديال الكل يخسر والدولة تتوج بالفضائح. والمؤسف في الأمر أن هذه المأساة ليست في دولة فقيرة إنما في دولة من أغنى دول العالم في الذهب الأسود.
الحقيقة المُرة
للوهلة الأولى يُخيَّلُ لمن يعيش خارج المملكة العربية السعودية أن المواطن السعودي يعيش اليوم في رفاهية تضاهي رفاهية مواطني كندا وسويسرا وغيرهما، وأن البنية التحتية للبلد تُنافس بنية اليابان وسنغافورة وماليزيا، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، صحيحٌ أن السعودية تُعتَبرُ واحدةً من أقلِّ دول العالم مديونية، لكن مواطنيها هم الأعلى مديونية على مستوى العالم، إذ إنّ الغالبية العظمى من الشعب تذهب معظم رواتبهم للبنوك لتسديد القروض التي عليهم.
اليوم، وبعد هذه السنوات الترليونية؛ لدينا نسبة تترواح بين 65% إلى 75% من المواطنين لا يملكون سكناً خاصاً بهم، وهم يرزحون تحت رحمة المؤجّرين، رغم المساحة الشاسعة للبلد والإماكانيات المادية الضخمة، ناهيك عن معاناة الناس مع العلاج الذي لا يحصل كثير منهم عليه إلا بعد استجداء كبار المسؤولين – هذا إن حصلوا عليه قد أن يداهمهم الموت – فضلاً عن معاناتهم مع البطالة وسوء البنية التحتية ورداءتها وغير ذلك من الكوارث التي يطول ذكرها.
ورغم أن الحكومة لا تفصح عن بيانات رسمية حول معدلات الفقر في البلاد، إلا أن تقارير صحفية تداولتها صحيفتا “واشنطن بوست” الأميركية و”الغارديان” البريطانية في عام 2013، أشارت إلى أن هناك ما بين 2 إلى 4 ملايين سعودي يعيشون تحت خط الفقر، وهنا نتحدّث عن فترة كانت فيها الميزانية تحقق فوائض كبيرة، ولم يكن المواطن يعرف شيئاً اسمه ضرائب أو فواتير كبيرة، فالدولة كانت حينها تدعم أسعار الطاقة وخدمات وسلع كثيرة أخرى، أما اليوم فيمكننا أن نقول جازمين إن نسبة الفقر زادت بشكل مهول، فهو ينتشر انتشار النار في الهشيم، وخصوصاً بعد تطبيق “رؤية السعودية 2030” التي كان عنوانها العريض هو “التقشف”، فأثقلت كاهل المواطن وزادته أعباءً فوق أعبائه، إذ فرضت الضرائب الكبيرة حتى على أبسط الخدمات، ورفعت الدعم عن أسعار الطاقة فضلاً عن كثيرٍ من السلع والخدمات إضافة إلى زيادة رسوم فواتير الماء والكهرباء، بنسبة وصلت إلى أربعة أضعاف، من أجل تقليص العجز الذي أصاب الميزانية في السنوات الأخيرة بفعل استمرار النهب المنظّم لثروات البلد
ختام القول
سيول جدة و مكة هي نموذج صغير يتسبب به الفساد المستشري في جسد هذا البلد، ومن أهم الأسباب ، هو عدم وجود دور للشعب في انتخاب مسؤوليه من أهل الكفاءة والريادة و السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف يعد ابن سلمان بإنشاء نيوم في حين تعاني جدة و مكة كل هذا الضعف في البنى التحتية؟ فالمدن تغرق من فساد الحاكمين قبل غرقها بالمياه، وهذا الإهمال لأرواح المواطنين يتجلى إذا عرفنا أن القصور لم تصب بأذى، فقط أحياء السعوديين، و من المتوقع أن الغرق سوف يتعدى مستوى البنى التحتية، فالشباب السعودي بات يسقط اخلاقيا يوما بعد يوم . من جهة أخرى يظن الأمير الشاب أنه إذا سجن وغيب وضيق على من يطالب بحقوق المواطن وإصلاح الاقتصاد والبنى التحتية، فإن ذلك سيغطي فشله بإدارة الدولة، حتى جاء المطر ففضحه وفضح فشله.
المصدر : الوقت التحليلي
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع