مواربة إغفال السياسة في “القمم الثلاث” العربية الصينية ـ الخليجية ـ السعودية
السياسية:
ولّدت القمم الثلاث، الصينية-السعودية والصينية-الخليجية والصينية-العربية، في 7-9 كانون الأول/ ديسمبر، بيانات ختامية جامعة رئاسية وعريضة.
وتناولت البيانات والخطب البيانية التي قرأها أصحابها، ولم تكن من وحي الخاطر ولا من فيضه، على قول أحد أعلام “النهضة” الثانية أو الثالثة، المصري أحمد أمين، أموراً دقيقة مثل استقرار الصومال ولبنان والسودان (في البيان العربي-الصيني)، أو “(دعم) ما يسمى مجلس القيادة الرئاسي في اليمن، بقيادة الرئيس الدكتور رشاد العليمي” (في البيان الخليجي-الصيني)، أو الحرص على احترام قادة جمهورية العراق “سيادة الكويت وحرمة أراضيها” وحدودها البحرية التي لم تُرسم بعد (البيان نفسه).
هذه وغيرها هي من الأمور ذات الصلة، والمسائل التي يملي تناولَها الظرف الذي تُعقد فيه القمة أو أشكال اللقاءات الأخرى. ولا يفوت القارئ حرص الإعلانات “الختامية” حرصاً بارزاً وشديداً على التذكير بالمبادئ العامة، والأوسع عمومية، التي يحتكم إليها أصحاب الإعلانات.
وهذا يحيل بعض فقراتها مقتطفاتٍ من نصوص مرجعية تشبه مقدّمات القرارات الأممية، أو الأحكام القضائية، قبل دخولها في صلب الموضوعات التي تبتّها أو تقضي فيها بقضائها.
العمومية
لا يحيد “بيان الرياض”، وهو صدر في ختام اللقاء العربي-الصيني، من فقرته الأولى التي “(تعيد) التأكيد على التزام جميع الدول الثابت بمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك مبادئ الاحترام المتبادل لسيادتها ووحدة أراضيها… والامتناع عن استخدام القوة…”، إلى فقرته (غير البروتوكولية) الأخيرة التي تتحدث عن “(التأكيد على)… تعزيز الحوار بين الحضارات واحترام الثقافات المختلفة، ونبذ دعاوى الكراهية والتطرُّف وصراع الحضارات بين أتباع الأديان والثقافات…”، لا يحيد عن التزامه جانب العمومية المبدئية.
ويستوقف في بعض الفقرات استعادتها آراءً أو أحكاماً سبق للقطب الصيني أن أعلن انحيازه إلى خلافها، أو تحفّظ عنها، إما صراحة ومباشرة وإما مواربة. فالفقرة الأولى من “إعلان الرياض” العربي-الصيني تعرب عن إرادة الطرفين “صيانة النظام الدولي القائم على أساس القانون الدولي”.
والنظام الدولي القائم على قواعد (قانونية)” لازمة التنديد الغربي، الأوروبي والأطلسي، والهندي-الهادئ (الهند واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية)، بانتهاك روسيا فلاديمير بوتين قواعد هذا النظام الدولي وتواطؤ صين شي جينبينغ عليها.
ووقّع الرئيسان، الصيني والروسي، في 4/2/2022، عشية عدوان القوات الروسية على الدولة الأوكرانية في أواخر شباط/ فبراير 2022، بياناً مدوّياً أعلن سعيهما في بناء نظام عالمي جديد و”عصر جديد” يحل محل النظام الحالي، ويحرره من السيطرة الأميركية الأطلسية، ومن عولمتها الظالمة وغير المتكافئة، وأحادية قطبيتها، واستباحتها استقلال الدول الأخرى، وتدخّلها في شؤونها الداخلية وفرض عقوبات دولية وغير قانونية عليها…
وقد تتستر عمومية الصيغة، ومجيئها في سياق من العموميات، على مخالفتها صياغات صينية أخرى، سابقة ولاحقة. ويجمع الطرفان، “العربي” (12 دولة من 22) والصيني على استثناء الحقوق الإنسانية- على أضيق معانيها التي تتناول تحريم التعذيب والاعتقال التعسّفي، وعلى أوسعها، وتتناول التمييزَ في معاملة الأقليات والنساء ومجتمع الميم- من أركان النظام الدولي “القائم على قواعد”.
وفيما يشبه المقايضة غير المتكافئة، يحصي الجزء الثاني من الفقرة الأولى في إعلان الرياض، “القضية الفلسطينية” مباشرة بعد الجزء الذي يعيد التأكيد على التزام مبادئ وميثاق الأمم المتحدة. فتتوّج “القضية” السياق المبدئي، وتجيء، في صيغتها العربية التي أقرها مؤتمر القمة في بيروت، في خريف 2002، مجيء ثمرتها المكتملة الأركان: قيام دولتين، حدود عام 1967، القدس عاصمة الدولة الفلسطينية.
الحرف الصيني
ولقاء التبنّي الصيني، “يشدد” البيان، أي قطبه العربي، على “تقدير المساعي الصينية في المساهمة في نشر السلام والتنمية الدوليين… (وعلى) التزام الدول العربية الثابت بمبدأ الصين الواحدة”. وكأن الصياغة العامة لما يُعرف في اللغة الديبلوماسية الدولية الشائعة بـ”مبدأ الصين الواحدة” (وهو يقضي بعدم الاعتراف بتايوان دولةً تتمتع بكيان سياسي دولي إلى جانب الكيان القاري، ويقتصر على هذا فلا يدعو إلى قطع المبادلات معها، على ما تفعل جمهورية الصين الشعبية) لا تكفي. فتضيف “الدول العربية” إلى التزامها “دعمها لجهود بكين في الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها”.
وكانت الصين نفسها، إلى ختام ولاية شي جينبينغ الأولى، وقبل تعديل الدستور الصيني في 2018 وإلغاء المادة التي تقصر رئاسة الدولة وأمانة الحزب الشيوعي العامة على ولايتين، تصف “جهود” الصين هذه، وتحصرها في الوسائل السلمية، ولا تستطرد إلى القول، على ما صارت تفعل منذ التعديل الذي أطلق يد شي في التسلُّط وفي اختيار الجهود، “بما فيها (أي في الجهود) القوة العسكرية”.
وينزلق البيان، أي “الدول العربية” التي وقّعته والمملكة العربية السعودية في مقدّمها، إلى صيغة تسدّ المنافذ على تأويل المسألة التايوانية تأويلاً مرناً. فيؤكد “مجدداً على أن تايوان جزء لا يتجزّأ من الأراضي الصينية، و(يرفض) استقلال تايوان بأشكاله كافة”. وهذا قيد ثقيل على الموقف الديبلوماسي العربي. فأشكال الاستقلال كافة” تطلق يد التذرُّع الصيني. وفي وسع بكين أن تحمل على شكل من أشكال الاستقلال “المرفوض”، فعلاً مثل شراء السلاح، أو عقد معاهدة تجارية، أو إجراءً تايوانياً داخلياً ذا طابع ثقافي.
على نحو ما يملي القطب الصيني على شريكه العربي صيغته الحرفية والجاهزة للقضايا السياسية التي تهمه، يقسره أو يجبره على السكوت عن القضايا التي يرفض التطرق إليها، وتدرجها بكين في باب ‘التدخّل في شؤون الدول الداخلية بذريعة الحفاظ على الديمقراطية’”
وتمضي “الدول العربية” على مماشاتها موقف الحزب الشيوعي الصيني و”فكر شي جينبينغ”، منذ مؤتمر الحزب العشرين في الشهر العاشر من العام الجاري. فتقرّه على معالجته “ملف هونغ كونغ في إطار دولة واحدة ونظامين” على ما يكتب البيان غير متحفّظ عن ألفاظ إدارية وبوليسية على شاكلة “ملف” ويضاف اسم البلد إليه (“ملف لبنان” في عهدة الشقيقة سوريا، مثلاً، أو “ملف العراق” في عهدة قاسم سليماني وفيلقه…).
وتحمل “الدول” على محمل الجد الخرافة الصينية الأورويلية، نسبة إلى الكاتب البريطاني جورج أورويل (1903- 1950) وروايته “1984” التي تصوّر القمع المشهود والاعتقالات والقوانين المفروضة والانتخابات المزوّرة في صورة “صيانة الأمن القومي (الصيني) وتنمية الديمقراطية واستكمالها”، على ما يكتب البيان على مرمى صوت أو هتاف من ضفة الخليج الإيرانية. ولا يرى الموقّعون العرب حرجاً في الإدلاء برأي في قضية داخلية بحت مثل قضية هونغ كونغ.
الآمر والضعيف
وعلى نحو ما يملي القطب الصيني على شريكه العربي صيغته الحرفية والجاهزة للقضايا السياسية التي تهمه، ويخشى التحفُّظ عنها، يقسره أو يجبره على السكوت عن القضايا التي يرفض التطرق إليها، وتدرجها بكين في باب “التدخّل في شؤون الدول الداخلية بذريعة الحفاظ على الديمقراطية”، على ما يكتب البيان. فعلى خلاف قضيتي تايوان وهونغ كونغ العلنيّتين، على تفاوت في العلانية، يحجم الإعلان “المشترك” عن الإلماح الحيي إلى قضية قوم الإيغور المسلمين في إقليم شيانغيانغ، وسوسهم بأحكام طوارئ عرفية ومتشدّدة، على ما وصف الحال تقرير لجنة حقوق الإنسان في المنظمة الأممية.
فتدعو صين شي جينبينغ رئيس مجلس السيادة السوداني، وسلطان عمان، وملك البحرين، ورئيس حكومة لبنان، ورئيس جمهورية القُمُر، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي، إلخ، إلى قول رأيهم القاطع والجازم في سياسة الحزب الشيوعي الصيني “المسألةَ الوطنية (القومية)”، وفي “حلها”.
ويرضى الملوك والأمراء والرؤساء إشاحة وجوههم، وغض أنظارهم، وعقد ألسنتهم، حين يتناول الأمر أحوال جماعة من الجماعات الصينية تجمعهم بها رابطة دينية يحكم بعضهم باسمها، وبنى عليها بعض آخر، في وقت سابق ولا يزال، ديبلوماسية أهلية مؤذية وينسب نفسه و”شعبه”، بذريعتها، إلى “(الحق) في استكشاف طرق تنموية خاصة (وفي) اختيار الطرق لتطوير الديمقراطية والنظم الاجتماعية والسياسية التي تتناسب مع (الظروف) الوطنية…”.
ويظهر التفاوت بين حرفية الالتزام “العربي” بالصيغ الصينية وبين مرونة موافقة الصين اللفظية على الرأي العربي في الموقف من “الشأن الإيراني”، على قول البيان الختامي “للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية”. فإذا تناول البيان السعودي-الصيني المشترك، وهو غير بيان مجلس التعاون، “الشأن الإيراني” اقتصر الرأي على “ضرورة تعزيز التعاون المشترك لضمان سلمية برنامج إيران النووي”، ودعوة إيران إلى “التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والمحافظة على منظومة عدم الانتشار” ويكاد البلدان أن يعتذرا عن جرأتهما على تناول الموضوع النووي، فيؤكدان مباشرة على “احترام مبادئ حسن الجوار”.
وأما إذا تناول بيان مجلس التعاون، وهو بيان منفرد باسم القمة الخليجية-الصينية “المشتركة”، ولا يُلزم الصين بشيء، على خلاف “إعلان الرياض”، العربي-الصيني، وعلى خلاف البيان الصيني-السعودي، (إذا تناول) الشأن نفسه، لم يكتم إدانته “استمرار طهران في دعم الجماعات الإرهابية والميليشيات الطائفية”. ولا “تعفف” عن تهمة طهران بـ”(تهديد) الأمن القومي العربي، و(زعزعة) الاستقرار في المنطقة، و(تعويق) عمل التحالف الدولي لمحاربة (داعش)”. وندد بـ”استمرار احتلال إيران الجزر الثلاث” الإماراتية، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى.
والفرق بين الصيغتين جلي وصريح. وهو الفرق بين نهج صيني ديبلوماسي وسياسي آمر، وصادر عن يقين بتمكّنه ومكانته وموارده، وبين موقع طرف عربي-خليجي-سعودي ضعيف يدّعي قدرات لا يملكها، ويحمل نفسه على دور لا طاقة له بتحمّل تبعاته.
المواربة
وكانت المقايضة الفلسطينية-التايوانية آذنت بهذا التفاوت. والحق أن مقارنة قضية فلسطين، في صيغتها العربية، بمسألة تايوان، في صيغتها الصينية، فاسدة في الأساس. فالأولى هي قضية احتلال، وسلطة احتلال واستيطان، واستقلال فلسطيني في المقابل. أما الثانية فهي مسألة ضم شعب وأرض قسراً بزعم “استعادة” جزيرة يعود انفصالها، عن يد الاحتلال الياباني، إلى 1896. ولم يكن للبر سلطة عليها مذذاك.
فتايوان، في هذه الحال، هي الطرف الذي يتمسك بالاستقلال، ويصرّ عليه، باسم هوية سياسية واجتماعية، وليس باسم عصبية قومية، شأن هونغ كونغ وعلى مثالها. ولعل هذا، أي تقديم الهوية السياسية والاجتماعية على الهوية العصبية والخالدة”، على قول ميشيل عفلق، ما يستميل “الدول العربية” إلى السياسة الصينية “القومية” والعدوانية والجيو-سياسية أو الإمبراطورية.
والسياسة الإيرانية، في شأن الجزر الثلاث، هي عينها نهج السياسة الصينية في شأن تايوان، على رغم الفرق السكاني والسياسي بين الموضوعين. ولم يرد ذكر الجزر الثلاث لا في البيان الصيني-العربي (إعلان الرياض)، ولا في البيان الصيني-السعودي.
وبيان مجلس التعاون الخليجي، وهو وحده يتناول مسألة الجزر، لا يُلزم إلا أصحابه الخليجيين، على ما مر.
فلا ريب في أن الحزب الشيوعي الصيني يدرك وجه الشبه بين سياسته التايوانية وبين السياسة الإيرانية، ولا يُقحم رأيه في هذه، على خلاف زهو “الدول العربية” بتنكّبها “متاهة الاستقطابات”، على قول وزير الخارجية السعودي معقّباً على القمم الثلاث في إحدى ندوات مؤتمر السياسة العالمية في أبوظبي (في 11/12).
ويختصر الوزير السعودي سياسة بلاده الخارجية، على المثال الصيني اللفظي الموارب والمتجرّد ظاهراً، في “بناء الازدهار المستدام للشعب السعودي أولاً، ولشعوب المنطقة والعالم… (و) تعزيز قدراتنا، وتحسين وتقوية برامجنا الاقتصادية والاجتماعية وتقوية منطقتنا…”. ويتجنّب مديح “الحوار والتفاعل والتعاون” الخلافات السياسية والمعيارية والحقوقية القانونية القائمة- أو التي ينبغي أن تقوم وتنشب إذا صدقت الإحالة إلى نظام دولي راسٍ على قواعد قانونية-، ويذيبها في محلول لفظي، على مثال البيانات التي تقدّمت الملاحظات عليها.
و”اقتصادوية” (أو تعليل الحوادث والوقائع كلها بعوامل اقتصادية خالصة) الإعلانات العامة وبيانات النوايا تتعثر بنتؤ القضايا السياسية وخشونتها القاسية. ووصف الوقائع الاقتصادية، وهو يفترض العبارة والترجمة الموضوعيّتين والرقميتين، لا يخلو من غلبة السياسة المضمرة عليه. وحين ينوّه فيصل بن فرحان، وزير المملكة، بمرتبة بلده الاقتصادية الحالية، الخامسة عشرة على قوله، والقادمة المرجوّة، العاشرة، تستخفه النشوة فيغفل عن بيان تركيب الناتج الإجمالي السعودي، وحصص الاستثمار الحكومي، والتصدير، والاستهلاك المنزلي، والدين الداخلي في الناتج هذا. وهذه الأبواب تصف من قرب وحقيقة، وعلى المدى الطويل، حال الاقتصاد. وتصف سياسة الاقتصاد ومحتوياته الاجتماعية.
ويصدر تجنُّب السياسة والتنصُّل منها، حين يخوض المتنصلون في “وحولها”، عن سياسة وثقافة سياسية تتذرع بالعمومية الجامعة والمسالمة إلى إرساء الهيمنة والغلبة على أسس تضمن هيمنة وغلبة أقسى وأعرض من تينك القائمتين على خليط معلن من القوة والمصلحة والمعيارية والحق. وبعض الباحثين في التاريخ والثقافة والسياسة الصينية يرون أن “السلام الصيني” العام الذي تحمل سياسة شي جينبينغ لواءه، وتُزمع فرضه، أمرّ من الاضطراب الذي يسود عصرنا.
* المصدر: ام بي سي ميتو
* المادة الصحفية: تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع