د. عبد الحميد فجر سلوم

 

بداية لا بُدّ أن نُدرك أن (الأتراك) هم ليسوا تاريخيا أصحاب هذه الأرض التي يعيشون فوقها اليوم، وليسوا قديمون عليها بمعايير التاريخ.. وتُعرفُ تاريخيا بـ جزيرة الأناضول، أو هضبة الأناضول، أو آسيا الصُغرى.. فقد سبقهم إليها أقوامٌ عديدون (وهذا موضوع تاريخي طويل لسنا بصددهِ حاليا)..

والعثمانيون الذين سطعَ نجمهم على يد (عثمان الأول) مؤسِّس الدولة العثمانية، هُم قبيلةٌ من قبائل التُرك العديدة، ويُنسَبون عرقيا إلى العِرق الأصفر أو المغولي، وموطنهم الأول في آسيا الوسطى، ومن هناك قَدِموا، وتغيّرت أشكالهم اليوم لكثرة التزاوُج من شعوب البلقان عبر التاريخ..

أي أنهم بالأساس مغُول، وعُرفَ عنهم شدّة بطشِهم وعنفِهم وقسوتهم ودمويتهم..

**

توسّعت الإمبراطورية العُثمانية بالقوة والعنف في كل الاتجاهات، لاسيما باتجاه البلقان وأوروبا.. وفي أرجاء الوطن العربي.. واستولوا على القسطنطينية عام 1453 على يد السُلطان محمد الثاني المُلقّب بالفاتح.. ووصلوا إلى اسوار فيينا، ولكن دُحِروا عام 1638.. ولذلك هناك كراهيةٌ لهم لدى الشعوب الأوروبية بسبب تاريخهم العُنفي والقاسي والدموي، الذي لا ينسوهُ..

جارِي اليوناني، حينما كنتُ أعملُ في السفارة في أثينا، قال لي بوضوح، كُنّا نشعر بحساسية إزاء أي مُسلِم، لأننا كنا نعتقد طويلا أن المُسلِم يعني العثماني وهؤلاء لا نُحبّهم لتاريخهم الأسود معنا.. ثُمّ أضاف، لا تنسى أن استنبول هي  القُسطنطينية، وهذه أرضٌ يونانيةٌ تحتلها تركيا .. (وتلك المنطقة تُدعى تراقيا الشرقية)..

العثمانيون ساهموا كثيرا بالإساءة للإسلام، وكرّسوا حالة عدائية لدى الغرب إزاء الإسلام، بحروبهم واحتلالهم للعديد من الدول الأوروبية، ونهب خيراتها..

والعُثمانيون لم يُقاتِلوا من أجل الإسلام، وإنما لأجل توسيع امبراطوريتهم العُثمانية القومية، ولكن استغلُّوا الإسلام لكسبِ ودِّ ودعمِ المُسلمين.. ودولتهم كانت تُسمّى على اسم مؤسسها القومي (الدولة العُثمانية) وليس الإسلامية.. وكان همّهم جمعُ الخِراج واستعباد الناس واضطهاد الأقليات الدينية، وتفريغ البُلدان من أصحاب المِهن والحِرف والكفاءات ونقلِهم مُرغمين ليعملوا ويبنوا في استنبول.. ونقلوا الآلاف من العائلات التُركية إلى بُلدان البلقان والبُلدان العربية (وخاصة بلاد الشام) ومنحوهم الأراضي وتسيّدوا على أهل هذه البُلدان.. ولو درسنا تاريخ الإقطاع في بلاد الشام لاكتشفنا أن غالبيته كان ينحدر من أصول تركية..

فكيف يقاتلون لأجل الإسلام وهُم من قضوا على الخلافة العباسية الإسلامية في القاهرة ونقلوا مركز الخلافة إلى الآستانة (استنبول).. وكيف يقاتلون عن الإسلام وهُم من قضوا على دولة الخلافة الإسلامية بزعامة المماليك..

وكيف يدافعون عن الإسلام ولم ينجِدوا ملك بني الأحمر في الأندلس حينما طلبَ منهم النجدة، فكان طردُ العرب من الأندلس عام 1492.. بل بدلَ أن يُرسِلوا جيشا لنجدتهِ، أرسلوا جيشا لاحتلال بلاد الشام وخاض المعركة مع سلطان المماليك المُسلِم، وهزمهُ ثم تمدّدوا في كل البُلدان العربية بالقوة، وليس بالشورى والورود..

**

بل حتى الادعاء أن السُلطان عبد الحميد الثاني عارضَ بناء المُستعمرات اليهودية، أمرٌ مُبالغٌ فيه.. وشكّكت المؤرِّخة والباحثة الأردنية (فدوى نصيرات) في كتابها (دور السُلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876 ــ 1909 )، في جدِّية معارضة السلطان عبد الحميد لبناء المُستعمرات الصهيونية، بل رأت أنهُ سهّل الموضوع مُداورةً رغم إعلان معارضتهِ ظاهريا، وقد سهّل لهم إنشاء عدد كبير من المستعمرات في فلسطين.. (أي فعلَ كما بعض العرب، ادّعوا العداء لإسرائيل ومن الخلف كانوا ينسجون العلاقات معها)..

ومن الثابت تاريخيا أن السُلطان عبد الحميد منَح زعيم الصهيونية (تيودور هرتزل) أرفع وسام وهو الوِسام “الحميدي”.. وللأسف هناك من يُدافعون عن ذلك ويُبرِّرون له هذا الفِعل..

وحقيقة التاريخ أن السلطنة العُثمانية شجّعت هجرة اليهود إلى فلسطين في القرنين السابع عشر والثامن عشر بهدفِ كسبِهم إلى جانبها ضد فرنسا وبريطانيا..

حتى أن أحمد رضا، رئيس مجلس المبعوثان ( البرلمان التركي) استقبل في العام 1909 حاخام اليهود في السلطنة العثمانية، وقال له : أن الحكومة العثمانية تودُّ كثيرا أن يهود روسيا ورومانيا ويهود كل بلدٍ من الذين يشكون الظلم أن يحضروا “لبلاد ” تركيا حيث توجد أراضٍ كافية للفلاحة والصناعة والتجارة، والحكومة ترى من اليهود إخلاصا تاما، وبصدرٍ منشرح تُقابل استيطان اليهود ..

ولِأجل استرضاء اليهود أكثر، فقد أصدر السلطان العثماني محمود الثاني (1808- 1839) فَرَمانا باعتبار الجدار الغربي للمسجد الأقصى بقيةً من هيكل سليمان، وأطلق على هذا الجدار “اسم “حائط المبكى” . فصار لهُم بذلك أثرا مقدسا رسميا في صميم المسجد الأقصى.. ونرى اليوم الصراع المستمر بين الفلسطينيين والإسرائيليين في ذاك المكان..

**

بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك الإمبراطورية العثمانية، كان من السهلِ جدّا على الحلفاء تقسيم تركيا، فقد دخلوا الآستانة، وكانت السلطة العثمانية قد استسلمت لكل شروط الهدنة في (مدروز) ببحر ايجة وفَرَضَ عليها المنتصرون كل الشروط في اتفاقية (سيفر عام 1920) وكانت تركيا في طريقها للتفتيت الى دولة كردية وإعادة أرمينيا الغربية الى الأصل (أرمينيا الحالية) وإعادة تراقيا الشرقية (القسطنطينية) الى اليونان، وكل ذلك كان أسهل عليهم من عبور بحر مرمرة، ولم يكن أمامهم أي عائق لتنفيذ ذلك، ولكن البريطاني سرعان ما خبط على الطاولة مُحذِّرا من خطورة تفكيك تركيا، كي تبقى سدّا في وجهِ روسيا.. واستجابَ الفرنسي فورا وكانوا في غاية الحرص على عدم تشريح جثّة عدوّتِهم، وعدَّلوا اتفاقية سيفر باتفاقية لوزان عام 1923 التي حافظت على الأراضي الحالية وضمنها كل الأراضي السورية التي ألحقوها بتركيا في (سايكس بيكو) وتصل الى غازي عنتاب وعلى طول الحدود التركية المحاذية، ثم أضافوا لهم لواء الاسكندرونة عام 1939 لكسب تركيا لجانب الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، وكانت حدود سورية تصل الى سفوح جبال طوروس…

**

إذا هناك دورٌ وظيفيٌ ارتسمَ لتركيا بعد الحرب العالمية الأولى، وهو خدمة مصالح الغرب، وأن تبقى حِصنا منيعا في وجه روسيا.. فالغرب الذي يكره الأتراك هو ذاتهُ من يخشى الروس.. وإن كانوا قد تحالفوا مع الروس ضد دول المحور (الامبراطوريات العثمانية والنمساوية والألمانية) في الحرب العالمية الأولى، فقد سبق أن تحالفوا مع العثمانيين ضد الروس في حرب القرم (1853-1855م) بعد توريط البريطاني للروسي بالحرب مع العثماني ثم تحالف مع العثماني ضد الروسي لتحجيمه..

وقبول تركيا بهذا الدور هو ما حافظَ على كيانها الحالي، وحينما تتمرّدُ فعليا على الغرب، فتقسيمها سيكون سهلا جدّا بمنحِ الأكراد استقلالهم، وإعادة أرمينيا الغربية إلى وطنها الأم (أرمينيا الحالية) وإعادة تراقيا الشرقية لليونان..

**

تركيا قامت بدورها الجديد كخادم لمشاريع الغرب على أتم وجه.. وبعد الحرب العالمية الثانية ضمُّوها للحلف الأطلسي (ورفضوها في الاتحاد الاوروبي) لأنهم كانوا يحتاجونها فقط كرأس حربة للغرب في وجه الاتحاد السوفييتي، حيث أقاموا على أراضيها القواعد الأطلسية وكل محطات التجسس والمراقبة ومنها ما هو واضح للعيان وشَغَّال فوق قمم جبل أرارات المُطِل على أرمينيا وجورجيا ومناطق القوقاز وآسيا الوسطى، وهذا شاهدتُه بنفسي..

وتَعَزّز دورها في الحرب الباردة، في خدمة مشاريع الغرب..

**

إذا الكراهية قديمة بين الأتراك واليونانيين، وكل ما نراهُ في هذا الزمن هو حصيلة تاريخ طويل من الكراهية والحروب في زمن العثمانيين..

والموقف من العثمانيين لخّصه رئيس وزراء اليونان في حينه “إلفثيريوس فينيزيلوس” الذي حاربَ إلى جانب الحُلفاء، بقوله: (نحن لا نشنُّ الحرب ضد الإسلام، ولكن ضد سلطنة عثمانية فاسدة ومخزية ودموية وعفا عليها الزمن)..

وتهديدات أردوغان العنيفة لليونان يوم 6 أيلول 2022 ، البعيدة عن كل أشكال التخاطُب، والتي تنضحُ عنجهيةً، ومُطالبتهِ لهُم بأن يعتبروا من دروس التاريخ، وأنه قد يأتيهم فجأةً في جُنحِ الليل، إنما هذا يعكس أيضا انّ الاحتقان التاريخي ما زال قائما في الصدور.. وأن المسألة ليست فقط مسألة جُزُرٍ مُتنازعٍ عليها في بحر إيجة، ويتمُّ تسليحها من اليونان، أو إطلاق صاروخ على طائرةٍ حربيةٍ تُركيةٍ، وإنما المسألة أشبهُ بالمثل الشعبي: ليست مسألة رمّانة وإنما قلوب مليانة..

**

لا تخفى الخلافات اليونانية التُركية في بحر إيجة، حول الجُزُر، وحول المياه الإقليمية، والجّرف القاري، والمنطقة الاقتصادية الخالصة..

وتركيا، بسبب تلك الخلافات، لم توقّع أو تنضم إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي تبنّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982، وحضرتُ الكثير من نقاشاتها، وشاركتُ ضمن المجموعة العربية في نقاش العديد من المسائل التي تهمُّ البُلدان العربية في تلك الاتفاقية..

وسورية لم تنضم لأن المياه الإقليمية بالنسبة لسورية يجب أن تبدأ من شواطئ اسكندرون المُحتلّة..

وإسرائيل لم تنضم ولم تُصادِق على الاتفاقية لأنها حتى اليوم على مشاكل حول مياهها الإقليمية مع لُبنان ومع غزّة.. وهي لم تُحدِّد بعدْ حدودها البرية، حتى تُحدِّد حدودها البحرية..

**

تركيا اليوم وسط منطقة مُلتهِبة: من جهة الشمال، الحرب في أوكرانيا، ومن جهة الشرق الحرب في ناكورنو كاراباخ، ومن جهة الجنوب الحرب في سورية، ورُبّما أجادَ أردوغان القفز فوق الحبال منذ توليهِ رئاسة تُركيا.. وهو اليوم على علاقة طيِّبة مع روسيا (فهو يمتدح الرئيس بوتين والرئيس بوتين يمتدحهُ) ومع أوكرانيا المُتحاربة مع روسيا، ومع إيران ومع أمريكا ومع الدول الأوروبية، ومع دول البلقان.. وسعى بكلِّ جهودهِ لِحلِّ خلافاتهِ الإقليمية، ونجح مع السعودية والإمارات وإسرائيل، ونسبيا مع مصر، إلّا أنه فشل مع سورية والعراق وأرمينيا واليونان..

**

قفزَ على الحبل السوري سابقا، واستفاد من العلاقة مع سورية، في اتفاقية التجارة الحرة التي أضرّت كثيرا بالاقتصاد السوري غير القادر على منافسة الاقتصاد التركي.. لاسيما في مجال صناعة المفروشات، وأدّى الأمر إلى إغلاق عشرات الورشات التي كانت تُصنِّع المفروشات في قُرى غوطة دمشق، فهذه ليس بمقدورها منافسة الصناعات التركية..

كما تغيّرت النظرة لكل التاريخ الذي درَسناهُ من أن العثمانيين كانوا أسوأ اشكال الاستعمار، وأصبحنا نقرأ في الإعلام السوري أننا كُنا مع العثمانيين أصحاب إرث ثقافي وديني وتاريخي مُشترَك، وما عادوا مُستعمِرين (وهذا يقترب نسبيا من خطاب الأخوان المُسلمين الذين يرفضون اعتبار الحُكم العُثماني استعمارا وإنما امتدادا للخلافة الإسلامية)..

وتمَّ التغاضي عن عدم وضع خارطة اسكندرون ضمن الخارطة السورية التقليدية والتاريخية.. بل تمَّ الاعتراف بشكلٍ غير مُباشرٍ بأن اسكندرون أرضا تُركية حينما تمّ التوقيع على إنشاء سد الصداقة على نهر العاصي مع تركيا، وجاء في أحد البنود أن السد يُشادُ على أراضي البلدين، بينما حقيقة الأمر يُشادُ على أرض سورية سواء من جهة إدلب أو من جهة اسكندرون..

وأصبحت خرائط السياحة التُركية تُعلّقُ في شوارع دمشق لتشجيع السياحة في تركيا وضمنها خريطة اسكندرون كجزء من تركيا..

**

وبكلِّ الأحوال، فحتى لو بدا أردوغان أنهُ مُستقِلّا في قراره، وُمعانِدا، وبراغماتيا، ولاعبا ماهرا على الحِبال، إلا أنّ لهُ أخيرا حدودٌ لا يستطيع تجاوزها..

وكل ما يقومُ به من أدوار هو بإشراف أمريكي وبالحدود المرسومة، حتى لو كان أحيانا يتظاهر أنهُ غير ذلك، وأنه يتمرّد على الأمريكي.. وإن تجاوزَ أدوارهُ تشتغل الصافرة (بل قد يتغيّر ديمقراطيا).. ودورهُ هُم من يُحدّدونه له.. ولا يمكنهُ أن يخرج من تحت العباءة الأمريكية، ولا من تحت قُبّعةِ الأطلسي، ولا تحدِّي أمريكا، إلّا إن كان يعتقدُ أنهُ ما زال يعيش في زمن السُلطان محمد الفاتح، وأنّ فَرَس السُلطان البيضاء التي دخل على ظهرها (القسطنطينية) ما زالت حَيّة وتصهلُ من فوق هضبة الأناضول.

* المصدر :رأي اليوم

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع