لماذا تركتم حصان القدس وحيداً؟
لتقويم "مسيرة الأعلام" من جهة قوى المقاومة، لا بد من أن نقف عند نقطتين غاية في الأهمية.
أليف صباغ*
نشر موقع “معاريف”، الاثنين، تقييمات الجهات الأمنية الإسرائيلية، فعبّرت عن رضاها الكامل عن مجريات أحداث مسيرة الأعلام، لكنّ الأهم هو استنتاجات هذه الجهات التي سيبنى عليها مستقبلاً؟
أول الاستنتاجات، أن القوة العسكرية الكبرى، التي اقتربت من 5000 عنصر أمني من شرطة وحرس حدود واستخبارات… كانت قوةً رادعة وقادرة على أن تضبط الحدث وفق التخطيط المسبّق، وهذا يعني أن القوة هي أساس النجاح. وإذا كانت القوة العسكرية هي الأساس فلا بد من تذكيرهم بقول الشاعر الراحل توفيق زياد بعيد حزيران/يونيو عام 1967:
إنّ من يسلب حقّاً بالقتال
كيف يحمي حقّه يوماً –إذا الميزان مال؟!
ثانياً، إن قرار المستوى الأمني/ الاستخباري عدم التردّد أو التراجع عن إجراء المسيرة أو تغيير مسارها، أمام تهديدات المقاومة، كما حدث في أيار/مايو الماضي، أثبت صحته تماماً.
ثالثاً، لم ينسَ هؤلاء أن يشكروا للجانب المصري الذي سهّل مهمتهم، فقالوا: “إلى جانب التهديدات، وفي الكواليس، عمل وسطاء مصريون طوال الوقت في محاولة مستمرّة منهم لتهدئة المقاومة”. فأيّ هدية تقدّمها الاستخبارات المصرية إلى “إسرائيل” لكي تُحكم قبضتها على القدس والمقدسات؟! وهي ليست المرة الأولى. وهل الاستخبارات المصرية هي أول جهة عربية تعاونت مع الصهيونية على الشعب الفلسطيني؟
تأكيداً لذلك، كتب المحلّل العسكري، عاموس هرئيل، في موقع صحيفة “هآرتس”، في الثلاثين من أيار/مايو 2022 ” أن شعبة الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي لم تغيّر في الأسابيع الأخيرة تقديراتها، التي تقول إن حماس غير معنية بتصادم عسكري مباشر في غزة في الجولة الحالية”.
وعلّل هرئيل ذلك بأن “توقيت المواجهة العسكرية الجديدة، في الوقت الذي تتقدم أعمال إعادة الإعمار في القطاع نسبياً، ليس مريحاً بالنسبة إلى حماس”، لكنه استدرك يقول “إن جهود الوسطاء، وعناصر الاستخبارات المصرية، أثمرت في الأيام الأخيرة، وإن حماس تتوقّع الحصول على تعويض إذا استمرّت في إظهار ضبط النفس”. وأضاف “أن التظاهرة العنيفة والخطرة نهَشت في الستاتيكو، لكنها لم تؤدِّ إلى تصادم”. وهنا يكمن الخطر المستقبلي.
هذه الأخبار عن الضغوط التي مارستها الاستخبارات المصرية، إضافة إلى ما قام به المبعوث القطري، السيد العمادي، ليست كشفاً جديداً، إذ تناولها ونشرها مراسلون فلسطينيون غزّيون من قبل، وإن كان النشر على استحياء.
بعد انتهاء مسيرة الأعلام “المنتصرة”، وفق التقييمات الإسرائيلية، هاجم المستوطنون أهالي الشيخ جرّاح في القدس، ونقلوا في صباح اليوم التالي بيوتاً جاهزة إلى نقطة استيطانية أخرى على أراضي قرية جالود، جنوب نابلس، وانطلقوا صباحاً نحو الحرم الإبراهيمي في مسيرة أعلام استفزازية مشابهة.
في أروقة الكنيست، يتدحرج، وبسرعة، مشروع قانون قدّمته المعارضة وأعطى رئيس الحكومة أعضاء الكنيست من الائتلاف حرية التصويت عليه (!؟)، وهذا القانون يمنع فلسطينيي 48 من رفع العلم الفلسطيني في الجامعات والمؤسسات العامة الإسرائيلية.
كذلك أقدمت حكومة الاحتلال على إخطار أصحاب منزلين في مسافر يطا جنوب الخليل بهدمهما. هذه نماذج فقط من ممارسات المستوطنين التي بُنِيت على “انتصارهم” في إمرار مسيرة الأعلام من دون ردّ من المقاومة، وفي ظل صمت عربي وإسلامي مريب، والقائمة تطول..
هنا، لا بد أن نذكّر بأنّ أهم أهداف هذه المسيرة هو قضم ما تبقى من الستاتيكو، فهل بقي للعاجزين مكان في هذا الفضاء؟
كيف عملت حكومة الاحتلال قبل أشهر؟
ما الذي دفع حكومة الاحتلال إلى التمسّك بمخطّطها وإمرار مسيرة الأعلام الاستفزازية الأضخم في تاريخ المسيرات الصهيونية التي تدخل القدس القديمة؟
حقيقة الأمر أن النتائج لم تكن عرضية ولا نتيجة استعدادات اللحظة الأخيرة، إنما كان هناك مخطّط إسرائيلي استمرّ تنفيذه 3 أشهر، قبل 29 أيار/مايو، وذلك تجسيداً لاستنتاجات المستويين: السياسي والأمني في ضوء نتائج معركة “سيف القدس” في أيار/مايو الماضي. شملت هذه الخطة حملة أمنية وعسكرية وسياسية ودبلوماسية بهدف إنجاح هذه المسيرة “العنيفة” و”الاستفزازية” و”الخطرة”، وفق توصيف بعض الإسرائيليين أيضاً.
1) تخطيط مسبّق لحملة عسكرية وأمنية سمّيت “كاسر الأمواج” بدأت قوات الاحتلال بتطبيقها من دون إعلانها رسمياً إلا في مطلعِ أيار/مايو، قامت خلالها قوات الاحتلال بحملة أمنية واسعة وكبيرة، واعتقلت أكبر عدد ممكن من الناشطين الفلسطينيين. وقد بلغ عدد المعتقلين في شهر نيسان/أبريل وحده 1228 معتقلاً من القدس والضفة الغربية، في حين قاربت المعدّلات الشهرية السابقة 500 معتقل. من بين المعتقلين في شهر نيسان/أبريل 165 طفلاً و154 معتقلاً إدارياً. ومن معتقلي شهر نيسان/أبريل، ومن القدس وحدها، 793 معتقلاً، أي إن عدد معتقلي القدس بلغ ثلثي العدد الكلي، في حين أن سكان القدس يقارب 15% من سكان الضفة الغربية المحتلة.
2) شنت قوات الاحتلال كذلك حملة عسكرية في جنين ومخيم جنين ونابلس وقراها والخليل، استشهد فيها 23 شاباً وفتى فلسطينياً، في حين بلغ عدد الشهداء في الأشهر الثلاثة السابقة 34 شهيداً وشهيدة، وجرح المئات.
3) شملت الحملة اعتداءات متكرّرة ومنهجية على الصحافيين الفلسطينيين، أبرزها اغتيال الصحافية الشهيدة شرين أبو عاقلة برصاص قناص من جنود الاحتلال.
4) تضمنت الحملة مثابرة عنيفة على حماية باحات الأقصى من اقتحامات غلاة المستوطنين من دون ردّ عربي أو إسلامي ملائم، وخصوصاً من جهةِ الأردن ومصر، والسعودية والدول المطبّعة حديثاً.
فوجئ الإسرائيليون خلال تقييمهم معركة “سيف القدس” 2021 أن نتائجها لم تشكل أي خطر على اتفاقيات التطبيع، بل تعزّزت هذه الاتفاقيات بصفقات استراتيجية أخرى مع “إسرائيل” من دون أي اعتبار لأطماعها في القدس والأقصى. هذا الاستنتاج عزّز قناعة الدوائر الصهيونية بأن الظرف العربي-الإسلامي لن يثبّط “إسرائيل” عن تحقيق أطماعها في القدس، ولن يتأثّر بمسيرة أعلام، مهما كانت استفزازية.
5) ليس هذا وحسب، إذ بادرت “إسرائيل” إلى حملة دبلوماسية دولية وعربية، وأهمها زيارات متكرّرة للأردن، ومصر، وسلطة رام الله، بادّعاء أن حماس تخطّط لتفجير الأوضاع، وكان تسليط الأضواء على حماس مقصوداً، للتثبيت أنّ الاقتحامات مستمرة، وأن أي ردّ ستعتبره “إسرائيل” إرهاباً ودعماً لحماس.
هذه الضغوط لم تمارسها “إسرائيل” مباشرة فحسب، بل طالبت الدول الأوروبية وأميركا أيضاً بأن تؤدي هذا الدور، وهو ما حدث، حتى إنّ مثل هذه الرسائل حملها الأوروبيون والأميركيون إلى لبنان وقطاع غزة ورام الله وعمان أيضاً.
ضمن حملة التضليل هذه، سمحت شرطة الاحتلال برفع أعلام حماس في الأقصى وتغييب العلم الفلسطيني، بهدف تخويف سلطة رام الله والأردن ومصر مما يجري في الأقصى وتجنيدهم مع الاحتلال ضد حماس.
على صعيد فلسطينيي 48
شكّل انضمام فلسطينيي المناطق المحتلة منذ عام 48 إلى أبناء شعبهم في أيار/مايو الماضي ضوءاً أحمر يخيف أجهزة الأمن الإسرائيلية. وكان لا بد من تحييد هذه الفئة من خلال النواب العرب في الكنيست ومن انضم منهم إلى حكومة نفتالي بينيت، سواء أكانت القائمة العربية الموحّدة/ الحركة الإسلامية الجنوبية برئاسة منصور عباس أم النواب العرب في الأحزاب الصهيونية.
من هنا جاءت الوعود بصرف ميزانيات للسلطات المحلية العربية عشية مسيرة الأعلام، في مقابل الصمت عن مسيرة الأعلام والبقاء في الحكومة لمنع انهيارها. هذا، على الرّغم من أنّ هذه الميزانيات مقرّة في الميزانية، إلا أن صرفها يتطلّب المرور في اللجنة المالية للكنيست للتصديق عليها. كما يحتاج إلى تصديق مستقبلي أيضاً.
عربياً
ضمنت “إسرائيل” تعاون الاستخبارات المصرية معها في مواجهة تهديدات المقاومة في قطاع غزة. ولم يتأخّر المبعوث القطري عن حمل رسائل إغراء مادية إلى قطاع غزة في حال التزمت الهدوء من دون الرد على المسيرة الاستفزازية. كذلك ضمنت “إسرائيل” صمت الملك عبد الله الثاني، “الوصي على المقدّسات الإسلامية في القدس”، بواسطة ضغط أميركي كبير.
عشية المسيرة، أيضاً، أفصحت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تطبيع إسرائيلي سعوديّ غير رسمي، لكنّه علني، وكان عنوان صحيفة “غلوبس” الاقتصادية يوم الجمعة 27 أيار/مايو، وبالخطّ العريض، “فتح السعودية”، وبشّرت الصحيفة بزيارة مئات رجال الأعمال الإسرائيليين قريباً للسعودية، وبصفقات بعشرات ملايين الدولارات. هل سأل أحد في السعودية عن الأقصى في ذلك اليوم؟ هل كان الإعلان مصادفة بحتة؟ أم كان التوقيت المناسب الذي يصبّ في أهداف الحملة الإعلامية لضرب معنويات الشعب الفلسطيني المقاوم؟
إجراءات اليوم الأخير
في اليوم الأخير والحاسم، بدا واضحاً، لكل من يرى ويعي، أن هناك طرفاً منظّماً مجهزاً بكل الوسائل العسكرية واللوجستية، تقوده مؤسّسات أمنية وإعلامية وعسكرية، وكان محكم التنظيم والتوقيت، إذ استطاع افتعال التصادمات في الوقت والمستوى الموافقين له، قبل انطلاق المسيرة، فاعتقل وضرب وقمع الناشطين في شارع صلاح الدين قبل انطلاق المسيرة بساعتين، وحبس المدافعين عن الأقصى داخل أسوار الحرم، وبذلك أفرغ أزقّة المدينة القديمة بهدف مرور المسيرة.
ومن الملاحظ أيضاً أن قوات الاحتلال امتنعت عن قتل الناشطين الفلسطينيين في ذلك اليوم عمداً كي لا تسمح باشتعال الهبة الجماهيرية. في المقابل، هناك طرف جماهيري أعزل لا تنظيم له ولا قيادة ولا غطاء سياسي، إلا من وسائل إعلام تنقل معاناته إلى عالم أصمّ أبكم؛ عالم قرّر أنه لا يريد أن يرى راحة لضميره.
هذا الشعب الأصيل والصابر والمضحّي، لم يفقد الأمل يوماً، ولن يتردّد في الدفاع عن قدسه ومقدساته، مهما بلغت التضحيات، وينطبق عليه قول الشاعر الراحل سميح صباغ:
يُمكنكم أن تخنُقوا الأفراح في بيوتنا!
يُمكنكم أن تقتلوا شبابنا!
نساءَنا! أطفالَنا!
وتنسفوا ديارَنا!
لكنكم… لن تستطيعوا، للأبد
أن تملكوا بلادنا
لأنكم لن تقدروا للحظةٍ
واحدةٍ
أن تملكوا قلوبَنا
التقييمات المطلوبة
أما تقييم الحدث من جهة قوى المقاومة، فلا بد من أن نقف عند نقطتين هما غاية في الأهمية:
الأولى، أن رفع سقف التوقعات بذريعة ضرورة رفع معنويات الشعب، هو خطأ لا بد من معالجته عند كلّ معركة مستقبلية. المعارك لم تنتهِ ولن تنتهي قريباً. كان حرياً بوسائل الإعلام المقاومة أن تركّز اهتمامها على فضح الضغوط العربية، التي تمارس على المقاومة الفلسطينية، بدلاً من نشر بيانات وتهديدات لا رصيد لها.
الثانية، لا بد من أن نعلم أن أيّ إنجاز حققته الحركة الصهيونية على مدى أكثر من 100 عام، لم يكن بقدراتها الذاتية، إنما بدعم كبير من طرفين أساسيين: الأول، هو النظام الاستعماري الغربي، الحاضنة الكبرى للمشروع الصهيوني، والآخر هو الأنظمة العربية الرجعية منذ مراسلات الشريف حسين عام 1915، مروراً بضمانات الملك عبد العزيز لوقف الثورة الفلسطينية، وخيانة الأمير عبد الله عام 1948 وكامب ديفيد وأوسلو، والقائمة طويلة جداً، حتى “الضمانات” التي تقدّمها الاستخبارات المصرية على مدى عشرات السنوات، لكنّها لم تصرف يوماً إلا لحساب المحتل الإسرائيلي. فهل نتعلّم ونتعظ؟
* المصدر :الميادين نت
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع