هل يمكن تكرار نموذج انتفاضة الحجارة في ذكراها الــ35؟
شرحبيل الغريب
شكَّل تاريخ 8 كانون الأول/ديسمبر 1986 محطة فارقة ومفصلية في تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني إثر اندلاع شرارة الانتفاضة الأولى أو ما عُرف باسم “انتفاضة الحجارة”، لترسم معالم مرحلة عنوانها الثورة والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي على الأرض والمقدسات، ويعلو صوت الشعب الفلسطيني في وجه الغطرسة الإسرائيلية بعد محاولات الاحتواء والتدجين وفرض حلول الاستسلام على الفلسطينيين.
انطلقت انتفاضة الحجارة قبل 35 عاماً، وشكَّلت مرتكزاً مهماً في تاريخ الحالة النضالية للفلسطينيين. للمرة الأولى منذ الاحتلال الصهيوني عام 1967، استطاع الشعب الفلسطيني التحرك بشكل شعبي في وجه الاحتلال، بعد محاولة ترويض الفلسطينيين وإجبارهم على قبول الاحتلال كأمر واقع بالتعايش الكامل معه.
بإشعال انتفاضة الحجارة قبل 35 عاماً، بعث الشعب الفلسطيني رسالة للعالم أجمع بأنه شعب حيّ متجذر في أرضه، ومتمسك بحقوقه وثوابته، ويرفض الاستسلام أو الانكسار، ويصرّ على مقاومة الاحتلال بأبسط ما يملك من وسائل.
وقد أثبت أنَّ كل الرهانات على فرض خيارات التسوية السياسية التي تنتقص من حقوق الفلسطيني هي رهانات خاسرة أمام شعب عنيد صامد على أرضه عقد العزم على الانتفاضة والمقاومة حتى التحرير.
بعد 35 عاماً على اندلاع انتفاضة الحجارة، تتشابه الأسباب التي أدّت إلى اندلاعها بين الأمس واليوم، فالجرائم الصهيونية اليومية مستمرة، وانتهاكات المقدسات الإسلامية تتصاعد، والاستيطان يسرق ويبلع الأرض الفلسطينية بوحشية غير معهودة، وتحكّم الاحتلال الإسرائيلي في مفاصل الحياة اليومية للفلسطينيين تزداد وتيرته، والمطاردة والاقتحامات والاغتيالات شبه اليومية ما زالت تتكرّر وتشتدّ.
وعلى الرغم من تطوّر أدوات المقاومة الفلسطينية وأساليبها والقوة العسكرية التي أصبحت تمتلكها، وتحديداً بعد عام 2000 واندلاع انتفاضة الأقصى الثانية، فإنّ الأدوات الشّعبية لا تزال تلقى حضوراً في كلّ مواجهة تتجدد مع الاحتلال الإسرائيلي، بدءاً من الحجر والكوفية التي تعدّ رمزاً للهوية، وصولاً إلى الثورة الفلسطينية والمقاومة التي ما زالت راسخة في العقل الفلسطيني الذي يحمل الفكر والمشروع المقاوم.
ثمة سؤال يُطرح في مثل هذه الذكرى: دفع الشعب الفلسطيني فاتورة عالية خلال سنوات الانتفاضة والمقاومة للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي، وما زال مستعداً لدفع المزيد، فهل من الممكن تكرار نموذج انتفاضة الحجارة في المشهد الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية أم أن هذه الوسيلة لم تعد ناجعة لردع المحتل الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة كافة؟
تحتاج الحالة الفلسطينية اليوم، في ظلِّ الغطرسة الصهيونية وحال التغوّل غير المسبوقة على الفلسطينيين، إلى إستراتيجيّة الانتفاضة والمقاومة الشاملة المستندة إلى الوعي والإدراك والأدوات، لتشكل كلّها مجتمعةً خريطة طريق وسبيلاً لتحرير كلّ فلسطين، وضامناً رئيسياً لانتزاع الحقوق الفلسطينية المسلوبة وتحرير الأرض والأسرى والأقصى.
لعلَّ النماذج الأخيرة الّتي مارسها الشعب الفلسطيني خلال سنوات صراعه الأخيرة مع الاحتلال، بدءاً من المواجهة الشعبية في مسيرات العودة في قطاع غزة، مروراً بالمواجهة وحال الالتحام مع قوات الاحتلال في مدن الضفة الغربية والقدس المحتلتين وقراهما، وحال الاشتباك في الأراضي المحتلة عام 1948 خلال معركة “سيف القدس” الأخيرة في أيار/مايو 2021، وصولاً إلى عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار البطولية التي نفذت خلال الأشهر الماضية، قامت بشكل أساس على أدوات الانتفاضة الأولى، لكنها امتزجت بأدوات حديثة متطورة.
الأسباب التي أدّت إلى اندلاع انتفاضة الحجارة ما زالت قائمة، وهي في تتزايد، ما يفرض على الفلسطيني أن يبقى متمسكاً بسلاحه ومقاومته كحقّ مشروع كفلته كل القوانين والأعراف الدولية، فالمقاومة اليوم بقوتها ومدى تأثيرها تمثل خياراً إستراتيجياً أساسياً لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة.
انطلاقاً من حقيقة راسخة لدى العقل الفلسطيني الذي أشعل الانتفاضة قبل 35 عاماً، بأن القدس والمسجد الأقصى هما محور الصراع مع “العدو الإسرائيلي”، فالنتيجة الحتمية تتمثل بأن طريق الانتفاضة والمقاومة الشاملة هما الطريق الأوحد لاستعادة الأرض والمقدسات، وهما الوسيلة الكفيلة بتحقيق أهداف الفلسطيني وتطلعاته وانعتاقه من الاحتلال.
فلسطينياً، وفيما يحيي الشعب الفلسطيني ذكرى اندلاع شرارة انتفاضة الحجارة الأولى، فإنَّ هذا يفرض عليه، وبمنطق وطني خالص، أمام ما تمر به القضية الفلسطينية من استهداف ممنهج للأرض والمقدسات، استكمال خيار تحقيق الوحدة الوطنية، وإنهاء الانقسام الفلسطيني، وتبني برنامج وطني مقاوم، وإشعال الانتفاضة الشاملة في وجه الاحتلال الإسرائيلي.
هذا هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين والخلاص من الاحتلال، فالشعب الفلسطيني اليوم بحاجة ماسة إلى انتفاضة شاملة في وجه “الكيان الصهيوني” التي تعمل على تأليف حكومة هي الأكثر غطرسة وتطرفاً في وجه الفلسطينيين.
كما أنَّ مثل هذا الواقع المرتقب يفرض بحد ذاته أهمية بالغة للعمل الشعبي والمقاوم تحت قيادة فلسطينية موحّدة على أسس وطنية تكون على قدر تحديات المرحلة القادمة وخطورتها، وتعمل على كبح جماح المستوطنين وإرهابهم.
عربياً، وفي وقتٍ يدفع الشّعب الفلسطيني فاتورة الدم والشهادة من أجل تحرير الأرض والمقدسات، وبعد الصّفعة الأخيرة التي تلقتها “إسرائيل” في مونديال كأس العالم، برفض الشعوب لها ونبذ وجودها في الوسط العربي، فإنّ أيّ غطاء عربي يعمل من جديد على ترميم صورة “الكيان الصهيوني” يوفّر لها غطاءً جديداً، ويمنحها شرعيّة لارتكاب المزيد من البطش والقتل والإرهاب بحقّ كلّ ما هو فلسطيني.
يحيي الشَّعب الفلسطيني ذكرى انتفاضة الحجارة الأولى في وجه المحتلّ الإسرائيلي، ويبعث رسالة الرفض المطلق لمسار التطبيع مع “الكيان الصهيوني”، ويشكّل دعوة أساسية لكلٍّ نظام خليجي عربي طبّع معها من أجل إعادة تصويب المسارات الخاطئة ووقف حال السّقوط العربي وضرورة العودة إلى دعم القضية الفلسطينية واحتضانها، على قاعدة أنها ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية العرب والمسلمين وكل الأحرار في العالم أيضاً، بل هي أمّ القضايا، ويجب أن تكون رأس الأولويات، وينبغي دعمها وعدم التخلّي عنها، وصولاً إلى دحر الاحتلال الإسرائيلي عن كامل التراب الفلسطيني.
- المصدر: الميادين نت
- المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع