السياسية:

لم تنفصل إريتريا عن التدخل في حرب إقليم “تيغراي” بإثيوبيا المشتعلة، منذ الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، حين أعطى رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة الإثيوبية آبي أحمد تعليماته للقوات الفيدرالية الإثيوبية بشنّ عملية عسكرية ضد قوات “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” التي تمثل حكومة الإقليم، شمال البلاد، أطلق عليها عملية “فرض القانون”. وخلّفت الحرب مئات آلاف الضحايا وتشريد ملايين اللاجئين إلى السودان عبر نهر “سيتيت”، ودخول سكان المنطقة في حاجة ماسة إلى الغذاء، وسط اتهامات متبادلة بين أطراف النزاع بما فيها القوات الإريترية بارتكاب فظائع.

وقبل انعقاد المحادثات بين الحكومة الإثيوبية و”جبهة تحرير تيغراي” برعاية الاتحاد الأفريقي في جنوب أفريقيا في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أعلنت الجبهة أن الجيش الإريتري شنّ هجوماً كثيفاً على شمال شرقي إقليم “تيغراي”. وجاءت الهجمات الإريترية مواصلة لتجدد الصراع بين الجبهة والقوات الإثيوبية، منذ أغسطس (آب) في خرق للهدنة المفروضة منذ مارس (آذار) الماضي. تبع ذلك هجوم عسكري مشترك، قالت جبهة “تيغراي” إن قوات أديس أبابا وأسمرا شنتاه على مناطق الإقليم المحاذية لإريتريا بعدما أعادت إثيوبيا نشر قوة عسكرية ضخمة في إريتريا، بإرسال قواتها التي رصدتها واشنطن، بما فيها التعزيزات العسكرية في العاصمة أسمرا ومدن أخرى من بينها مدينتا كيرين وتيسيناي غرب البلاد، وقرب الحدود مع إقليم “تيغراي”.

وجاءت مشاركة إريتريا الأولى في حرب “تيغراي” دعماً للحكومة الإثيوبية وقواتها الفيدرالية، قبل أن تعلن انسحاب قواتها بشكل كامل، نهاية العام الماضي، على إثر عقوبات جديدة فرضتها عليها الولايات المتحدة على خلفية النزاع، مستهدفة قوات الدفاع الإريترية وحزب “الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة” الحاكم بسبب ضلوعها في الصراع، إضافة إلى جهات أخرى في الدولة. وبعودتها مرة أخرى للانغماس في هذا الصراع، بشكل أكبر، باتت تسوّغ لاعتبارات تاريخية، لكنها لا تخلو من حسابات سياسية تتعلق بمصالح حكومتي البلدين متمثلة في قيادتيهما، ونشاط قوى المعارضة فيهما، الذي تمثله “جبهة تحرير تيغراي” بقيادة دبرصيون جبر ميكائيل في إثيوبيا، و”الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا” بعضوها البارز مسفن حقوص.

توحد الحركتين

وإبان الحرب العالمية الثانية، واعتراف بريطانيا بسيادة إثيوبيا، خرجت إريتريا من الاستعمار الإيطالي عام 1941، لتدخل في الاتحاد مع إثيوبيا في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي. وكانت قوات الحلفاء والأمم المتحدة قد اتفقت على حق تقرير المصير للمستعمرات الإيطالية في أفريقيا، وبينما استقلت ليبيا والصومال، أُلحقت إريتريا بإثيوبيا وفق النظام الفيدرالي نتيجة لانقسام شعبها إلى قسمين، مسلمين طالبوا بالاستقلال الكامل للدولة الإريترية، ومسيحيين أرثوذكس طالبوا بضم إريتريا إلى إثيوبيا التي يحكمها نظام ملكي مسيحي أرثوذكسي بقيادة هيلا سيلاسي.

وانفجرت الثورة الإريترية في منطقة القاش بركا بقيادة حامد إدريس عواتي في سبتمبر (أيلول) 1961، ويزعم باحثون أن هيلا سيلاسي ورجاله خططوا لاختراق الثورة الإريترية من الداخل فوقع اختيارهم على أسياس أفورقي الذي تتوافر فيه شروط عدة هو أنه إريتري من أصل إثيوبي، فهو مولود في أسمرا لوالدين مسيحيين أرثوذكسيين، لكنه من سلالة الملك يوهانس الرابع في إثيوبيا التي تعود جذورها إلى منطقة في إقليم “تيغراي”. لذا رأوا أن مشروعه يرتكز على استعادة ملك أجداده في المنطقة أي أن يحكم إثيوبيا الكبرى وتسودها القومية “التيغرينية”.

وأسس أسياس أفورقي مع ملس زيناوي “حركة وياني تيغراي الثانية”، و”الوياني” باللغة “التغرينية” تعني المتمرد أو المناضل وهي الاسم القديم لـ “الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي”، بعدها دلفت “جبهة التحرير الإريترية” إلى الساحة السياسية بدعم من “وياني تيغراي” عام 1981.

وكان من ضمن الأهداف التي وحدت الحركتين هي الإطاحة بنظام منغستو هيلا مريام، في 21 مايو (أيار) 1991، ثم منحت إريتريا استقلالها في 24 مايو 1991 وفق شروط أهمها، “التزام الطرفين بالتعاون التام بينهما في قضايا الأمن والدفاع المشترك، واستخدام إثيوبيا لميناءي عصب ومصوع الإريتريين على البحر الأحمر كمنفذين بحريين لتجارتها من وإلى العالم، والإبقاء على العملة الإثيوبية (البير) كوحدة نقد مشتركة للبلدين إثيوبيا وإريتريا”.

مشاريع متصادمة

وبعد استقلال إريتريا عن إثيوبيا، وقبل أن يصبح أفورقي رئيساً لإريتريا عام 1993، وزيناوي رئيس وزراء إثيوبيا عام 1995، بدأت الخلافات تدب بين الزعيمين بسبب تأثير تيار داخل “جبهة تيغراي”، صعد من تأثير خلافات أفورقي وزيناوي بخصوص مشروعيهما. وكان الخلاف يكمن في أن أفورقي يطمح في أن تسود إثيوبيا الكبرى القومية “التيغرينية”، بينما “جبهة تيغراي” كانت تفضل تأسيس دولة “تيغراي” الكبرى. ولذلك فضل هذا التيار الابتعاد عن فكرة أفورقي وعدم الدمج بين المشروعين، ووضع أحد أهم أهدافه هو التخلص من أسياس أفورقي لإقامة مشروع دولة “تيغراي” الكبرى. بينما دعم جناح آخر يقوده الجنرال أبا سبحت إيفريم المضي في المشروع حتى لو أصبح أفورقي زعيماً، لأن جناح زيناوي كان الأقوى، ويمكنه حكم إثيوبيا من دون مشروع أفورقي، وهو ما حدث لاحقاً وأوغر في صدر أفورقي.

بعدها بدأت إريتريا المطالبة بترسيم الحدود بين البلدين، ثم شرعت في إعادة إصدار عملتها الوطنية القديمة الخاصة بها (النقفة)، ونشبت خلافات بشأن رسوم استخدام الموانئ الإريترية من قبل إثيوبيا والتجارة العابرة للحدود. ثم انفجر الصراع في السادس من مايو 1998، وتوقف ثم تجدد مرة أخرى في 18 يونيو (حزيران) 2000.

وبدأ أفورقي في تجريد الجيش الشعبي لتحرير إريتريا وهي الجناح العسكري لـ “الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا” من قياداته وكوادره العسكرية بالإبعاد والتصفية، آخرها كانت محاولة اغتيال الجنرال أبا سبحت إيفريم وزير الدفاع في الجيش الشعبي، وقد كان مرشحاً لخلافة أسياس أفورقي بعد تعرضه لانتكاسة صحية أخيراً.

وهذا يبين أنه طوال فترة الحرب بين إثيوبيا وإريتريا، فإن مشروع الكونفيدرالية الإثيوبية كان شاغلاً لأفورقي، ولما نشب صراع الحكومة الفيدرالية مع “جبهة تيغراي”، كانت الفرصة التي قدمت على طبق من ذهب له إذ أعادت تجسيد مشروعه القديم بظروف جديدة. وبعد أن ظهر توافق مصالح آبي أحمد مع أفورقي في أن كلاهما يؤمن بمشروع إثيوبيا الكبرى، إضافة إلى إثنية “الأمهرا”، وبعض قوات “دمحيت التيغرانية”، وعليه، أصبحت “جبهة تيغراي” بإعلائها من العمل من أجل مشروع “تيغراي” الكبرى هي عدوهم المشترك.

هدف مشترك

وبنظرة كلية، يبدو أن موقع إثيوبيا الجيوسياسي والمميز في منطقة القرن الأفريقي، جعل الصراع بين القوات الإثيوبية والإريترية من جهة، وقوات جبهة تحرير “تيغراي” من جهة أخرى، ينوء بأبعاد عدة تتجاوز حدود الدولة الإثيوبية لتشمل الإطار الإقليمي المجاور، ومؤثرة في المصالح الدولية في منطقة القرن الأفريقي. ومع صحة هذه الرؤية، لكن هناك أبعاداً أخرى أكثر عمقاً تغوص في التاريخ السياسي للبلدين والإقليم منذ أن كانت كلها أرضاً واحدة، ثم جذبت إليها طموحات آبي أحمد وأسياس أفورقي ودبرصيون جبر ميكائيل الشخصية معاً ممثلين لنظمهم السياسية.

وترى “جبهة تيغراي” أن الحرب عليها هي لخدمة أجندة آبي أحمد بعرقلة حصول المجموعات الإثنية على الحكم الذاتي بإلغاء نظام “الفيدرالية الإثنية” المنصوص عليه في الدستور الإثيوبي منذ عام 1995، والذي تم بموجبه تقسيم البلاد إلى تسعة أقاليم تقوم على أساس إثني، ثم إضافة إقليم عاشر عام 2019 هو إقليم “سيداما”. كما ترى أيضاً أن وصول آبي أحمد لرئاسة وزراء إثيوبيا عام 2018، ثم توقيع اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا وإنهاء حال الحرب بينهما التي دامت، مدة 20 عاماً منذ 1998، شجع أفورقي لانتهاز الفرصة لكسب أرض جديدة في محاولة لتحقيق حلمه بالتفوق والنفوذ الإقليمي، لا سيما أن الهدف المشترك يكمن في احتواء إقليم “تيغراي” داخل الدولة الإثيوبية. ولكن بينما يرى آبي أحمد أن هذا الاحتواء سيخلص نظامه ونخبة “الأمهرا” المساندة له من منافسهم التاريخي في الحكم الذي استمر لما يقارب ثلاثة عقود، فإن أفورقي ربما يتوقف عند نقطة أن احتواء “تيغراي” ربما يذوّب الإثنية ويجرّد إريتريا من هويتها التي طالما سعى لتعزيزها ولكن على طريقته الخاصة.

تحول التحالف

وبينما كان مراقبون يحاولون التحقق من مشاركة القوات الإريترية ضمن القوات الإثيوبية في حرب “تيغراي”، كشف العضو المؤسس للجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، في سبعينيات القرن الماضي، ورفيق أسياس أفورقي السابق والذي شغل منصب وزير الدفاع في التسعينيات، وخصمه الحالي مسفن حقوص عن مدى تورط إريتريا في الحرب الإثيوبية. ودعمت تصريحاته مصادر في وزارة الدفاع الإريترية وأفراد من المعارضة الإريترية في الخرطوم أخبروا عن تكثيف نشاط التجنيد الإجباري لأقاربهم في بدايات الحرب. وبعدها تواترت أخبار رصدتها الأقمار الاصطناعية عن شنّ القوات الإثيوبية التي أعيد تنظيمها وتعزيزها سلسلة من الهجمات على “تيغراي” من إريتريا على طول أربع جبهات، قدمت وحدات الدعم الإريترية معلومات استخبارية ولوجستية، وأعطت بأسلحتها الثقيلة غطاء للقوات الفيدرالية ثم في النهاية شاركت في القتال. وعن هذا التدخل، عبّر حقوص عن أحد دوافع الرئيس الإريتري بأنه “إلى جانب أوهام أفورقي بالعظمة والرغبة الموازية في الظهور كرجل إقليمي قوي في منطقة القرن الأفريقي وما وراءها، يتعين على المرء أن ينظر إلى العقدين الماضيين لفهم نزعته الانتقامية”.

وعلى رغم انتقاده أفورقي، لم يخف حقوص إبداء تحفظاته لقادة جبهة “تيغراي” في بعض الممارسات التي كانوا يقومون بها في ما يخصّ الشأن الإريتري، وأن الجبهة لم تكن صادقة في دعم المعارضة الإريترية عندما كانت في سدة الحكم، وكانت ترى مصلحتها في استمرارية أسياس أفورقي، ما أسهم في انقسام التنظيمات السياسية الإريترية على أساس عرقي وقبلي وديني. وسافر حقوص إلى إقليم “تيغراي”، وأعلن التعاون مع حكومة الإقليم على إسقاط أفورقي كمصلحة مشتركة بين المعارضة الإريترية وإقليم “تيغراي”.

اتحاد كونفيدرالي

ويتوقع أنه في حال انتهاء الحرب بانتصار القوات الفيدرالية الإثيوبية على جبهة “تيغراي”، فإن مشروع إثيوبيا الكبرى سينتصر، وعليه سيؤسس اتحاد كونفيدرالي بين إثيوبيا وإريتريا يبتلع إقليم “تيغراي”، هذا إذا لم ينشب خلاف بين آبي أحمد وأفورقي حول التفاصيل. أما إذا انتصرت جبهة “تيغراي”، وهو أمر مستبعد في الظروف الراهنة فسوف تشدّ معها إثنيات أخرى على رأسها “عفر” التي تسيطر على الطريق الرابط بين إثيوبيا وجيبوتي وهو الممر الوحيد للبحر الأحمر. وفي حين أن “عفر” إثيوبيا تدعم قوات آبي أحمد لأسباب تتعلق بمنافسة “تيغراي” لها على النفوذ، فإن الإثنية نفسها تعاني في إريتريا من التهميش ودخلت صراعاً مع الحكومة الإريترية مطالبة بالانفصال. وعليه سيكون مشروع جبهة تحرير “تيغراي” بإقامة دولة “تيغراي” الكبرى هو الضامن لحصول هذه الإثنيات على حق الاستفتاء على تقرير المصير، ثم إقامة حكومة موالية لها في أسمرا ليسهل لها بعد الانفصال عن إثيوبيا إعلان الاتحاد مع إريتريا وهذه هي دولة “تيغراي” الكبرى.

المصدر : اندبندنت عربية
المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع