القبضة الامريكية على انظمة الخليج (1)
د. علي دربج *
عندما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العام 2018، تحذيره الشهير للملك السعودي سلمان بن عبد العزيز قائلا له “انا احبك، ولكن نحن نحميكم. قد لا تبقى هناك أسبوعين من دوننا”، حينها وقف العالم بأسره مذهولا، طارحا سيلا من التساؤلات وعلامات الاستفهام عن سرّ هذا الصمت السعودي المدوي، وسبب ابتلاع المملكة لهذه الإهانة التي ما زال صداها يتردد في الأوساط والأروقة الدبلوماسية والسياسية، في أرجاء العالم كله.
طبعا، لا يحتاج الأمر الى تفسير. الجواب يكمن في انّ بقاء السعودية او انهيارها، متوقفان على الولايات المتحدة المتغلغلة والممسكة بكافة مفاصل وركائز الأمن القومي السعودي، من جيش وحرس وطني، وأجهزة استخباراتية محلية وخارجية، وهو ما اظهرته حوالي 4000 صفحة من الوثائق لقيادات أمريكية عسكرية وأمنية كبيرة، بما في ذلك ملفات قضايا لنحو 450 جنديا متقاعدا وبحارا وطيارا ومشاة البحرية الامريكية، جميعهم عملوا في السعودية، ونقلوا تجاربهم ومواهبهم وخبراتهم القتالية (التي طالما اهلكت ودمرت دول وشعوب) الى هذا الدولة التي استعانت بكل ذلك خلال حربها على اليمن، وحصلوا لقاء ذلك، على مناصب رفيعة، وتقاضوا مبالغ خيالية، تفوق أضعاف ما كانوا يحصلون عليه في بلدهم الأم.
على ماذا تحتوي هذه الوثائق؟
لطالما عززت الحكومات الأجنبية لا سيما الخليجية، مصالحها في واشنطن من خلال الدفع للأمريكيين كأعضاء جماعات ضغط ومحامين ومستشارين سياسيين ومحللين بمراكز أبحاث ومستشارين للعلاقات العامة. لكن تعيين أفراد متقاعدين من الجيش الأمريكي لخبراتهم ونفوذهم السياسي، تسارعت خلال العقد الماضي في ممالك الخليج الغنية بالنفط، والتي رفعت إنفاقها الدفاعي وعززت شراكاتها الأمنية مع البنتاغون.
تظهر الوثائق التي كشفتها صحيفة “الواشنطن بوست” الشهر الماضي، وكانت حصلت عليها بموجب دعاوى قضائية بموجب قانون حرية المعلومات، تولى أكثر من 500 من العسكريين الأمريكيين المتقاعدين – بما في ذلك العشرات من الجنرالات والادميرالات – وظائف مربحة منذ عام 2015 للعمل لدى حكومات أجنبية، معظمها في دول معروفة بانتهاكات حقوق الإنسان والقمع السياسي، وفي مقدمتها السعودية.
وللغاية ذاتها، قدم مشروع الرقابة الحكومية (POGO)، وهو مجموعة رقابية غير ربحية مقرها واشنطن، دعوى قضائية مماثلة للسجلات العامة ضد وزارة الخارجية الامريكية، لمعرفة المزيد حول كيفية بيع أعضاء الخدمة الأمريكية السابقين لخبراتهم العسكرية لقوى أجنبية بما فيها المملكة.
من أبرز القيادات العسكرية الامريكية التي عملت في السعودية؟
في الواقع تنفق السعودية على جيشها أكثر من أي قوة غير نووية أخرى في العالم، ففي عام 2021، تجاوزت ميزانيتها الدفاعية 50 مليار دولار، تقريبًا نفس المبلغ الذي تنفقه بريطانيا، الدولة التي تمتلك أسلحة نووية.
كان ولي العهد محمد بن سلمان، يتطلع الى تطوير القدرات العسكرية للسعودية. ولهذه الغاية استعان بحوالي 15 جنرالا وأدميرالا أمريكيا متقاعدا كمستشارين مدفوعي الأجر لوزارة الدفاع السعودية منذ عام 2016. ومن بين مستشاري المملكة السعودية الذين يتقاضون رواتبهم، الجنرال المتقاعد في مشاة البحرية جيمس إل جونز، مستشار الأمن القومي للرئيس باراك أوباما، والجنرال المتقاعد في الجيش كيث ألكسندر، الذي قاد وكالة الأمن القومي في عهد أوباما والرئيس جورج دبليو بوش.
ومن بين الآخرين الذين عملوا كمستشارين للسعوديين منذ مقتل خاشقجي ، جنرال متقاعد من القوات الجوية من فئة الأربع نجوم، وقائد سابق للقوات الأمريكية في أفغانستان.
لنبدأ بالجنرال جونز!
كان جيمس إل جونز البالغ من العمر 78 عامًا ـــ الجنرال المتقاعد الذي عمل مستشارًا للأمن القومي لأوباما، وقائدًا لسلاح مشاة البحرية ــ من أبرز المستفيدين من حكم محمد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
يمتلك جونز شركتين استشاريتين مقرهما في فرجينيا – Ironhand Security LLC و Jones Group International LLC – ابرمتا عقودًا لتقديم المشورة لوزارة الدفاع السعودية.
وبحسب الوثائق، تقدم جونز بطلب للحصول على تصريح للعمل للسعوديين في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 وحصل على موافقة الولايات المتحدة بعد أربعة أشهر. في مقابلة صحافية، كشف جونز أن عادل الجبير، وزير خارجية السعودية السابق اتصل به وطلب منه مقابلة ابن سلمان خلال زيارة الأمير للولايات المتحدة في ذلك العام لمناقشة إمكانية التشاور مع وزارة الدفاع الأمريكية.
يقول جونز، إنه وافق على إجراء تقييم تنظيمي للقوات المسلحة السعودية اعتبارًا من عام 2017.
بعدها، قام جونز بتجميع فريق من حوالي عشرة من كبار المسؤولين السابقين في البنتاغون، بما في ذلك ويليام س. كوهين، الذي شغل منصب وزير الدفاع في إدارة كلينتون. ولاحقا اقرّ متحدث باسم كوهين بأنه عمل في الفريق لمدة عام تقريبًا.
أكثر من ذلك، تشير الوثائق الى أن أربعة جنرالات متقاعدين حصلوا على إذن أمريكي في عام 2017 للعمل مع فريق جونز في الرياض، وهم : تشارلز والد، وهو جنرال من فئة أربع نجوم في القوات الجوية، مايكل باربيرو، جنرال بالجيش من فئة ثلاث نجوم، أرنولد بونارو، جنرال بحري ذو نجمتين، وجون دوسيت، وهو جنرال في سلاح الجو بنجمة واحدة.
في حين تحفظ كل من باربيرو ودوكيت على التعليق، قال بونارو، البالغ من العمر 76 عامًا، وهو مستشار قديم في البنتاغون وموظف سابق في الكونغرس، إنه عمل لدى جونز كمستشار من نيسان/ أبريل 2017 إلى نيسان/ أبريل 2018 وكان يسافر إلى الرياض كل شهر أو شهرين.
اما والد، 74 عامًا، فكان امضى 35 عامًا في سلاح الجو، بما في ذلك منصب نائب قائد القوات الأمريكية في أوروبا، وكمراقب جوي أمامي وطيار لطائرة من طراز F-16، وكان خدم في فيتنام والبوسنة، كما ترأس أعمال مجموعة جونز الدولية في الشرق الأوسط حتى العام 2021.
وفي السياق ذاته، انتقل جنرالات آخرون إلى السعودية للعمل بعد أن أجبروا على التقاعد من الجيش الأمريكي لسوء السلوك، من بينهم: إدوارد كاشمان، وهو أميرال متقاعد في البحرية، شون جينكينز، لواء متقاعد في الجيش، وكاتال أوكونور، الأدميرال البحري المتقاعد. بدأ الجميع العمل في مجموعة جونز في عام 2021، في غضون أسابيع من تقاعدهم من الجيش الأمريكي.
ماذا عن سيطرة الضباط الأمريكيين على برنامج الامن السيبراني السعودي؟
إضافة الى ما تقدم من أسماء، ثمة ضابط كبير آخر رفيع المستوى أجرى أعمالًا مع السعودية هو كيث ألكسندر(70 عامًا)، الذي شغل منصب مدير وكالة الأمن القومي، وكذلك الرئيس الأول للقيادة الإلكترونية الأمريكية.
في حزيران/يونيو 2018، وقعت شركة ألكسندر للأمن السيبراني، شركة أيرون نت للأمن السيبراني، IronNet Cybersecurity اتفاقية شراكة مع السعوديين لتطوير مؤسسة جديدة: كلية الأمير محمد بن سلمان للأمن السيبراني. وصفت الكلية بأنها أول برنامج تدريبي في المملكة للحرب السيبرانية، وهي أنشئت تحت إشراف سعود القحطاني، أحد المساعدين المؤثرين لولي العهد.
أشرف القحطاني على شبكة من عمليات القرصنة والمراقبة الحاسوبية التي استهدفت منتقدي ولي العهد وأعداءه في جميع أنحاء العالم، بمن في ذلك الصحافي جمال خاشقجي. اشارة الى ان وزارة الخزانة الامريكية فرضت عقوبات على القحطاني، معلنة أنه “كان جزءًا من التخطيط والتنفيذ للعملية التي أدت إلى مقتله”.
بعد شهرين، خلال إدارة ترامب، وافقت وزارة الخارجية على طلب ألكسندر للمساعدة في تطوير كلية الحرب الإلكترونية، والعمل في مجلس مستشاريها، استنادا الوثائق.
لم يؤثر مقتل خاشقجي على عمل شركات جونز في السعودية، بل انها وسعت شراكتها مع وزارة الدفاع بعد مقتل خاشقجي.
أوضح جونز “للواشنطن بوست”، أن شركاته لديها الآن أربعة عقود سعودية وتوظف 53 أمريكيًا في الرياض، ومن بين هؤلاء، ثمانية من الجنرالات والأدميرالات المتقاعدين، و32 من المتقاعدين العسكريين ذوي الرتب الدنيا.
وليس بعيدا عن ذلك، منحت البحرية الامريكية في اب 2020، موافقة مبدئية لضابط متقاعد آخر، هو تيموثي كارتر، المدير التنفيذي السابق لشركة نورثروب جرومان، لتولي وظيفة في الشركة السعودية للصناعات العسكرية كنائب الرئيس التنفيذي للأسلحة والصواريخ. كان تعويض كارتر السنوي أكثر ربحًا: 514.200 دولار كراتب أساس، فضلا عن نفقات المعيشة، بالإضافة إلى مكافأة سنوية تصل قيمتها إلى 330 ألف دولار.
لم ينتظر كارتر الضوء الأخضر من المسؤولين الأمريكيين قبل أن يبدأ العمل مع السعوديين. أعلنت الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI) عن تعيينه في 4 أيلول/ سبتمبر 2019، أي قبل عام كامل تقريبًا من حصوله على موافقة مبدئية من البحرية. كذلك تشير الوثائق، الى أن مسؤولي البحرية كانوا على علم بأنه تولى المنصب بالفعل.
كما حصل قائد بحري متقاعد على وظيفة (كمدير لأنظمة الأسلحة) براتب مقداره 291 ألف دولار سنويا في الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI)، وهي مورد أسلحة مملوك للدولة السعودية.
وما هي قيمة المبالغ التي حصل عليها المستشارون العسكريون الأمريكيون من السعودية؟
على الرغم من رفض الجيش الأمريكي الكشف عن حزم التعويضات التي حصل عليها الجنرالات المتقاعدون، الا ان السجلات العامة الأخرى، تبيّن أن السعوديين يدفعون لمستشاريهم بسخاء.
فعلى سبيل المثال، هناك أربعة ضباط متقاعدين من ذوي الرتب الدنيا يعملون لدى جونز – اثنان برتبة عقيد في مشاة البحرية، وعقيد بالجيش وقبطان في البحرية – حصلوا على رواتب تتراوح بين 200000 دولار و 300000 دولار لتقديم المشورة لوزارة الدفاع السعودية
ما موقف القانون الأمريكي من مسألة بيع الخبرات العسكرية للدول الأجنبية؟
بموجب القانون الفيدرالي، يُحظر على الأفراد العسكريين الأمريكيين المتقاعدين – الذين يُعرفون عمومًا على أنهم خدموا 20 عامًا على الأقل بالزي العسكري ويحق لهم الحصول على معاش تقاعدي – تلقي أي شيء ذي قيمة من الحكومات الأجنبية التي يمكن أن تعرض ولاءهم للولايات المتحدة.
في عام 1977 ، فوض الكونغرس سلطة الموافقة على العمل الأجنبي للمحاربين القدامى إلى البنتاغون ووزارة الخارجية.
تعد هذه الموافقات ضرورية قبل أن يتمكن المتقاعدون من قبول أي تعويض، حتى نفقات السفر، من حكومة أجنبية أو شركة مملوكة للدولة، ولهذا يجوز للمتقاعدين العمل فقط كمدنيين وليس كأفراد نظاميين.
لكن التحقيق الذي أجرته صحيفة “الواشنطن بوست” وجد أن الموافقة شبه تلقائية. فمن بين أكثر من 500 طلب تم تقديمه منذ عام 2015، تمت الموافقة على حوالي 95 بالمائة، إذ لا توجد عقوبة جنائية لمخالفة القانون الذي يكاد يكون تنفيذه غير موجود.
وما هي المهمات التي قام بها المستشارون الامريكيون؟
تظهر الوثائق أن شركات جونز تواصل تقديم المشورة للسعوديين حول كيفية إعادة تنظيم هيكل قيادتهم العسكرية حتى تتمكن القوات المسلحة من العمل بشكل مشترك بدلاً من إقطاعيات منفصلة. تقليديا، كانت المهمة الأساسية للجيش والأجهزة الأمنية السعودية هي ضمان حماية وبقاء عائلة آل سعود، مع أمراء مختلفين يسيطرون على فروع مختلفة كمراكز قوة متنافسة.
في المحصلة لعب هؤلاء المستشارون دورًا حاسمًا، وإن كان غير مرئي إلى حد كبير، في العدوان السعودي على اليمن وتلطخت أيديهم بهذه الجريمة ضد الانسانية، والتي ادت لمقتل الآلاف من المدنيين لا سيما الاطفال والنساء والشيوخ، وفقًا لمحققي الأمم المتحدة.
في الحلقة الثانية: الامارات الولاية الأمريكية الـ 52
المصدر : موقع العهد الاخباري
المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع