هل صدر القرار بإنهاء الحريرية السياسية إلى الأبد؟
لا يحسد سعد الحريري ولا محبّوه وجمهوره على الموقف الذي يجدون أنفسهم فيه على أبواب الانتخابات النيابية.
ليلى نقولا*
لم يكن التصويب الذي قامت به صحيفة عكاظ السعودية على سعد الحريري على مدى أيام متتالية، ونعته بـ”الجيفة السياسية”، سوى انعكاس لمسيرة طويلة من التصويب على الرجل وحشره، منذ اعتقاله في السعودية في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2017، لغاية اليوم.
يتّهم أنصار تيار المستقبل سمير جعجع بالتحريض على سعد الحريري في السعودية، ما أدّى إلى اعتقاله في ذلك الحين، ويقولون إن الإجماع اللبناني على المطالبة بعدم قبول استقالة الحريري من الرياض، والذي اعتمده الرئيس عون، لم يخرقه سوى موقف القوات اللبنانية التي اعتبرت الاستقالة منتهية ونافذة، وأن رفضها من قبل الرئيس عون هو تخطٍّ للدستور اللبناني وانتهاك له.
لا يحسد سعد الحريري ولا محبّوه وجمهوره على الموقف الذي يجدون أنفسهم فيه على أبواب الانتخابات النيابية، فلا يُكتفى باتهام للحريري بـ “العمالة لإيران وحزب الله”، وبأن “المقاطعة” تخدم الحزب والتيار، بل هناك ضغوط من هنا وهناك لإعطاء التوجيهات للتصويت للوائح سمير جعجع، لإكسابه زعامة سنيّة تحلّ محلّ زعامة الحريري.
لا شكّ في أن الحياة عبارة عن مجموعة من الخيارات التي نتخذها في مواجهة الظروف التي نجد أنفسنا فيها. وعليه، فإن ما يعانيه الحريري اليوم هو نتيجة لخيارات “انقلابية” في السياسة قام بها، أدّت إلى ما أدّت إليه، وهي على الشكل التالي:
1- التحالف الرباعي عام 2005 والانقلاب عليه عام 2008
مباشرة بعد اغتيال والده، تسلّم الحريري الشاب غير المخضرم سياسياً مسؤولية تيار شعبي على مساحة لبنان، فانخرط كما جماعات 14 آذار الأخرى في التحالف الرباعي (تحوّل إلى سداسي) في انتخابات لبنان النيابية لعام 2005، مستثمرين في دماء الحريري الأب، ومتّهمين كلّ من يصوّت ضدّ هذه اللوائح بأنه يصوّت لقتلة الحريري، فحصد هذا التحالف (14 آذار والثنائي حزب الله وحركة أمل) الأغلبيّة النيابية في تلك الانتخابات.
وبعد الانتخابات، انقلب الحلفاء على حليفهم الانتخابي – حزب الله، وساندوا الحرب الأميركية – الإسرائيلية لنزع سلاح الحزب عام 2006، وكان السنيورة والعديد من القوى البارزة في تيار المستقبل، مع قوى 14 آذار الأخرى، على تنسيق مع وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس التي اعتبرت حرب تموز “مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد”.
وبعد فشل الحرب في تحقيق أهدافها، وفشل القدرة على تسويق “نقاط السنيورة السبع” للتسوية التي كانت تريد أن تأخذ من لبنان ما لم يستطع أن يأخذه الإسرائيلي بالحرب، انتقل الأميركيون إلى الخطة (ب) لنزع سلاح حزب الله، وهي تأليب القوى الداخلية على حزب الله لإطاحته، فكانت قرارات الـ 5 من أيار/ مايو التي تلتها أحداث الـ 7 من أيار 2008.
2- الانخراط في الحرب السورية
لطيّ صفحة الخلافات والصفحة السوداء التي تلت اغتيال الحريري الأب، قام سعد الحريري بزيارتين لسوريا (2009 و2010)، والتقى الرئيس السوري بشار الأسد، مبشّراً بفجر جديد للعلاقات بين البلدين.
لم تكد الحرب تبدأ على سوريا، حتى انخرط تيار المستقبل فيها دعماً للمجموعات المسلحة، تدريباً وتسليحاً وتسهيلاً لوصول العتاد، وتأميناً لمأوى، وغطاءً لتلك المجموعات، سواء في طرابلس أم عرسال أم سائر المناطق اللبنانية التي لتيار المستقبل نفوذ واسع فيها.
لاحقاً، انقلبت موازين القوى في سوريا لصالح الدولة السورية، وتمّ إنهاء بؤر الإرهاب في لبنان، لكن بقيت سياسات قوى 14 آذار وتيار المستقبل معاندة لأي انفتاح لبناني على دمشق وتنسيق معها، ما فوّت على اللبنانيين القدرة على إعادة النازحين وحلّ الكثير من القضايا العالقة، التي تفيد لبنان مالياً واقتصادياً.
3- الانخراط في التسوية عام 2016 والانقلاب عليها عام 2019
كانت التسوية التي أبرمها جبران باسيل مع سعد الحريري، والتي قضت بوصول رئيس الجمهورية ميشال عون إلى سدة الرئاسة مقابل وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة، المنقذ والخلاص للحريري بعد سلسلة من الإخفاقات السياسية والمادية والإفلاس المالي. واقعياً، كبّلت التسوية والآليات التوافقية وموازين القوى داخل الحكومة رئيس الجمهورية وتياره، وحدّت من قدرتهم على تطبيق أي برنامج إصلاحي كانوا يعِدون الناس به.
في السنة التي تلت الانتخابات الرئاسية في لبنان، انسحب التغيير الذي حصل في الولايات المتحدة على منطقة الشرق الأوسط، وكسب وليّ العهد السعودي غطاءً من الرئيس دونالد ترامب للقيام بحملة تطهير شاملة في المملكة، كان من ضحاياها سعد الحريري نفسه، الذي استطاع بفعل الدعم اللبناني والضغط الدولي الخروج من السعودية والعودة إلى لبنان.
وفي لحظة مفصلية في تاريخ المنطقة، حيث اعتمد الرئيس الأميركي دونالد ترامب سياسة هجومية كاسحة في الشرق الأوسط، هدّد بومبيو اللبنانيين، وخيّرهم بـين “مواجهة حزب الله أو الأزمات الاقتصادية”، فكانت ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 إحدى تبعاتها.
أدرك الجميع أن التيار الوطني الحر وحزب الله هما المستهدفان بشكل أساسي من تلك الثورة، فخرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ليدعم كلّاً من “العهد والحكومة”. صمد العهد ورئيسه أمام كل حملات الهجوم والتخوين والشيطنة، لكنّ سعد الحريري استقال من دون التشاور مع حلفائه، مُمنِّياً النفس بالعودة على حصان “الثورة” الأبيض، بعد أن يكون قد تخلّص من التسوية ومن حليفه جبران باسيل. لكن الخطة فشلت، وابتعدت فرص الحريري بالعودة إلى رئاسة الحكومة.
إذاً، هي سلسلة من الخيارات التي قام بها سعد الحريري أدّت إلى ما أدّت إليه، سواء على صعيد لبنان أم على صعيد تيار المسقبل. ولا شكّ في أن انخراط الحريري في “الانقلاب” الذي كان مُعَدّاً له في الـ 17 من تشرين الأول/أكتوبر 2019، ودخول لبنان في الانهيار الذي سبّبه تراكم 30 سنة من السياسات الحريرية الاقتصادية والمالية الريعية، وفساد مستَشرٍ حيث تمّ نهب خزينة الدولة ومال المودعين في المصارف على مدى عقود، عمّق أزمته السياسية التي تتجلّى اليوم في شيطنته من قبل السعودية وقوى 14 آذار والسنيورة نفسه، والتي قد تتوّج بضغوط على الحريري “تُجبِره” على الإسهام في تنصيب جعجع زعيماً للسنّة في لبنان، ما يعني انتهاء الحريرية السياسية إلى الأبد.
* المصدر :الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع