100 يوم من الحرب: خسائر فادحة في أوكرانيا
السياسية:
مزّق الغزو الروسي شمل العائلات وحوّل قرى وبلدات ومدناً إلى ركام… تقرير كيم سنغوبتا من دونباس حيث يشتد الصراع
تترك القنابل والرصاصات وراءها حصيلة ثقيلة، بين قتيل ومشوه. تلتهم النيران المنازل، ويمزق شمل العائلات، ويعاني الأبرياء. بعد مرور مئة يوم على الحرب في أوكرانيا، المجزرة مستمرة، ووحدها ساحات القتل قد تغيرت.
ولا بوادر على انتهاء هذا الصراع الهائل والصاعق الذي يغير وجه التاريخ المعاصر عما قريب.
جاءت نهاية البداية مع مقاومة العاصمة الأوكرانية كييف ومدينتها الثانية، خاركيف، الهجمات الروسية المطولة وتصديها لها، ووقوع مدينة ماريوبول الساحلية في قبضة موسكو بعد أشهر من الدك العنيف، واحتلال مدينة خيرسون الجنوبية، لكن مع إطلاق أوكرانيا هجمات مضادة في المنطقة.
أما بداية النهاية، فبعيدة جداً. يتركز الصراع الشرس الذي لا يكل الآن في منطقة دونباس. وقد غطيت وزملائي الحرب الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك من هذه المنطقة التي أدت إلى تقطيع أوصال أوكرانيا منذ ثمانية أعوام. وهي الآن المكان الذي يأمل الكرملين أن يحرز فيه فوزاً يسمح لفلاديمير بوتين بإعلان انتصاره في الغزو الذي شنه في أواخر شهر فبراير (شباط).
انتقلت ساحات المعارك من البلدات المدمرة حول كييف، مثل بوتشا وإيربين وتشيرنييف ومدينة خاركيف، ومعها قرى منكوبة تحيط بها مثل فيلخيفكا وروسكا لوزوفا وستاري سالتيف، إلى ميادين المدن الشرقية مثل سيفيرودونتسك وليسيشانسك وليمان.
هذا الأسبوع، قصف الروس سلوفيانسك، التي انطلقت منها حركة التمرد في عام 2014 وأدت بعدها إلى تشكيل “الجمهوريتين الشعبيتين” الانفصاليتين في دونيتسك ولوغانسك. راقبت الانفصاليين، المسلحين والمدربين بشكل جيد، فيما استولوا على مقر الشرطة ومبنى البلدية ومكاتب جهاز الاستخبارات (أس بي يو)، خلال عطلة نهاية أسبوع واحدة. ذكرني ذلك بما حصل على نطاق أصغر بكثير قبل أشهر قليلة، حين شهدنا استيلاء “الرجال الخضر الصغار” الروس الذين ظهروا فجأة من العدم، على شبه جزيرة القرم.
في وقت لاحق، قاد عملية سلوفيانسك إيغور غيركين، واسمه الحركي ستريلكوف، الذي شارك في انقلاب شبه جزيرة القرم وتقلد بعد ذلك منصب “وزير الدفاع” في “جمهورية دونيتسك الشعبية”. ذاع صيت غيركين عالمياً وقد أدانه المدعون العامون في هولندا منذ ثلاث سنوات بتهمة القتل، على خلفية إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية، الرحلة 17 في يوليو (تموز) 2014.
ترتدي سلوفيانسك أهمية استراتيجية وثقافية، إذ تشكل هذه المدينة، إضافة إلى العاصمة الإقليمية المجاورة لها كراماتورسك مفتاح استيلاء موسكو على الشرق. وتأتي الهجمات على تلك المنطقة من ناحية ليمان التي تبعد 15 ميلاً عن سلوفيانسك، وقد وقع الجزء الأكبر منها في يد الروس.
كما يدور في الوقت نفسه قتال عنيف في سيفيرودونتسك وليسيشانسك. إن استولى الروس على هذه المدن، سيسيطرون على منطقة لوغانسك التي تشكل نصف دونباس ومدخلاً إلى باقي المنطقة.
إن الحرب في دونباس، المنطقة القاسية التي تضم مناجم فحم ومعامل صلب، ضارية وشخصية. كثير من الأشخاص على جبهتي القتال ينتمون إلى الأوساط المحلية نفسها، وحتى العائلات نفسها في بعض الأحيان. خدم بعضهم جنباً إلى جنب في قوات الشرطة والجيش قبلاً، في المناطق التي أصبحت اليوم جيوباً موالية للروس.
حين لقي ليونيد غوباروف مصرعه أثناء قتاله الانفصاليين، ومنح بعد وفاته وسام “بطل أوكرانيا”، كان والده يقاتل في الجانب الآخر.
تحدث أنطون دياتشينكو، وهو مدفعي في ليسيشانسك، عن أخيه غير الشقيق الذي ترعرع معه، والذي يخدم حالياً في صفوف قوات “جمهورية (دونيتسك) الشعبية”. وهو يأمل أن يراه يوماً ما “عندما يعود إلى رشده”.
أما بوغدان، جندي البحرية، فأخبرني من جهته عن محاولاته للوصول إلى والدته وشقيقته البالغة من العمر 15 عاماً، وهما عالقتان في منطقة من لوغانسك تابعة للانفصاليين.
زعم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الزخم تحول لصالح بلاده في الحرب، وقال “إن هدفنا الواضح بالطبع هو إخراج الجيش الأوكراني من منطقتي دونيتسك ولوغانسك، وسوف نبلغ مأربنا”.
قد لا يقف الموضوع عند هذا الحد. مع احتلال الشرق، وفتح ممر أرضي وصولاً إلى بحر آزوف سهله الاستيلاء على ماريوبول، قد يحاول الروس الدفع [المضي قدماً] جنوباً باتجاه أوديسا. وهو مرفأ يحاصرونه بالفعل ويمنعون حركة التصدير منه ما يلحق بالاقتصاد الأوكراني خسائر فادحة.
يتفوق السلاح الروسي على سلاح القوات الأوكرانية في كل خطوط المعارك شرقاً، وهذا ما كبدها خسائر فادحة. ويتهم الرئيس فولوديمير زيلينسكي روسيا بأنها “تريد تدمير دونباس”. وتخلف هذه العملية خسائر مروعة في أرواح المدنيين والجيش الأوكراني، مع مصرع نحو 100 جندي كل يوم. وفيما عدد الجرحى ليس معروفاً، إنما قياساً على معدلات ميادين القتال، يقدر عدد المصابين من المقاتلين بثلاثة أضعاف عدد القتلى في المعارك.
على كل جبهة من جبهات القتال في دونباس، لدى المقاتلين الأوكرانيين رسالة واحدة – إنهم في مواجهة هجمات مدفعية روسية ضارية، ولا يملكون ما يكفي من الأسلحة أو الصواريخ بعيدة المدى لكي يردوا على هذه النيران، كما أن استخدامهم للأسلحة المتوفرة محدود بسبب نقص الذخيرة. فالسلاح الغربي المتطور الموعود لم يصل ببساطة بالسرعة الكافية لكي يحدث فرقاً [ليحدث تغييراً في موازين القوى].
بعض الذين تحدثت معهم يعرفون حق المعرفة مدى الضرر الذي تتسبب به النيران الروسية لأنهم تعرضوا أنفسهم للإصابة أثناء القتال.
أصيب بوغدان، الجندي البحري الذي لا تزال عائلته في لوغانسك الانفصالية، بشظايا في ظهره. “إن القصف عنيف، فهم يركزون على هدف معين ويستمرون بدكه جولة بعد جولة وتصبح المواجهة صعبة. نحن نتكبد خسائر جسيمة بين قتيل وجريح. وما لم نحصل على أسلحة تسمح لنا بالتصدي للروس وتمنحنا فرصة للقتال، أعتقد أن الكثير منا قد يلقى حتفه”.
أصبحت الأعمال البطولية، من قبيل استخدام القذائف الصاروخية، آر بي جي، ضد المركبات المصفحة، التي كال عليها الإعلام العالمي المديح، تكلف الكثير من الأرواح.
ويشير بوغدان إلى أن “المشكلة هي في أن الروس يستخدمون دباباتهم الحديثة، وقد تعلموا من أخطائهم. أصبح أصعب بكثير إحراز نتائج فعالة باستخدام القذائف المدفعية فحسب، كما أن ذلك خطير جداً”.
شرح فاليري بيسكوفي ذو الـ22 عاماً، المتخصص بالتحكم بالطائرات المسيّرة، والذي أصيب في ساقه أثناء عملية قتل فيها زميلاه، كيف يستخدم الروس “المدفعية الثقيلة والغارات الجوية. وإحدى التكتيكات التي يستعملونها هي دفعنا إلى نقطة معينة يمطرونها بعد ذلك بوابل من النيران، وغالباً ما لا يكون لدينا ما يعيننا على الرد عليهم”.
ومع ذلك، تظهر بعض التطورات المشجعة وسط هذا الوضع القاتم [الحالك]. بعد فترة طويلة من التداولات، وافقت الولايات المتحدة على إمداد أوكرانيا بأسلحة جديدة منها منظومة “هيمارس” الصاروخية أم 142 عالية الحركة. أعلن جو بايدن إن مدى الصواريخ لا يتيح وصولها إلى العمق الروسي، لكن الصواريخ الموجهة عالية الدقة قادرة على ضرب أهداف على بعد 45 ميلاً، أي في عمق نقاط إطلاق النار الروسية.
أيضاً هذا الأسبوع، أكدت المملكة المتحدة نيتها إرسال راجمات صواريخ من طراز أم 270 ذاتية الدفع وأميركية صنع يصل مداها إلى 49.7 ميل ومن شأنها أيضاً وضع المواقع الروسية في مرمى الخطر. وسوف تتدرب القوات الأوكرانية في بريطانيا “لتعزيز” آثار الأسلحة حسب تصريح وزارة الدفاع في لندن.
وعلى القوات الأوكرانية الصمود حتى تصبح هذه المنظومات جاهزة للاستخدام. وهو ما يعني بلا شك فقدان المزيد من الأرواح وإحباط معنويات الناجين الذين يواصلون القتال.
تقول الحكومة الأوكرانية إنها بصدد تجهيز مليون رجل وامرأة للقتال، 400 ألف منهم من القوات النظامية و600 ألف من متطوعي قوات الدفاع الميدانية، ولكن ذلك سيستغرق بعض الوقت. والوضع خطير إذن بالنسبة لأوكرانيا، ولكنه كان من الممكن أن يكون أسوأ بكثير.
في الصباح الباكر من يوم 24 فبراير، حين كنا في كييف، نشهد أولى الغارات الصاروخية الروسية، بدا أنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن تسقط العاصمة. تمكنت قوات الدفاع الجوي الأوكراني من اعتراض عدد كبير من الصواريخ التي انهالت على المدينة، لكن بعضها الآخر سقط [انهمر] بالفعل عليها فأصاب مباني سكنية ودمر منازل وقتل وجرح أشخاصاً.
حاولت المجموعات الروسية الغازية اقتحام المدينة مرة تلو الأخرى، لكنها أرغمت على التراجع بفضل الاشتباكات المسلحة في الضواحي. وزعم بأن المتسللين، ومنهم فريق من الشيشان، قدموا إلى العاصمة بهدف اغتيال الرئيس زيلينسكي وأعضاء من حكومته. رأيت جثث بعض “القتلة” كما شاهدت اعتقال بعضهم الآخر.
كانت قافلة روسية عسكرية تمتد 40 ميلاً تسير باتجاهنا. وكنا أمام خطر رهيب، حسب تحذير السياسيين والخبراء العسكريين الغربيين. وساد الاعتقاد أن العاصمة الأوكرانية ستسوى بالأرض وتصبح شبيهة بغروزني بعد الحرب الشيشانية منذ 20 عاماً مضت. ومع وصول قوات موسكو إلى مسافة لا تبعد سوى 20 ميلاً عن وسط المدينة، بدا ذلك احتمالاً مرجحاً.
دار قتال شرس داخل البلدات والقرى خارج كييف: وأصبح نقل الأخبار صعباً وخطيراً. لقي خمسة صحافيين مصرعهم في غضون أسبوع واحد. ووجدنا أنفسنا، زملائي وأنا، عالقين وسط تبادل إطلاق النار، واضطررنا في إحدى المرات إلى التخلي عن سيارتنا في منطقة تحولت إلى منطقة إطلاق نار حر على كل الأهداف المتحركة.
قصدت خاركيف فوجدتها تتعرض لغارات صاروخية ومدفعية وجوية مستمرة. حاول الروس اقتحام المدينة عدة مرات وفشلوا. وكانوا بصدد تدمير ثاني أكبر المدن الأوكرانية بنيرانهم بعيدة المدى.
كان جزء كبير من السكان يعيش تحت الأرض في شبكة المترو توخياً للأمان. أما الخروج لشراء الطعام أو إحضار بعض المقتنيات الشخصية من المنازل، فكان يشكل خطراً. شهدنا سقوط صاروخ على صف من المنتظرين خارج أحد المتاجر، وكان من بين القتلى سيدة مسنة جاءت من أحد الملاجئ في شبكة المترو.
ولكن رويداً رويداً، وعلى الرغم من كل الاحتمالات ووسط كل سفك الدماء هذا، انقلبت الآية. أجبرت القوات الروسية على الخروج من الشمال حول كييف، ثم من حول خاركيف. وللمرة الأولى، بدا وكأن أوكرانيا ستنجو من فلاديمير بوتين.
مع انسحاب الروس، بدأت فظائع الاغتيال والتعذيب والاغتصاب تتكشف، وظهرت جثث الضحايا الملقاة في قبور جماعية والمتروكة لكي تتعفن في الشوارع وتأكلها الحيوانات. كما ظهرت عمليات النهب وإحراق المنازل والمدارس والمكاتب والمصانع.
وأصبحت بلدة بوتشا أكبر مثال على هذه الهمجية. ولكنني زرت مواقع ارتكبت فيها أعمال وحشية كذلك في إيربين وماكاريف، وتشيرنييف وهوستوميل كما في القرى المحيطة بخاركيف. وبرزت إشارات أوضح على القتل الجماعي كما في قصف محطتي القطار في ماريوبول وكراماتورسك.
ضاعفت هذه الفظائع، مع ما يظهر كل أسبوع من دلائل على وجود حالات أخرى، شعور الغضب والمرارة في أوكرانيا بسبب الحرب: في بوتشا، وقفت بجانب نيكولاي، النقيب في وحدة متطوعين، فيما مدد رجاله أرضاً جثث جنود روس وقعوا في كمين، وهم مضرجين بدمائهم وعليهم آثار الذخيرة التي استخدموها.
وقال لي، “لا أشعر بالشفقة تجاههم على الإطلاق. ربما سأتمكن من ذلك يوماً ما، ولكن ليس الآن. لقد رأيت ما الذي فعلوه هنا: قتلاً واغتصاباً. سيظهر المزيد عن هذه الأفعال صدقني. كان من المفترض بهم أن يكونوا جنوداً ولكنهم تصرفوا كالوحوش”.
التقيت نيكولاي، الذي تعيش عائلته في باخموت في منطقة دونباس، للمرة الأولى في العام 2014 أثناء مشاركته في مناوشات على مطار دونيتسك، ثم بعد ذلك بعام في ديبالتسيفي، وهو ممدد على حمالة وملفوف بضمادات مليئة بالدماء، وكان واحداً من مئات الجرحى الذين أصيبوا إلى جانب 270 جندياً أوكرانياً قتلوا في معركة كانت الأفضلية فيها للانفصاليين المدعومين بالمدفعية الروسية.
أما المرة الأخيرة التي التقينا فيها، فالأسبوع الماضي في ليسيشانسك، عند عودته منهكاً من مهمة نقل الإمدادات للقوات في سيفيرودونتسك. وتكلم عن الخسائر التي تقع ونقص الذخيرة، وأيضاً عن محاولة إقناع والديه بالانتقال من باخموت إلى بوكفورسك الواقعة في دونباس كذلك، ولكن على مسافة أبعد من الخطوط الأمامية.
وتناقشنا في موضوع أولئك الانفصاليين والقوميين، السياسيين والصحافيين الذين كانوا هنا إبان صراع العام 2014. تحول البطل الانفصالي إيغور غيركين الآن إلى منتقد لـ”العملية العسكرية” الخاصة التي يشنها بوتين، وهو يوجه سهام نقده لإخفاقات العملية على نحو غير مباشر عبر وسائل التواصل.
وقد أعلن خلال بث له، “هل يضمن تفوق القوات المسلحة التابعة لروسيا الاتحادية في مجال الطيران [سلاح الجو] والأسلحة الثقيلة الانتصار على عدو لا تخفى عليه خطط هجومنا، وهو مستعد للدفاع ومعنوياته مرتفعة؟ جوابي هو كلّا، لا ضمانة على ذلك”.
ضحك نيكولاي على هذا الكلام، وقال، “أتمنى لو أملك ثقة الرفيق إيغور. الوضع صعب للغاية ولا سيما في سيفيرودونتسك. أعتقد أنه يمكننا قلب مسار الأمور بمساعدة الأسلحة الأميركية والبريطانية، ولكن هل ستصل إلينا في الوقت المناسب؟ سنرى، الغد إلى ناظره قريب”.
بعد توقفه لإصدار أوامر لرجاله تابع بقوله، “لدينا آراؤنا الخاصة حول ضرورة الانسحاب من سيفيرودونتسك من عدمه، وعلينا تفادي تكرار ما حصل في ماريوبول، ولكن القرار ليس بيدنا، إنما بيد السياسيين في نهاية المطاف”.
“ولكن، هل تعلم، شعرت منذ بداية الحرب بأننا سنصل إلى هذه النقطة، في دونباس، هذا المكان الذي أطلق الروس منه غزو بلادنا منذ ثمانية أعوام، وهنا سيحسم الأمر برأيي. لا يمكننا التخلي عن الشرق. علينا القتال. سيكون طويلاً وصعباً: وأخشى – للأسف – أن كثيرين منا لن يكونوا معنا [أحياء يرزقون] لرؤية انتصارنا”.
بقلم: كيم سنغوبتا ـ مراسل اندبندنت شؤون الدفاع والأمن
المصدر: ـ اندبندنت عربية ـ المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب