خالد اليماني*

تعود الصومال بين الفينة والأخرى إلى صدارة الأخبار الدولية من بوابة العمليات الإرهابية المروعة التي تودي بحياة العشرات من أبناء ذلك البلد العربي الأفريقي العزيز. ومنذ سقوط الدولة في عام 1991، وانهيار نظام محمد سياد بري انزلق الصومال طوال عقدين من الزمن في جولات متتالية من الصراع والعنف بين مختلف الجماعات والعشائر المتصارعة والتدخلات الخارجية التي أحالت حياة الصوماليين إلى مأساة وجحيم حقيقي.

وعلى رغم قيام الحكومة الاتحادية الصومالية في أغسطس (آب) 2012، ما زالت محاولات الصوماليين لتعزيز كيانهم المشترك تواجه التحديات الكبيرة. وفي واقع الحال واجهت الحكومة الاتحادية منذ قيامها، إضافة إلى الوضع السياسي المضطرب وضعاً إنسانياً كارثياً، من حيث غياب الاستدامة الاقتصادية وتدهور حياة السكان بفعل انتشار الجماعات المسلحة والعصابات، في الوقت الذي تفاقم فيه الجفاف وتدهورت الزراعة ونفقت الثروة الحيوانية وندرة المياه والغذاء، مما أدى إلى هجرة جماعية للسكان.

وخلال العقد الأخير واجه الشعب الصومالي بإرادة قوية أسباب فشل الدولة، والتي أسهمت بشكل كبير في انتشار الجماعات المسلحة التي تحولت تدريجاً إلى ممارسة الإرهاب تحت تسميات “حركة الشباب” و”داعش”. وتعيد مراكز الدراسات الدولية مفهوم فشل الدولة وعجزها في أداء واجباتها وتحلل سلطتها إلى دراسة الظاهرة الصومالية باعتبارها النموذج المعياري للفشل المؤسسي الذي استدعى الإرهاب الدولي، وتحديداً إرهاب “تنظيم القاعدة”.

وفي تقديري يشكل المفتاح لحل معضلة فشل الدولة في وضع برنامج وطني واضح لتمكين الصومال من إدارة شؤونه واستعادة كامل سيادته، وهذا ما كان ضمن مخرجات مؤتمر لندن لعام 2017 حول الصومال، والذي أكد ضرورة تعزيز دور الجيش الصومالي كمدخل لإنهاء مهمة القوات الأفريقية بنهاية العام الماضي، إلا أن الأمر لم يتم إنجازه، وتسعى الأمم المتحدة حالياً مع الأسف، لانتزاع تفويض من مجلس الأمن لإنشاء بعثة هجين أفريقية أممية تحت الفصل السابع بحجة مكافحة إرهاب “الشباب” الذي يهدد الأمن الصومالي والإقليمي.

معالجة فشل الدولة في الحالة الصومالية تبدأ من تعزيز المؤسسات السيادية وتقليص التدخل الخارجي المباشر في شؤونها لضمان القضاء على الفكر المتطرف وبناء الدولة الصومالية الديمقراطية الاتحادية، ولا يمكن تحقيق ذلك من دون حشد قاعدة شعبية عشائرية واسعة في جنوب ووسط الصومال لمحاربة الإرهاب.

الصومال أولاً

نظراً إلى الصراعات السياسية بين مكونات الحكومة الصومالية خلال السنوات الثلاث الماضية فشل المجهود العسكري ضد “الشباب”، الذي يشكل اليوم الفصيل الأكثر ثراءً وقوةً على المستوى الأفريقي والدولي لـ”تنظيم القاعدة”، فحتى أشهر مضت كان التنظيم يسيطر على مساحات واسعة من جنوب الصومال ووسطه. وجاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مايو (أيار) الماضي بعد أكثر من عام من الخلافات، بانتخاب الرئيس حسن شيخ محمود لدورة رئاسية ثانية لتضع حداً لازمة بين النخب السياسية الممثلة في البرلمان.

وكان الرئيس المنتخب قد تعهد في بداية ولايته الأولى في 2012، القضاء على “الشباب”، وها هو يعود اليوم بعد سنوات من إخفاق الحكومة الاتحادية في تنفيذ تعهدها للشعب الصومالي، وهو يطمح اليوم في كسر “الشباب”، باعتبار القضاء على الإرهاب هو المدخل لاستعادة الدولة ومكانتها وسيادتها وانتهاء التدخل الدولي.

ومن خلال رؤيته المعركة مع “الشباب” وضع الرئيس شيخ محمود أهمية حشد الظهير الشعبي عبر تنظيم الميليشيات العشائرية لاشتراك في عمليات عسكرية واسعة جنباً إلى جنب مع القوات الخاصة، وبدعم من التحالف الدولي.

ولما كان الخطاب الديني ركناً رئيساً في الصراع مع التنظيمات الإرهابية، فإن رؤية الرئيس ركزت على إعادة صياغة الخطاب الديني لسحب البساط من تحت “الشباب” الذين يواصلون الاتجار بالمشاعر الدينية للسكان. ومن هنا جاءت فكرة استقطاب القيادات الإرهابية السابقة ضمن الجهد الحكومي، مثل تعيين نائب قائد “الشباب” السابق وزيراً للشؤون الدينية في حكومته.

ولما كان “الشباب” يتوفرون على موارد كبيرة تتحقق من خلال الضرائب والزكاة التي يحصلونها بالترهيب والتهديد بالقتل من رجال الأعمال والتجار من مقديشو وجنوب ووسط الصومال، وحتى من المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة الاتحادية، بالتالي يستحيل القضاء على الحركة التي تجمع شهرياً 15 مليون دولار من دون تجفيف منابع تمويل الإرهاب، ولا يمكن لهذا ان يتم دون نشر الأمن وتوفير الأمان للجميع بما يحول دون استمرارهم لدفع الإتاوات بما يسهم في استدامة الأعمال الإرهابية. فمعركة الدولة الصومالية مع “الشباب” مزيج من الأيديولوجيا والمال. الخطاب الديني والموارد الهائلة.

بقي ركن مهم في خطة الرئيس يستحق الالتفات إليه، وهو الركن الإعلامي، وهذا يتصل بالخطاب الديني والدعائي للحركة الإرهابية واستخدامها الفاعل لوسائل التواصل الاجتماعية في مواجهة الدولة الصومالية والمجتمع الدولي. وما زال الخطاب الديني للحركة الإرهابية يلقى رواجاً واسعاً بين السكان، فمثلاً هم يركنون إلى أحكام محاكم “الشباب” لأنها قادرة بقوتها على إنفاذ أحكامها، فيما الدولة غائبة.

وفي سباق مع الزمن، وبإصرار لإنجاز المهمة وتخليص الشعب الصومالي من آفة الإرهاب، باشرت الحكومة الصومالية بالتواصل مع قيادات العشائر التي ذاقت الأمرين من عنف “الشباب”، وعملت على بناء التوافقات العشائرية في جنوب ووسط الصومال، وقامت بإمداد العشائر بالذخائر والوقود والمواد الغذائية لتسهيل مشاركة عناصرها إلى جانب القوات الحكومية الخاصة. وشهدت الأشهر القليلة الماضية العمليات المشتركة لأبناء العشائر والجيش الوطني نتائج إيجابية في طرد عناصر الشباب من مناطق عديدة في الجنوب والوسط الصومالي.

وفي نظر أبناء العشائر المختلفة فإنه بوجود سلطة قوية في مقديشو ودعمها المستمر لعشائر المنطقة، يمكن تخليص الصومال من شرور الإرهاب القاعدي. ويرى أبناء العشائر أن أبرز أسباب وقوفهم مع الجيش الوطني تتلخص في الإتاوات التي يفرضها “الشباب” وتجاوزت قدرة السكان الفقراء على مواصلة دفعها، كما يشكل التجنيد لشباب العشائر بالقوة للالتحاق بصفوف “الشباب”، والتصفية الجسدية ضد كل من يرفض التعاون مع الحركة، أسباباً إضافية لوقوف العشائر مع الحكومة الاتحادية.

ويبقى التحدي الأكبر أمام الدولة غياب سلطتها والتزامها بتوفير الأمن والأمان للسكان فقيرهم وغنيهم، الرعوي والتاجر، على حد سواء. ويعيش السكان في وسط وجنوب الصومال وضعاً مرعباً نظراً إلى ضعف سلطة الدولة والتزاماتها الغائبة لحمايتهم، فهم يرون أنه سيكون بمقدورهم التوقف عن دفع الإتاوات لعناصر “الشباب” إذا ما التزمت الحكومة بحمايتهم. وهذا ما يعد به الرئيس حسن شيخ، ولكنه بحاجة إلى ضبط معادلة فشل الدولة بالتدرج عبر التخلص من الإرهاب للانتقال إلى مرحلة نوعية مختلفة ضمن جهود الدولة لبناء دولة سيدة عزيزة لكل أبنائها.

إخفاقات الماضي تنير الطريق

الطريق الذي تسلكه الحكومة الاتحادية الانتقالية في الصومال محفوف بالمخاطر، وهناك من يرى تحديات خلف تحديات فحسب، ويتجاوز النظر إلى الفرص التي تقف خلف الطريق الصعب. ومهمة الحكومة الاتحادية مركبة، وتحتاج إلى التحرك في مسارات متوازية، فإلى جانب الجهود المشتركة لأبناء العشائر مع الجيش الوطني في دحر “الشباب” من مختلف المناطق، ثمة حاجة إلى توفير الاستقرار للمناطق المحررة، وتوفير الأمن والخدمات للسكان، فقد شهدت الأشهر الماضية تجارب محبطة لعودة “الشباب” إلى المواقع التي سبق تحريرها والانتقام من السكان.

الكل يدرك صعوبة هذه المهمة بالنظر إلى محدودية موارد الحكومة الاتحادية وانتشار الفساد بين النخب السياسية مقابل الطلبات المتزايدة للسكان في مختلف المناطق، مثل الطلب الغريب الذي قدمه أهالي بلدة مكساس وسط الصومال للرئيس لبناء مطار خاص بهم، فيما البلدة تفتقد لكل سبل الحياة.

من جانب آخر، يواجه الجيش الاتحادي تحديات خاصة بالنظر إلى محدودية عديدة وعتاده، بما لا يمكنه من التمركز في المناطق التي يقوم بتحريرها، فيضطر لتركها بيد الميليشيات العشائرية، لتنتهي بمفردها بمواجهة “الشباب”. ثمة حاجة أيضاً لقيام المجتمع الدولي برفع جميع أشكال الحظر على تسليح الجيش الصومالي وتوفير الموارد اللوجيستية والمالية لتطويره، بما يمكنه من إنجاز مهمته الوطنية.

وهناك من يعتقد أن تسليح العشائر سيف ذو حدين على رغم صلتها العشائرية بالرئيس، حيث يخشى أن العشائر المتصارعة قد توجه سلاحها ضد بعضها البعض، كما حدث الشهر الماضي وسط الصومال، أو أن توجه سلاحها ضد القوات الحكومية. ويظل الأمن وبسطه أكبر التحديات أمام الحكومة الجديدة، فعمليات “الشباب” الانتقامية داخل مقديشو ستستمر نظراً إلى ضعف النظام الأمني، واختراقه من قبل الحركة، بما يمكن عناصرها للتحرك في العاصمة بحرية لجمع الضرائب والقيام بالأعمال الإرهابية.

إن معركة الحكومة الحالية من منظورها الأيديولوجي، لا تتطلع لهزيمة نهائية لحركة “الشباب”، بل العمل على كسرها وإضعافها، وسحب البساط الشعبي الذي تتحرك فوقه بحرية حتى تقبل بشروط السلام والتفاوض لإنهاء مأساة الصوماليين. ويبقى الرهان الأكبر هل تفلح تجربة التفاوض مع الإرهاب؟

المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع