كيسنجر: زيلينسكي أدى “مهمة تاريخية” ولا عذر لما فعله بوتين
السياسية:
قبل أربعة عقود ونصف العقد، غادر هنري كيسنجر منصبه كوزير للخارجية الأميركية، لكنه ما زال حاضراً في عناوين الصحافة، ورقماً ثابتاً وصعباً في ذاكرة العالم السياسية، إذ ما زال الرجل، الذي يقترب من عامه المئة، يلقي من منزله في ولاية كونيتيكت، الكلمات أمام رواد الفكر والاقتصاد، ويكتب عن الذكاء الاصطناعي جنباً إلى جنب قادة “السيليكون فالي”، وينظر عن الصفات التي يحتاج إليها العالم في القادة السياسيين.
كما لا يزال كيسنجر يقبل المقابلات الحضورية والافتراضية التي يطرح فيها من وقت لآخر تساؤلاته وأفكاره التي تؤكد أنه ما زال محتفظاً بموهبته في إثارة حنق اليسار إلى يومنا هذا، كما فعل قبل عقود في جامعة هارفرد، التي يهيمن عليها الأساتذة الليبراليون والطلاب من ذوي الأفكار التقدمية، حيث بنى فيها على الرغم من كل ذلك سمعته كعالم ومفكر بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يختاره ريتشارد نيكسون مستشاراً للأمن القومي ثم وزيراً للخارجية، وهما منصبان طاف من خلالهما قارات العالم، حاملاً ملفات البيت الأبيض، ومبشراً بسياسات نظام عالمي سعى إلى إنقاذه من ويلات الحروب.
وفي مقابلة أخيرة مع مجلة “تايمز” البريطانية، تحدث كيسنجر (99 عاماً) عن الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها على النظام العالمي، الذي أسهم في تشكيله وأفرد له كتاباً خاصاً، وتطرق إلى حكاياته مع ريتشارد نيكسون ومارغريت ثاتشر وغيرهما من القادة الذين تركوا بصمة خالدة في بلدانهم.
وجرت المقابلة مع كيسنجر حضورياً من ملاذه الريفي في أعماق غابات كونيتيكت، حيث قضى هو وزوجته نانسي معظم وقتهما منذ تفشي جائحة كورونا، وكانت هذه المرة منذ 48 عاماً مرت على زواجهما، التي يتوقف فيها نشاط كيسنجر الذي جال العالم قسراً، فيما هو اليوم وبعيداً من إغراءات مطاعم مانهاتن ومآدب بكين، قد خسر بعضاً من وزنه، وعلى الرغم من أنه يتوكأ على عصا للمشي، ويعتمد على جهاز مساعد للسمع، ويتحدث ببطء، فإن عقله ما زال ثاقباً كما كان، وفق الصحيفة.
عمر كيسنجر وبقي وجهاً مألوفاً أمام الأجيال ليشهد آثار السياسات التي أسهم في صياغتها وإرسائها تلقي بظلالها ليس على العالم فقط، بل على شخصيته التي تعرضت للإساءات، وصورته التي أقحمت في قلب نظريات المؤامرات المزعومة، فسماه البعض “دكتور الشر”، ورآه آخرون “مجرم حرب” ولم يكن يقابل الدبلوماسي المخضرم تلك الإهانات إلا بالاستمرار في طرح أفكاره، كما فعل في محاضرة أقامتها جامعة هارفرد عام 2012، حين قاطعه أحد الحضور بالشتائم واصفاً إياه بـ”مجرم حرب” و”قاتل”.
ترى مجلة “تايمز” أن أي وزير خارجية أو مستشار للأمن القومي وهما المنصبان اللذان شغلهما كيسنجر، يجد نفسه مجبراً على الاختيار بين السيئ والأسوأ، كما هو الحال اليوم بالنسبة إلى أنتوني بلينكن وجيك سوليفان، اللذين يشغلان هذين المنصبين، واتخذا قراراً من شأنه “التخلي عن الشعب الأفغاني لطالبان”، لتنفيذ تعهد الرئيس جو بايدن بالانسحاب من حرب العقدين المكلفة لواشنطن اقتصادياً وسياسياً وفق الإدارة الحالية، قبل أن يصبا على أوكرانيا أسلحة بقيمة عشرات المليارات من الدولارات في رهان أكثر خطورة لكبح روسيا.
وتجادل المجلة قائلة، إن هذه الإجراءات لا تثير الإساءات نفسها التي تعرض لها كيسنجر على مر السنين لدوره في أحداث مثل حرب فيتنام، مشيرة إلى أنه تلقى قدراً كبيراً من النقد من اليمين كما اليسار، وإن اختلفت الأسباب.
ولا مثال يوضح موهبة كيسنجر في إثارة حنق اليسار واليمين بقدر خطابه القصير في منتدى “دافوس” الاقتصادي يوم 23 مايو (أيار) الماضي، الذي قال فيه، إن على “أوكرانيا التخلي عن بعض أراضيها لروسيا”، ما دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى اتهامه بـ”تأييد استرضاء روسيا الفاشية على غرار عام 1938”. فإن ما هو أكثر غرابة في تلك الضجة وفق “تايمز” هو أن كيسنجر لم يقل شيئاً من هذا القبيل، إنما قال إنه للتوصل إلى صفقة سلام بين الطرفين، فإن “الخط الفاصل بين أوكرانيا وروسيا يجب أن يعود إلى الوضع السابق”، أي الوضع قبل شن روسيا الحرب في 24 فبراير (شباط) الماضي، عندما كانت أجزاء من دونيتسك ولوغانسك تحت سيطرة الانفصاليين الموالين لموسكو، وكانت شبه جزيرة القرم جزءاً من روسيا، كما كان الحال منذ عام 2014. وهذا ما قاله زيلينسكي نفسه في أكثر من مناسبة، على الرغم من أن بعض المسؤولين الأوكرانيين طالبوا في الآونة الأخيرة بالعودة إلى ما قبل حدود 2014.
وبحسب المجلة، فإن تفسير تصريحات كيسنجر على نحو خطأ ليس أمراً جديداً عليه، فعندما كان جو بايدن، نائب الرئيس آنذاك، يحاول إقناع باراك أوباما بالانسحاب من أفغانستان، أجرى بايدن “مقارنة مؤسفة” مع سياسة الرئيس نيكسون تجاه فيتنام. وقال للمبعوث الأميركي إلى أفغانستان وباكستان ريتشارد هولبروك، إنه “يجب أن نخرج من هناك. لنقم بما فعلناه في فيتنام”، فإن هولبروك رد بأنه كان يعتقد أن لدى الولايات المتحدة “التزاماً معيناً تجاه الأشخاص الذين وضعوا ثقتهم فينا” وما كان من بايدن إلا إن قال، “لا داعي للقلق بشأن ذلك، فعلنا ذلك في فيتنام، وأفلت نيكسون وكيسنجر من العقاب”.
وترى المجلة أن تفسير بايدن خطأ، لأن نيكسون وكيسنجر رفضا فكرة التخلي عن جنوب فيتنام لمواجهة مصيرها، بخلاف مطالب المتظاهرين المناهضين للحرب في عام 1969، وبدلاً من الانسحاب والهرب، سعى نيكسون وكيسنجر إلى تحقيق “سلام بشرف”، وكانت استراتيجيتهما المتمثلة في “الفتنمة” نسخة من سياسة الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا اليوم، المتمثلة في توفير الأسلحة لتمكين البلاد من الكفاح من أجل الحفاظ على استقلالها، بدلاً من الاعتماد على الجنود الأميركيين على الأرض.
نيكسون استحق اللوم لا العزل
في كتابه “القيادة”، يفرد كيسنجر فصلاً كاملاً لنيكسون إلى جانب كونراد أديناور أول مستشار لألمانيا، وشارل ديغول أول رئيس وزراء للجمهورية الفرنسية الخامسة، وأنور السادات ثالث رئيس لمصر، ولي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة، إضافة إلى مارغريت ثاتشر.
ولدى سؤاله عن سر تضمين نيكسون في كتاب عن القيادة على الرغم من أنه الرئيس الأميركي الوحيد الذي أجبر على الاستقالة، كرر كيسنجر، رأي برايس هارلو مستشار نيكسون الراحل، مشيراً إلى أن بعض “الحمقى” دخلوا إلى المكتب البيضاوي وفعلوا ما قيل لهم من نيكسون حرفياً. وشدد على أن “المساعدين يجب ألا يخضعوا مبادئهم السياسية لتصريحات عاطفية متعلقة بأفعال لن يقدموا عليها لو فكروا بتمعن”. وتعلق “تايمز” بالقول، إن “نيكسون كان يعطي أوامر “متهورة”، فإن كيسنجر تعلم ألا يتحرك بناء عليها بسرعة.
ودافع وزير الخارجية الأميركي السابق عن نيكسون، موضحاً أن “ووترغيت كانت سلسلة من التجاوزات”، بدأت من اقتحام مقر اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، بناء على أوامر حملة نيكسون لإعادة الانتخاب في عام 1972، ثم جمع تحقيق واحد تلك التجاوزات التي يقول، إنه “كان ولا يزال يعتقد أنها تستحق اللوم، ولم تتطلب العزل من المنصب”.
وعلى الرغم من ذلك، فإن كيسنجر يعتبر “ووترغيت” كارثة، لأنها دمرت استراتيجية السياسة الخارجية، التي ابتكرها هو ونيكسون، لتقوية موقف الولايات المتحدة، التي كانت تخسر الحرب الباردة عندما تولى السلطة في يناير (كانون الثاني) 1969، ويتذكر أن نيكسون “أراد إنهاء حرب فيتنام بشروط شريفة، وأراد أن يمنح التحالف الأطلسي توجهاً استراتيجياً جديداً. وقبل كل شيء، أراد تجنب الصراع النووي مع الاتحاد السوفياتي من خلال سياسة الحد من التسلح”.
وأضاف، “بعد ذلك كان هناك لغز الصين غير المكتشف. أعلن نيكسون منذ يومه الأول أنه يريد الانفتاح على الصين. لقد أدرك أن هذه كانت فرصة استراتيجية، وأن خصمين للولايات المتحدة كانا في صراع مع بعضهما البعض”، في إشارة إلى الحرب الحدودية التي اندلعت بين الاتحاد السوفياتي والصين في عام 1969. وتابع، “باسمه، أعطيت تعليمات لمحاولة جعل أنفسنا أقرب إلى الصين وروسيا”. وكانت تلك الاتجاهات تنشأ وتتعزز قبل فضيحة “ووترغيت”.
واسترجع الدبلوماسي المخضرم الدلائل التي تثبت نجاح الاستراتيجية التي صاغها مع الرئيس، لافتاً إلى أنه بنهاية رئاسة نيكسون عندما كان يحظى بدعم داخلي قبل صاعقة “ووترغيت” تم التوصل إلى اتفاق سلام في فيتنام كان بشروطه “مشرفاً ومستداماً”، على حد وصفه، وأعيدت صياغة سياسة الشرق الأوسط، بإخراج السوفيات من المنطقة، وإرساء دور الولايات المتحدة كوسيط سلام بين العرب والإسرائيليين. كما انفتحت واشنطن على الصين وتفاوضت على الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا، قبل أن “يتفكك الدعم المحلي”، وتجبر “كارثة نيكسون المحلية” إدارته على الصمود في مواجهة الانقسام بدلاً من استغلال الفرص.
الغضب استبدل الحوار في أميركا
يصور كتاب كيسنجر نيكسون كشخصية مأساوية وخبير استراتيجي لم يدمر تستره غير الأخلاقي على جريمة فريق حملة إعادة انتخابه فقط، بل قضى أيضاً على فيتنام الجنوبية. ولم يكن ذلك كل شيء، إذ يجادل كيسنجر بأن الهزيمة في فيتنام هي التي وضعت الولايات المتحدة في دوامة من الاستقطاب السياسي، قائلاً إن “الصراع أدخل أسلوب نقاش عام يتمحور بدرجة أقل حول الجوهر منه حول الدوافع والهويات السياسية. حل الغضب محل الحوار كطريقة لإدارة النزاعات، وأصبح الخلاف صراع ثقافات”.
وعما إذا كانت الولايات المتحدة أكثر انقساماً اليوم مما كانت عليه أثناء الحرب في فيتنام، أجاب، “نعم، أكثر انقساماً بشكل هائل”. واسترسل في حديثه “في أوائل السبعينيات كانت إمكانية التعاون بين الحزبين قائمة. وكانت المصلحة الوطنية مصطلحاً دالاً، ولم تكن في حد ذاتها موضوعاً مختلفاً عليه. انتهى ذلك إذ تواجه كل إدارة الآن عداء مستمراً من المعارضة وبطريقة مبنية على أسس مختلفة، ويدور الجدل غير المعلن والحقيقي في أميركا الآن حول ما إذا كانت القيم الأساسية لأميركا صالحة”. ويقصد بهذه القيم، مكانة الدستور، وسيادة حرية الفرد، والمساواة أمام القانون.
ويتجنب كيسنجر، الجمهوري منذ خمسينيات القرن الماضي، التصريح بأن هناك عناصر في اليمين الأميركي يبدو أنها تشكك في هذه القيم الآن، لكن من الواضح وفق “تايمز” أنه لم يعد أكثر حماسة لمثل هذه الأنماط الشعبوية مما كان عليه في أيام باري غولدواتر، المرشح الرئاسي في الستينيات، الذي كان مدافعاً قوياً عن الفردية ومعادياً شرساً للشيوعية. وعن اليسار التقدمي يقول “يجادل الناس الآن بأنه ما لم يتم قلب هذه القيم الأساسية، وتغيير مبادئ تنفيذها، فليس لدينا أي حق أخلاقي حتى في تنفيذ سياستنا الداخلية، ناهيك بسياستنا الخارجية”. ويضيف، “هذا “ليس رأياً شائعاً حتى الآن، لكنه خبيث بما يكفي لدفع كل شيء آخر في اتجاهه ومنع توحيد السياسات. وهذه وجهة نظر تؤمن بها مجموعة كبيرة في المجتمع الفكري، وربما تسيطر على جميع الجامعات والعديد من وسائل الإعلام”.
وعما إذا كان بوسع قائد ما سد الانقسام. يقول، “ما يحدث إذا كان لديك انقسامات لا يمكن تجاوزها هو أحد أمرين، إما أن ينهار المجتمع ولا يعود قادراً على تنفيذ مهامه تحت أي قيادة، أو أنه يتجاوزها”، مشيراً إلى أن الصدمة الخارجية والعدو الخارجي والأزمات المحلية الخارجة عن السيطرة، من طرق القيام بذلك.
ثاتشر لكسينجر: لماذا يا صديقي القديم؟
يرى كيسنجر أن القيادة اليوم أصبحت أكثر صعوبة بسبب “مزيج الشبكات الاجتماعية والأساليب الجديدة للصحافة والإنترنت والتلفزيون، التي تركز الانتباه على المدى القصير”. وهذا يقودنا إلى وجهة نظره المميزة حول القيادة، إضافة إلى نماذج القادة الستة الذين اختار الكتابة عنهم، كونهم يتشاركون خمس صفات وهي: القدرة على سرد الحقائق الصعبة، وامتلاك الرؤية، والاتسام بالجرأة، إضافة إلى القدرة على إنفاق وقتهم في العزلة، وعدم خشيتهم إثارة الخلاف”.
ويضيف، “يجب أن تكون هناك لحظة تأمل في حياة القائد”، مشيراً إلى الفترة التي أمضاها كونراد أديناور بالمنفى في ألمانيا النازية، وسجن ديغول، وسنوات نيكسون في منتصف الستينيات بعد أن خسر رهانه الانتخابي لمنصبي رئيس الولايات المتحدة وحاكم كاليفورنيا، وسجن السادات عندما كانت مصر لا تزال تحت سيطرة بريطانيا.
ولدى حديثه عن مارغريت ثاتشر، التي كَنَّ لها مودة واحتراماً عميقين، استذكر كيسنجر أنه في مرحلة مبكرة من حرب الفوكلاند، التي اشتعلت بين الأرجنتين والمملكة المتحدة على إقليمين تابعين لبريطانيا في جنوب المحيط الأطلسي، وبعد تواصله مع وزير الخارجية البريطاني آنذاك فرانسيس بيم، سأل كيسنجر ثاتشر عن “شكل الحل الدبلوماسي الذي تفضله”، لترد قائلة، إنها لن تقدم أي تسوية، مستفهمة بغضب، “كيف يمكنك يا صديقي القديم؟ كيف يمكنك أن تقول هذه الأشياء؟” واستحضر الدبلوماسي التسعيني الموقف قائلاً، “لقد كانت غاضبة للغاية، ولم أحتمل إخبارها أن الفكرة لم تكن لي، بل اقترحها وزير خارجيتها”.
وعن رأيه حول رئيس الوزراء البريطاني الحالي بوريس جونسون، الذي نجا أخيراً من العزل من منصبه بصعوبة، وعما إذا كانت تنطبق عليه صفات القائد لدى كيسنجر بالنظر إلى أنه لم يتسم بكثير من الانضباط الذاتي في “داونينغ ستريت”، نوه كيسنجر بدور جونسون في إنجاح “بريكست”. وقال إنه “قاد على صعيد التاريخ البريطاني، مسيرة مذهلة لتغيير اتجاه بريطانيا في أوروبا، الأمر الذي سيسجل كأحد أهم التحولات في التاريخ”.
الكوميدي الذي أصبح “بطل حرب”
وعن وجهة نظره في رئيس أوكرانيا، الممثل الكوميدي الذي تحول إلى “بطل حرب” في أعين مواطنيه، أقر كيسنجر، بأن “زيلينسكي أدى مهمة تاريخية”، لافتاً إلى قدومه من خلفية غير مسبوقة على صعيد القيادات الأوكرانية، في إشارة إلى أن زيلينسكي يهودي مثل كيسنجر. وأضاف، “لقد كان رئيساً بالصدفة بسبب الإحباط من السياسة الداخلية. وبعد ذلك واجه محاولة روسيا لإعادة أوكرانيا إلى موقع تكون فيه تابعة وخاضعة كلياً لها”، مشيراً إلى أن “إنجازه العظيم” هو أنه “حشد دولته والرأي العالمي خلفها بطريقة تاريخية”. ومع ذلك، يبقى السؤال الذي يطرحه كيسنجر يدور حول ما إذا كان بإمكان زيلينسكي “الحفاظ على ذلك أثناء إرساء السلام، خصوصاً السلام الذي ينطوي على بعض التضحية المحدودة؟”.
أما عن خصم زيلينسكي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي التقى به الدبلوماسي المخضرم في مناسبات عدة، منها لقاء الصدفة في أوائل التسعينيات، عندما كان بوتين نائب عمدة سان بطرسبرج، فيقول إن مشكلة بوتين هي أنه “رئيس دولة آخذة في التدهور”، مؤكداً أنه لا “عذر” لفعلته هذا العام. ويذكر في المقابلة بالمقالة التي كتبها في عام 2014، حين ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، حين عارض ضم أوكرانيا إلى “الناتو”، ودعا إلى أن تكون دولة محايدة مثل فنلندا، محذراً من أن انضمامها للناتو يخاطر بقيام الحرب.
وبينما تسعى الآن فنلندا والسويد إلى الانضمام للحلف العسكري النافذ، تسود التساؤلات حول ما إذا كان “الناتو” يستمر في التوسع بلا حاجة، ويرد عليها كيسنجر قائلاً، “كان الناتو التحالف المناسب لمواجهة روسيا العدوانية عندما كانت التهديد الرئيس للسلام العالمي”. “وقد نما الناتو ليصبح منظومة تعكس التعاون الأوروبي والأميركي على نحو فريد”. وأكد تأييده الحلف في استجابته للأزمة الأوكرانية، مشيراً إلى أنه منظومة لا تتشارك دولها بالضرورة آراء متوافقة، لكنهم اتفقوا على القضية الأوكرانية، لأن ما يحدث يذكر بالتهديدات القديمة، على حد قوله، فإن السؤال بالنسبة له الآن يدور حول “كيفية إنهاء الحرب، ففي نهايتها يجب إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا، إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا بؤرة استيطانية للصين في أوروبا”.
إلى أين يذهب العالم؟
في أواخر عام 2019، قال كيسنجر إن “العالم على مشارف حرب باردة”، أما اليوم فينظر إلى المشهد ويصفه على هذا النحو: “دولتان لديهما القدرة على السيطرة على العالم” وهما الولايات المتحدة والصين، “تواجهان بعضهما البعض باعتبارهما المتنافسين النهائيين. وتحكمها أنظمة محلية غير متوافقة. وهذا يحدث عندما تعني التكنولوجيا أن الحرب ستؤدي إلى انتكاس الحضارة، إن لم يكن تدميرها”.
ويرى كيسنجر، أن العالم مقبل على فترة في غاية الصعوبة، مشيراً إلى أن الحرب الباردة الثانية ستكون أكثر خطورة من الحرب الباردة الأولى، لأن كلاً من الولايات المتحدة والصين تملكان موارد اقتصادية مماثلة بخلاف وضعهما في الحرب الباردة الأولى، إضافة إلى ظهور تقنيات تدمير أكثر رعباً، خصوصاً مع صعود الذكاء الاصطناعي.
وعن جهوزية الغرب وما يحتاج إليه. يقول “يبدو أننا في الغرب لدينا مهام غير متوافقة. أنت بحاجة لمنشآت دفاعية قادرة على مواجهة التحديات الحديثة. وفي الوقت نفسه، تحتاج إلى نوع من التعبير الإيجابي عن مجتمعك بحيث تكون هذه الجهود باسم شيء ما، وإلا فلن تستمر. ثانياً، أنت بحاجة إلى مفهوم التعاون مع المجتمع الآخر، لأنه لا يمكنك الآن العمل على أي مفهوم لتدميرهم، لذا فإن الحوار ضروري”.
ولا يملك مهندس العلاقات الأميركية مع الصين شكاً في أن البلدين اليوم خصمان، ويؤكد أن “انتظار الصين لتصبح غربية” لم تعد استراتيجية معقولة، مشيراً إلى أنه وعلى الرغم من أن “الهيمنة على العالم ليست مفهوماً صينياً”، فإن ذلك ممكن الحدوث إذا أصبحت قوية للغاية، وهذا يتعارض مع مصلحة الولايات المتحدة. ومع ذلك، ما زالت القوتين العظميين تلتزمان بأدنى حد من الالتزام المتبادل لمنع حدوث تصادم كارثي”.
“أحاول أن أكون قائداً”
يرى كيسنجر أن “القيادة ضرورية لمساعدة الناس على مغادرة مكانهم الحالي للوصول إلى حيث لم يكونوا من قبل، وفي بعض الأحيان، الأماكن التي لم يتخيلوا الذهاب إليها”، محذراً من أن غياب القيادة ينتج عنه انحراف المؤسسات، وانفصال الدول عن الواقع أكثر، لتقع الكارثة في نهاية المطاف. وعما إذا كان كيسنجر يعد نفسه قائداً، يجيب بأنه في بداياته لم يعتقد أنه كان قائداً، بخلاف اليوم، مضيفاً بتواضع جم بالنسبة لرجل قاد مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية في فترات حرجة، “أحاول أن أكون قائداً”.
ويختم كيسنجر حديثه مؤكداً أن الناس باتوا أقل استعداداً ليقادوا، بينما تكمن المفارقة في أن “الحاجة إلى القيادة أصبحت أكبر من أي وقت مضى”.
المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية ولاتعبر عن راي الموقع