غسان سعود*

من يبلغ من العمر 44 عاماً اليوم، كان في عامه الرابع يومها. كان زيلينسكي لبنان يحرص على ارتداء “Flanelle” زيتية بنصف كمّ أيضاً، ويسرّح شعره بطريقة زيلينسكي نفسها، ويهدد ويتوعد في مؤتمراته الصحافية.

من يبلغ من العمر 44 عاماً اليوم، كان في عامه الرابع حين وقف مندهشاً أمام منزله يحترق، وأهله يقتلون، والجرافات تقتلع أشجار الزيتون، قبل أن يلتحق بموكب المنكسرين من كل قرى الجبل إلى بلدة بيت الدين المحاصرة، ومنها إلى البحر، يرمون أنفسهم فيه.

لم تكن الأسابيع الأخيرة مجرد أيام أخرى بالنسبة إلى كثيرين، وخصوصاً أولئك الذين كانوا يحتشدون خلف زيلينسكي لبنان. هم أيضاً اعتقدوا بأنهم لن يُتركوا وحدهم، وأنَّ الكرة الأرضية ستدور بعكس الاتجاه الطبيعيّ لتنجدهم، وتوهموا بأن الأساطيل ستبحر على عجل من محيط تمثال الحرية في خليج نيويورك لتنجدهم، وأنهم “أصدقاء أميركا” أو حلفاؤها، لا مجرد أدوات أو متراس (…)، وإذا بالقذائف تنهمر على منازلهم، والآليات العسكرية تجتاحهم، والرصاص ينحرهم، فيما لا مجلس أمن يكترث إليهم، ولا بوارج أو ناتو أو ولايات متحدة أو أم حنون أو “إسرائيل”.

لملم “الجيش الذي لا يهزم” هزائمه وهرول متقهقراً، فيما كُلف زيلينسكي لبنان بترتيب تهريب ما تبقى من أناس أحياء ليُقاتل بهم في مكان آخر. من يبلغ من العمر 44 عاماً اليوم، كان في عامه الرابع يومها، حين هام في براري الجوع مع رفاقه بحثاً عن البحر. كانوا خائبين. خسروا كلّ شيء في سبيل خارجٍ يواصل حياته من دون أن يرفّ لمدنه البعيدة جفن. يواصل هو (الخارج) حياته هناك باستقرارها الروتينيّ، فيما ينوؤون هنا وحدهم تحت نير خياراتهم الغبية، وإذا حصل أن ارتفع سعر المحروقات لديهم أو فُقد أحد أصناف القمح من السوق، فإنَّ مواطنيهم سيحردون ويزعلون فيما نحن نموت هنا.

ولن يجد حين تنظر عيناه مرفأ جونية غير الخيم بديلاً من منزله الجميل الذي هدم في الشوف وعاليه وشرق صيدا وبعبدا، وبضع كراتين إعاشة تعوضه الرزق والزيتون وزيته، والمزيد من الألبسة العسكرية لمزيد من معارك القوات اللبنانية الخاسرة.

كان ذلك قبل 4 عقود. ولذلك، ثمة جيل كامل لا يعلم عنه الكثير، لكنَّ زيلينسكي ذكّرها بسمير جعجع، تقول زوجته النائب ستريدا جعجع. زيلينسكي أيقظ تلك الذاكرة السوداء فينا يا ستريدا. ذكرنا جميعنا بزوجك؛ بخياراته الحمقاء، بصور الدمار في كييف، بقرانا المحروقة، بالتخلّي الأوروبي، بالحفرة التي حفراها لشعبيهما من أجل إرضاء أميركا وأضواء أميركا وهبل أميركا، بالمهجّرين الذين ما زالوا يدفعون بعد 4 عقود (كانت حافلة بالمصالحات المصورة) فاتورة حروبهم، بالمُهجرين والمهرِجين يا ستريدا، بوقوف أوروبا متفرجة، بالقتلى في سبيل نزوة، ببيانات رفع العتب، بعدم المبالاة بكل نداءات الاستغاثة لفرض حظر جويّ أقله، بتدمير البنية التحتية الأوكرانية عن بكرة أبيها.

أيقظ فينا زيلينسكي ذاكرة الموت يا ستريدا! استقرَّ من تهجروا من الجبل بسبب القوات اللبنانية وخياراتها في فرن الشباك وعين الرمانة والحدت، وإذا بجعجع يعود بعد أكثر من 4 عقود، ليهددهم بتهجير جديد من بوابة الطيونة هذه المرة.

من يبلغ من العمر 44 عاماً اليوم، كان في عامه الرابع يومها يا ستريدا. كان عمره يومها من عمر أبنائه اليوم. وها هو سمير جعجع نفسه يهدده في كل لحظة بتهجير جديد. كان يفترض أن يستفيد زيلينسكي لبنان من علاقته الانتخابية الوطيدة بمن هجّرهم، وبالدول المالية العظمى، ليضمن لهم عودتهم، لعلّ وعسى يُمحى أحد ذنوبه، وإذا به يهددهم يومياً بتهجير آخر.

يا لها من “سريالية” سياسية: يقول له الأميركيّ انتحر، فيدعو الإعلام إلى مؤتمر صحافي، ويركز الكاميرات، ويقف متفاخراً بغبائه، ويضع المسدس في رأسه، ويطلق رصاصة لينتحر. يقول له الأميركي: اقتل شعبك بأخذه إلى حرب خاسرة أخرى، فيأخذ شعبه إلى حرب خاسرة أخرى. يقول له الأميركي: اقبع في السجن، فيقبع فيه من دون حس.

سمير زيلنينسكي يا ستريدا! ذكّركِ وذكّرنا: الأوامر نفسها. قلة الأخلاق الأميركية نفسها. اللامبالاة الأوروبية نفسها. المغامرات نفسها. الموت نفسه.

كان المشهد في مطار كابول في أفغانستان مؤلماً. ينكش في الذاكرة صور من هرعوا يتمسكون بجنازير الدبابات وهي تهرول مبتعدة عن ضربات المقاومة، لكنه لم يكن بقساوة المشهد الأوكراني ووضوحه. وكان مؤلماً أيضاً مشهد السوريين وهم يبتعدون عن قراهم ومدارسهم وبيوتهم وحقولهم ومصانعهم وأسواقهم ليعيشوا 10 سنوات في الخيمة، فيما تتاجر جمعيات الغرب بأوجاعهم، ويجني ناشطوها آلاف الدولارات، لكنه لم يكن بقساوة المشهد الأوكرانيّ ووضوحه.

يُدمّر الاقتصاد الأوكراني عن بكرة أبيه، وتُدمر البنية التحتية، ويُهجر الناس ويموتون، فتصمّم واشنطن على منح زيلينسكي وحكومته بضعة مليارات، تماماً كما تدمّر حياة السوريين، ثم يرسلون إليهم فتات الفتات من مخازنهم بعد انتهاء صلاحيتها، تماماً كما وقف ذلك الطفل قبل 4 عقود عند خليج جونية، يتأمل ما كانت تعده به القوات اللبنانية وما يراه أمامه.

ما فعلته أميركا وأوروبا في أوكرانيا سبق أن فعلاه في لبنان. البعض تعلَّم من الدروس الكثيرة. البعض اقتنع بأنَّ أميركا وأوروبا ستتركانه في منتصف الطريق، ولن تباليا بكل ما يمكن أن يصيبه أو يصيب شعبه وبلده، والبعض لم يقتنع. البعض اقتنع بأن أميركا بلا أخلاق وبلا حياء وبلا وفاء، ولا يعول أبداً عليها، والبعض لم يقتنع.

البعض ما زال يهرع لتنفيذ الأجندات المتهورة الخطرة كأنه لم يحتجز مع المحتجزين في دير القمر من دون أن يرف لحلفائه جفن، حتى هام مع الهائمين في البراري بحثاً عن البحر، كأنه لم يُرمَ في السجن 11 عاماً، كأنه لم يسمع بأن من جرب المجرب ألف مرة يكون عقله مخرباً.

ومع ذلك، إن ما يحصل مهم جداً على مستوى استخلاص العبر بالنسبة إلى الشعوب. إذا كانت ارتباطات القيادات السياسية الأمنية والمالية تحول دون التفاتها إلى مصالح الناس، فإنَّ هؤلاء الناس هم من يفترض بهم أن يحرصوا على أنفسهم من المغامرات العبثية.

زيلينسكي النموذج. زيلينسكي العبرة. زيلينسكي المثال الذي تريد الولايات المتحدة لأصدقائها في العالم أن يكونوا على صورته ومثاله: أغبياء يقبلون أن يُزجّ بهم في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فيدفعون هم الثمن، فيما زيلينسكي ومن خلفه يختبئون بعيداً آمنين ويراكمون الثروات.

لعلَّها من المرات النادرة: ستريدا على حق، زيلينسكي يُذكر بسمير جعجع. يمكن أن يوصلكم في أية لحظة إلى حيث أوصل زيلينسكي الأوكرانيين.

* المصدر :الميادين نت

* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع