مسيرة الأعلام وتهويد القدس
ساعات، ويتجلى مشهد التجاذبات وما سيتمخض عنه، فهل ستنجح مسيرة الأعلام في إحداث نقلة نوعية في تهويد القدس؟
محمد جرادات*
تتجاوز مسيرة الأعلام العبرية مبدأ تهويد القدس إلى ما هو تهويد ممعن بالتطرف اليميني، وإن كان لا فرق في الحقيقة، بين يمينيّ ويساريّ وما بينهما في “دولة” الكيان المؤقت في تل أبيب، وهو ما تأكّد بشكل قطعيّ، في مسيرة الأعلام الراهنة، وقد أجمع الطيف السياسي والأمني والعسكري على تنفيذها، بالمسارات المحددة لها في عمق الوجود الإسلامي المقدس فيها، مع تأمين الشرعية القانونية والحماية الأمنية والمظلة الدولية، ليس للمسيرة وحدها، إنما لاقتحام أبرز الغلاة فيها؛ النائب اليميني بن غفير، للمسجد الأقصى وقت انطلاق المسيرة.
وهذا التهويد اليمينيّ للقدس عبر مسيرة الأعلام، وقد انكشف الكيان العبري برمته في وقوفه خلفه، رغم المخاطر الأمنية الشديدة، وهي مخاطر سبق أن دفعت الكيان إلى إلغائها على مدار 7 سنوات، من عام 2010 حتى عام 2016، إنما يضع العالم بأجمعه أمام احتماليّة اشتعال الصراع بأقصى درجاته، وليست معركة “سيف القدس” قبل عام من ذلك ببعيدة، وقد تسببت أيامها الأولى نصرة لحيّ الشيخ جرّاح في القدس، في منع تنفيذها، في وقت كانت صواريخ المقاومة تدك المجمعات الاستيطانية في القدس و”تل أبيب”، فهل تتسبب مسيرة الأعلام الراهنة، بهذا التخريج العنصري التهويديّ اليمينيّ الصريح، في اندلاع معركة على شاكلة سابقتها؟
ساعات قادمة، ويتجلى مشهد التجاذبات وما سيتمخض عنه، فهل ستنجح مسيرة الأعلام عام 2022، في إحداث نقلة نوعية في تهويد القدس؟ وهذا العام هو الذي ارتفع فيه منسوب الشعور العام بقرب زوال “دولة” الكيان المؤقت، بعيداً عن حسابات الشيخ بسام جرار الرقمية وغير المنهجية، لما هو حسابات قيادة المقاومة في فلسطين ولبنان ومحور القدس برمته، وحسابات السنن الكونية وقوانين الاجتماع والتاريخ، وربما هي عقدة الثمانين التي تحدث عنها باراك وغيره من الصهاينة.
وكان مسلسل تهويد القدس عبر مسيرة الأعلام، وغيرها من الوسائل الخبيثة والوحشية، قد بدأ منذ اللحظة الأولى لسقوطها عام 1967، باعتبارها صارت موحدة مع القدس الغربية التي سبق احتلالها منذ عام 1948، وقد أجمع الإسرائيليون على تخليد هذا التوحيد بشكل سنويّ، بما يوافق التاسع والعشرين من أيار/مايو لهذا العام العبري، واختيار العَلَم يتصل بمكانته الرمزية السيادية، وهو علم دينيّ بامتياز، فكانت أول مسيرة أعلام سنة 1968، وقد أطلق أوار فكرتها؛ الحاخام اليهودي “تسفي كوك” وتلامذة المدرسة الدينيّة “مركاز هراب”، والتي تكونت فيها النواة الصلبة للمنظمات الاستيطانية، بمشاركة عشرات المستوطنين، ثم تطورت لمئات، حتى وصلت إلى نحو 30 ألفاً، يشرف عليها، جمعيّة “عام كلبيا” برئاسة الحاخام “دروكمان”، وحزب “الصهيونية الدينية” بقيادة “سموتريتش”.
ويتجلى الدور التهويدي لهذه المسيرة، في جملة أمور، أبرزها في مسارها التقليدي من شارع يافا غربي القدس، مروراً بباب الحديد إلى باب العمود إلى داخل البلدة القديمة، وقرب أبواب المسجد الأقصى الغربية، وصولاً إلى حائط البراق، فيما ينطلق القسم الآخر من باب العمود، وباب الساهرة، ثم باب الأسباط، وصولاً إلى باب المغاربة وحائط البراق، ويتخلل المسيرة التي تنطلق عادةً عصراً، رفع المستوطنين لأعلام الاحتلال، وأداء أغانٍ ورقصات تلمودية في شوارع القدس والبلدة القديمة، وترديد هتافات عنصرية تُحرض على “قتل العرب”، فيما تتولى بلدية الاحتلال في القدس تمويل المسيرة.
وقد أخذ هذا البعد التهويدي لمسيرة الأعلام طابعاً آخر، بعد معركة “سيف القدس”، حتى بات هدفها الأساسي فرض السيادة والسيطرة الاحتلالية على المدينة أكثر من كونها مجرد استعراض أو احتفال، وهي تهدف إلى فرض وقائع تهويدية لغايات دينية أيديولوجية سياسية، كما أنها تشكل نوعاً من التحدي من قبل شرطة الاحتلال، واستفزازاً لمشاعر المسلمين والفلسطينيين، عبر مرور المسيرة من البلدة القديمة وحول أبواب الأقصى، وخاصة في الإصرار على المرور من باب العمود، نظراً إلى أهميته ورمزيته بالنسبة للمقدسيين، وقد بات يحدد جزءاً من هويتهم المقدسية، في محاولة لتفريغ الإنجازات والانتصارات التي حققها أهل القدس في تلك المنطقة الاستراتيجية، باتجاه تهويد الحيز العام للمدينة المقدسة، وحسم هويتها وبلدتها القديمة، لجعلها مدينة يهودية بالكامل.
وتبرز خصوصية البعد التهويدي في مسيرة هذا العام، بالسماح للمتطرف بن غفير باقتحام الأقصى في وقت انطلاق المسيرة، وهو ما قد يدفع الغلوّ اليهودي للمستوطنين، في تلك اللحظة التاريخية الحماسية إذ تقف كل الدولة خلفهم، ربما لأول مرّة، للاندفاع نحو المسجد الأقصى، ونحن نتحدث اليوم عن 16 ألف مستوطن إلى 30 ألفاً، بما يضع احتمال خروج الأمور عن السيطرة باتجاه الدعوات التي صدرت عن زعيم منظمة “لاهافا” المتطرفة بنتسي غوبشتاين الذي دعا لاعتبار ذكرى “توحيد القدس” يوماً للبدء بهدم قبة الصخرة المشرفة، وأُرفقت دعوته هذه بتصميم يضم جرافة تنهش قبة المصلى الذهبية، وهي الدعوة التي لم تمنع مصادقة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عومير بارليف، على يساريته، على مرور “مسيرة الأعلام” من باب العمود والحي الإسلامي في البلدة القديمة وصولاً إلى حائط البراق، بما يرجح واحداً من السيناريوهات الأكثر قتامة، والتي تتمثل في اندفاع المستوطنين بشكل جماعي عند أحد أبواب الأقصى، واقتحامه بعد فقدان الشرطة السيطرة عليهم، بما قد يؤدي إلى نشوب حرب دينية دامية.
هل تغرب شمس العالم الإسلامي يوم الأحد، على مشهد اجتياح يهودي يميني هادر للمسجد الأقصى، بعد مرور تدنيسات “بركة الكهنة” في رمضان، بضغوطات منظومة التطبيع من القاهرة حتى أنقرة، على القيادة الفلسطينية في رام الله وغزة، بما يؤدي إلى اكتمال الفصل الحاسم في تهويد مقدسات المسلمين؟ أم أن الشعب الفلسطيني بكل أطيافه، وعلى رأسها المقاومة من غزة حتى جنين، ومن خلفها كل القوى الحية في أمتنا، ستمنع وقوع ذلك؟
* المصدر : الميادين نت