السياسية:

إذا ذكرت “فاغنر” فالمعنى الذي يقفز إلى الذهن هو مجموعات المرتزقة الذين قاتلوا ولا يزالون في سوريا وليبيا ومالي وأوكرانيا ودول أخرى، لكن “فاغنر” تمثل أكبر من ذلك بكثير، في إفريقيا، للرئيس فلاديمير بوتين.

صحيفة The New York Times الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه “جنود بوتين السريُّون ينشرون نفوذه في إفريقيا”، ألقى الضوء على الأنشطة المتعددة التي يبدو أن “فاغنر” تتولاها وتبرع فيها، خاصةً في القارة السمراء.

تشهد إفريقيا بعثاً جديداً لمجموعات المرتزقة، فقد تعاقدت أطراف عدة معهم للقتال في عدد من الصراعات الضارية بالقارة. وربما أصبحت مجموعة فاغنر الروسية إحدى أكثر هذه المجموعات شهرة، لكنها ليست مجرد مجموعة مرتزقة، بل هي شبكة غامضة تجمع بين القوة العسكرية والمصالح التجارية والسعي من أجل الغايات الاستراتيجية لوكيلها، وهي الآن في طليعة الأدوات التي تعتمد عليها روسيا لبلوغ آمال التوسع في إفريقيا.

فاغنر في مالي وليبيا وغيرها من دول إفريقيا
شارك مقاتلو فاغنر في حروب ومعارك جارية في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق وليبيا. وقد تعهدوا بتقديم خدماتهم للزعماء المحاصرين وقادة الميليشيات مقابل المال، أو امتيازات التعدين المربحة للمعادن الثمينة، مثل الذهب والألماس واليورانيوم. واتُّهمت قوات فاغنر مراراً بانتهاج التعذيب وقتل المدنيين وانتهاكات أخرى في هذه البلدان.

لكن فاغنر أكثر بكثير من مجرد مرتزقة يقاتلون طلباً للمال والذهب؛ إنها مجموعة تعتمد في عملها على شبكة مترامية الأطراف من الشركات الوهمية، وقد أصبحت التعويذة السحرية والأداة المثالية التي يستخدمها الكرملين لإدارة عملياته المختلفة في أكثر من اثنتي عشرة دولة إفريقية.

تتدخل فاغنر في سياسة بعض الدول وصراعات الحكم فيها، وتدعم مستبدين، وتنظم حملات دعاية إلكترونية، وتتبرع بالطعام للفقراء وتنتج أفلام الحركة في إفريقيا، حتى إنها نظمت مسابقة لملكات الجمال، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.

حفتر اتفاق وقف اطلاق النار مرتزقة فاغنر

ينفي الكرملين أي صلة له بمجموعة فاغنر، لكن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين، ومعظم الخبراء في شؤون روسيا، يقولون إنها أداة غير رسمية للنظام الروسي ووسيلة زهيدة التكلفة وقابلة للإنكار يستخدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبسط هيمنته، وتعزيز موارده المالية في مواجهة العقوبات الغربية، وتوسيع نفوذه بقارة لا يزال لروسيا فيها نصيب معتبر من التعاطف.

ورصد تقرير “نيويورك تايمز” ما قال إنه كيفية انتشار مجموعة فاغنر في جميع أنحاء إفريقيا، والأسباب التي جعلت هذه المجموعة وعملها يحتلان أهمية كبيرة لدى بوتين.

كيف امتدت فاغنر إلى إفريقيا؟
ظهرت مجموعة فاغنر خلال هجوم بوتين الأول على أوكرانيا في عام 2014، وقاتل مرتزقة المجموعة آنذاك جنباً إلى جنب مع الانفصاليين الموالين لروسيا في منطقة دونباس. وتزعَّم المجموعة آنذاك ديمتري أوتكين، وهو قائد عسكري متقاعد من القوات الخاصة الروسية ويُقال إنه مفتون بتاريخ النازية وثقافتها، بحسب الصحيفة الأمريكية.

يقول مسؤولون أمريكيون إن مجموعة فاغنر توسَّعت بعد ذلك وانتقل مقاتلوها إلى سوريا في عام 2015، وكلِّفت بدعم بشار الأسد والاستيلاء على حقول النفط والغاز. ثم اتجهت المجموعة إلى إفريقيا في عام 2017، بتوجيهات من رئيسها يفغيني بريغوجين، المعروف باسم “طباخ بوتين”.

قالت مصادر عسكرية غربية وخبراء ومحققون تابعون للأمم المتحدة، للصحيفة الأمريكية، إن عمل فاغنر توسَّع بعد ذلك إلى تقديم المشورة لحكام يصفهم الغرب بأنهم ديكتاتوريون، والذين يواجهون تهديدات بالإزاحة عن السلطة، وإدارة حملات التضليل على وسائل التواصل الاجتماعي، وإرسال بعثات مزيفة لتزوير الانتخابات، كما أشرفت على تشغيل مناجم الذهب والألماس في بعض الدول.

يقول خبراء إن “فاغنر” لم تعد شركة واحدة، بل أصبحت اسم العلامة التجارية لشبكة روسية غير رسمية أخذت تمتد في القارة بأكملها.

صامويل راماني، من معهد رويال يونايتد لدراسات الدفاع والأمن، قال لـ”نيويورك تايمز” إن “بريغوجين ليس رجل أعمال مستقلاً، فمصلحته التجارية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بما تفعله مجموعة فاغنر، وهو يستفيد بحصة أرباح مقابل توسطه في الصفقات بين قادة إفريقيا والكرملين”.

أين تعمل فاغنر؟
أخفقت المجموعة إخفاقاً ذريعاً في إحدى عملياتها الأولى بالقارة. فقد نشرت في عام 2019 نحو 160 مقاتلاً بمنطقة “كابو ديلغادو”، وهي منطقة غنية بالغاز تسكنها أغلبية مسلمة وتقع في شمال موزمبيق. ويقول مسؤولون أمريكيون إن متمردين ينتمون إلى مجموعة محلية تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية قتلوا في عدة أسابيع، سبعة مقاتلين على الأقل من مجموعة فاغنر. وهكذا اضطر الروس إلى الانسحاب بعد بضعة أشهر.

بدا أن “فاغنر” اتعظت من أخطائها في موزمبيق، فلم ترتكبها في جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث وصلت في عام 2018 لحماية الرئيس المحاصر، فوستين أرشينغ تواديرا. وأشرفت على تدريب قوات الأمن المحلية، ثم ساعدت الجيش في التصدي لهجوم كبير شنَّه متمردون في أوائل عام 2021.

لكن هذه المكاسب زهيدة الأثر جاءت بتكلفة باهظة، فقد خلص محققون تابعون للأمم المتحدة إلى أن قوات فاغنر قتلت مدنيين ونهبت منازل وأطلقت النار على المصلين في مسجد. ولاحظ مراقبون أن العمليات القتالية للمجموعة تركزت على المناطق التي تعمل فيها شركات بريغوجين على استخراج الألماس.

وشارك مقاتلو فاغنر في الحملة الفاشلة التي شنَّها خليفة حفتر على العاصمة الليبية طرابلس في عام 2019، ويقول مسؤولون غربيون ومحللون إن آلاف المقاتلين من مجموعة فاغنر ما زالوا متمركزين في أربع قواعد في أنحاء مختلفة من ليبيا، معظمها يقع بالقرب من حقول النفط في البلاد.

مالي فرنسا

أما في السودان، فقد حصلت فاغنر على أكثر من اتفاق يمنحها امتياز استخراج الذهب في البلاد، ومن ثم حاولت، لكن دون جدوى، إنقاذ الزعيم المستبد للبلاد، عمر البشير، حتى إزاحته عن الحكم في أبريل/نيسان 2019.

والشريك الرئيسي الآن لمجموعة فاغنر في السودان هو قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، والذي سافر إلى موسكو عشية الحرب على أوكرانيا، واجتمع مع عدد من كبار المسؤولين الروس.

ومع ذلك، ربما تكون أكثر تدخلات “فاغنر” إثارة للجدل واستدعاء للذم هو تدخلها في مالي، فقد وصلت قوات فاغنر في ديسمبر/كانون الأول 2021، بُعيد ما أطلقت عليه وزارة الخارجية الأمريكية “حملة مكثفة من المعلومات المضللة لإخفاء وصولها ونشاطها في البلاد”. وسرعان ما انضم مقاتلو “فاغنر” إلى قتال المتمردين الإسلاميين.

كشفت دراسات بحثية وتقارير نشرتها الأمم المتحدة، أن مجموعة فاغنر شاركت منذ وصولها، إلى منتصف أبريل/نيسان، في أكثر من اثني عشر حادثاً قُتل فيها ما يقرب من 500 شخص.

“فاغنر” أكثر من مجرد مرتزقة
لا يقتصر عمل “فاغنر” على إمداد المتعاقدين معها بالمرتزقة، بل سعت روسيا لاستخدام المجموعة في تشكيل السياسات الحاكمة والآراء العامة في أكثر من اثني عشر بلداً إفريقيّاً، واستعانت في ذلك بوسائل التواصل الاجتماعي وحملات التأثير السياسي.

وأشارت وزارة الخارجية الأمريكية، في تقرير نشرته العام الماضي، إلى ما سمته “شركة تعمل واجهةً لتمديد نفوذ بريغوجين في إفريقيا”، وقال التقرير إن هذه الشركة أشرفت على إرسال بعثات مراقبة مزيفة للانتخابات في زيمبابوي ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب إفريقيا وموزمبيق.

اجتمع روسيان يعملان لدى بريغوجين مع نجل الدكتاتور الليبي السابق معمر القذافي في عام 2019، لكن مناوئين لسيف القذافي أسروا الرجلين وألقوا بهما في السجن. أنتجت شركة مرتبطة بزعيم “فاغنر”، بريغوجين، فيلماً عن محنة الروسيين المحتجزين في ليبيا، ووصفت آسريهم بأنهم قتلة متوحشون. وتمسكت المجموعة بمطلب الإفراج عن الرجلين حتى تحقق لها ذلك في ديسمبر/كانون الأول 2020.

أغلقت شركة فيسبوك، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، أكثر من 300 حساب مزيف على موقعي فيسبوك وإنستغرام، بدعوى أنها حسابات مرتبطة بشبكة بريغوجين، وقالت الشركة إن الحسابات استهدفت بنشاطها عشرات البلدان الإفريقية.

الشعب السوداني

لم يتوقف نشاط “فاغنر” عند ذلك، فالمجموعة عملت على ترويج نفسها بوسائل الثقافة الشعبية أيضاً، وهكذا عمدت شركات بريغوجين في جمهورية إفريقيا الوسطى إلى رعاية مسابقة جمال، وموَّلت محطة إذاعية، وأصدرت العام الماضي فيلماً بعنوان “Touriste” يمجِّد ما وصف بإنجازات “فاغنر” في البلاد.

ثم بثَّت الشركة في ديسمبر/كانون الأول، فيلماً آخر بتمويلها على التلفزيون الروسي، وقد كان الفيلم هذه المرة عن مغامرات “فاغنر” وفتكها بالأعداء في موزمبيق. وقال مسؤول أمني غربي في إفريقيا، نقلاً عن تقارير استخباراتية أوروبية، إن “فاغنر” أبقت على وجود سري لها في موزمبيق، مع إعلان انسحابها في عام 2020، وأنها تركت وراءها مجموعة صغيرة متخصصة في الحروب الإلكترونية تستخدمها حكومة موزمبيق.

مكاسب يحصدها بوتين في إفريقيا
أكَّد بوتين خلال اجتماعه بقادة الدول الإفريقية في سوتشي عام 2019، أن لبلاده طموحات كبرى في إفريقيا، ووصف القارة بأنها قارة “الفرص والإمكانيات” التي يسعى الكرملين إلى اغتنامها والتعاون مع دولها.

يرى محللون غربيون أن مساعي بوتين في إفريقيا تأتي ضمن تدابير واسعة النطاق يرمي بها بوتين إلى إعادة روسيا قوة عظمى في إفريقيا، وهو ما يجعله منافساً للصين وتركيا والإمارات ودول أخرى، كلها تتسابق لتحل محل الغرب، خاصةً فرنسا، في إفريقيا بعد اضمحلال نفوذه.

أصبحت روسيا أكبر مورد للأسلحة في إفريقيا. وعمل بوتين على استغلال الروابط التاريخية والسياسية العميقة لبلاده في إفريقيا، وهو ما دفع كثيراً من الدول الإفريقية إلى التردد أو الإحجام عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، استدعاءً لذكريات التعاون في الحرب الباردة، أو سخطاً على ما يرونه تجاهلاً غربياً لإفريقيا.

وفي غرب إفريقيا، استغلت روسيا موجة متنامية من العداء لفرنسا في مالي، ليصل عملاء “فاغنر” إلى البلاد مع مغادرة الجنود والدبلوماسيين الفرنسيين هذا العام. واحتفى المتظاهرون بالانقلاب العسكري في بوركينا فاسو، وهم يلوحون بأعلام روسيا. كما وقع مسؤولو الكاميرون اتفاقية دفاعية مع روسيا في أبريل/نيسان، يرى خبراء أنها مقدمة لنشر قوات “فاغنر” هناك.

من المقرر أن تُعقد قمة روسية إفريقية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني هذا العام. والمكان المقترح هذه المرة هو مدينة سانت بطرسبرغ، مسقط رأس بوتين، وهي أيضاً قاعدة عمليات يفغيني بريغوجين، زعيم “فاغنر”.

المصدر: عربي بوست