السياسية:

تشير الأنباء إلى أن خسائر روسية ضخمة جدا ًفي هجومها على أوكرانيا؛ رغم أن هذه الأنباء لا يمكن التحقق منها بشكل دقيق حتى الآن، إلا أنها تشكل أضعاف ما خسرته جيوش أخرى؛ أو الجيش الروسي نفسه في حروب وعمليات عسكرية أخرى، وفي وقت أقصر بكثير. 

يحصل كل ذلك بينما تطورت الحرب الحديثة؛ لتقلل من عدد الخسائر، وتمكِّن الدول الكبرى من استخدام أسلحة تضرب العدو عن بعد؛ وتحمي القوات العسكرية من الاشتباك المباشر. 

وحتى في حالة الحاجة إلى تقدم القوات البرية؛ فإن هذا التقدم يأتي بعد أن تستخدم الجيوش أسلحتها الجوية، وترسانتها من الصواريخ والمدفعية في تمهيد الأرض للقوات البرية، لتستطيع دخول الأراضي المعادية بعد أن تكبد الأعداء خسائر فادحة، وتعرِّض دفاعاتهم لدمار كبير. 

نستعرض عدداً من الحروب؛ خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى الاتحاد السوفييتي، وروسيا نفسها، في دول مختلفة في العالم. 

* فيتنام.. وَحْل الجيش الأمريكي

خاضت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أضخم حروب تاريخها في فيتنام، بهدف هزيمة الشيوعيين، ومنع تمددهم في العالم بشكل عام؛ وفي فيتنام بشكل خاص. 

حيث قاتلت القوات الأمريكية إلى جانب قوات فيتنام الجنوبية، في مواجهة فيتنام الشمالية الشيوعية، بعد أن استطاع الفيتناميون هزيمة فرنسا وإخراجها، خصوصاً بعد معركة ديان بيان فو الحاسمة. 

بدأ التدخل الأمريكي في فيتنام عام 1956، بحسب الأرشيف الأمريكي، وانتهت عام 1975، بعد أن سقطت سايغون؛ عاصمة فيتنام الجنوبية بيد القوات الشيوعية الأفغانية. 

خسرت الولايات المتحدة في هذه الحرب الكثير من الجنود؛ وربما كانت أسوأ هزيمة مُنِيت بها في تاريخها، كما شكل الفيتناميون المعادون للجيش الأمريكي واحدة من أضخم قصص المقاومة التي شهدتها الولايات المتحدة في تاريخها. 

مع انتهاء الحرب؛ وصلت عدد الخسائر البشرية الأمريكية في أفغانستان إلى 58 ألف جندي، بحسب المصادر الحكومية الأمريكية، لكن هذه الخسائر كانت منخفضة في السنوات الأولى من التدخل الأمريكي في فيتنام، وبدأت بالارتفاع في عام 1960، الذي شهد مقتل قرابة ألفي جندي، ووصلت الخسائر إلى قمتها في عام 1968، التي شهدت مقتل قرابة 17 ألف جندي أمريكي. 

كما أن حرب فيتنام كانت من أكثر الحروب كلفة على الإطلاق، فقد كلفت قرابة 850 مليار دولار، إذا ما عدلت الكلفة بناء على معدلات التضخم حتى الآن، وهي رابع أكثر الحروب كلفة في التاريخ، تسبقها الحرب الأفغانية، الحرب العراقية، والحرب العالمية الثانية. 

بعد سنوات انتهاء الحرب الأمريكية في فيتنام؛ رأى مسؤولون أمريكيون ضرورة إغراق الاتحاد السوفييتي في حرب مشابهة؛ تستنزف الاتحاد السوفييتي وقدراته العسكرية والاقتصادية، وتم لهم ذلك؛ كما ساهمت الحرب في سقوط الاتحاد السوفييتي لاحقاً. 

رغم أن الحرب الأفغانية طالت عشرة سنوات، وأنها كلفت الاتحاد السوفييتي الكثير؛ على مستوى هيبة الجيش الأحمر السوفييتي، والخسائر البشرية والاقتصادية، وساهمت في سقوط الاتحاد السوفييتي بعد انتهائها بفترة بسيطة، إلا أن خسائر السوفييت في أفغانستان لا تقارن بالخسائر الأمريكية. 

قبل نهاية الحرب بقليل؛ لم يخسر السوفييت في أفغانستان إلا 13 ألف جندي، بالإضافة إلى 35 ألف جريح، و300 مفقود بسبب الحرب، بحسب صحيفة New York Times الأمريكية، كما أن السوفييت حينها اعترفوا بالحجم الكبير لخسائرهم، واضطروا للانسحاب أخيراً من أفغانستان. 

بحسب تقرير استخباري أمريكي؛ لم تكلف الحرب السوفييتية في أفغانستان حتى عام 1986 إلا 123 مليار دولار، إذا تم احتساب الأموال المنفقة بكلفتها اليوم، وهو بلا شك مبلغ صغير جداً مقارنة بكلفة الحرب الأمريكية في فيتنام مثلاً.

* أفغانستان تقهر دولة كبرى أخرى

في عام 2001، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية غزوها لأفغانستان، ضمن حملتها “ضد الإرهاب”، وبعد 20 عاماً، اضطرت الولايات المتحدة للانسحاب، وترك السيطرة على البلاد لحركة طالبان، التي دخلت أمريكا أصلاً لإزالة حكمها من أفغانستان، لتكون حرباً أمريكية فاشلة أخرى. 

كانت أفغانستان من أكثر الحروب كلفة في التاريخ مادياً، فهي تبلغ ثلاثة أضعاف كلفة الحرب الفيتنامية تقريباً؛ وبقيمة 2.3 ترليون دولار، توزعت على مختلف مجالات الجهود الأمريكية العسكرية وغيرها في أفغانستان، بينما أنفق على الجهد العسكري وحده 900 مليار دولار.

لكن وعلى النقيض؛ لم تخسر القوات الأمريكية عدداً كبيراً خلال سنين الحرب العشرين، فقد خسرت 2400 جندي فقط، والفضل يعود في ذلك إلى التكنولوجيا العسكرية الحديثة، والتي حدثت من الاعتماد على العنصر البشري في الحروب، ولم يعد مهماً كما في السابق أن يشتبك الجنود بشكل مباشر. 

*الغزو الأمريكي للعراق

وهي ثاني أكبر حرب من حيث الكلفة في التاريخ، حيث كلف الجهد العسكري وحده أكثر من تريليون دولار بقليل؛ بينما تكلفت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من تريليوني دولار على مجمل جهودها في العراق. 

لكنها كلفت الجيش الأمريكي عدداً أكبر من الجنود؛ مقارنة بالحرب الأفغانية، حيث قُتل أكثر من 4 آلاف جندي، بين عامي 2003-2011. 

من الطبيعي أن الحروب الأمريكية تحمل كلفة مادية ومالية أكبر من غيرها؛ لأن الجيش الأمريكي يعتمد تسليحاً أعلى كلفة بكثير، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية حاولت في كثير من حروبها دعم حكومات محلية؛ عسكرياً واقتصادياً وفي مجالات أخرى، جعلت حروبها أكثر كلفةً من غيرها بكثير. 

والحالة الوحيدة التي يمكن أن نقول إن كفة الخسائر فيها ترجح لصالح السوفييت، كانت في المقارنة بين الحرب الفيتنامية والأفغانية؛ فقد خسر السوفييت جنوداً وأموالاً أقل بكثير من الولايات المتحدة؛ مع أن الحربين متقاربتان من حيث المدة ووقت الحدوث. 

لكن الاتحاد السوفييتي تفكك، وورثته روسيا الاتحادية؛ الأقل إخافة عسكرياً، وأقل قدرة اقتصادياً، والتي لا تؤثر على السياسة العالمية بشكل يمكن مقارنته من قريب أو بعيد بالاتحاد السوفييتي، لذلك فمن المتوقع أن تكون حروبه أصغر حجماً وأقل كفاءة. 

*الحرب الروسية في جورجيا

وقعت الحرب عام 2008، بعد هجوم جورجي على “جمهورية أوسيتيا الجنوبية”، قبل أن يقرر الجيش الروسي دخول الحرب التي لم تستمر إلا خمسة أيام في جورجيا. 

لم يكن الجيش الروسي قد شهد أي إصلاحات حقيقية قبل هذه الحرب، وكان يعتمد على إرثه من الاتحاد السوفييتي، لذلك أعلن الجيش الروسي إصلاحات عميقة وكبرى بعد الحرب مباشرة. 

مع ذلك؛ لم تكن الحرب صعبة بالنسبة للروس، والذين لم يخسروا إلا أقل من 70 جندياً خلال أيام الحرب الخمسة، بالإضافة إلى 280 جريحاً، مقابل 170 عسكرياً جورجياً تم قتلهم خلال الأيام الخمسة. 

ورغم أن الجيش الروسي تنبَّه لضرورة القيام بإصلاحات واسعة؛ إلا أن العملية كانت ناجحة جداً، وبخسائر قليلة، ولكونها لم تدُم إلا وقتاً قصيراً جداً، ودون خسائر بشرية كبيرة، فإن كلفتها لا تكاد تذكر أمام الحروب الأخرى. 

*ضم القرم وحرب الدونباس 2014

لم تقُم روسيا بضم القرم فقط في عام 2014، بل بدأت دعم حرب في إقليم الدونباس، خاضتها قوات انفصالية في الإقليم الذي يسكنه غالبية روسية، ولم تحتَج القوات الروسية لوقت يذكر لضم القرم بأكمله، لكن الحرب في الدونباس استمرت حتى بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في عام 2022، وإن كان الجزء الأهم منه لم يستمر أكثر من عام واحد. 

لكن الروس لا ينشرون بشكل واضح خسائرهم في الحروب عامة؛ إلا إذا كانت بقلة ما خسروه في جورجيا مثلاً، أما في الصراعات الكبيرة فإن إعلانات الحكومة الروسية شحيحة جداً، إن لم يُشك بصحتها، كما أن هذه الحروب أقل كلفة بالتأكيد من حروب أمريكا الطويلة، ولكن لا توجد بيانات كافية لمعرفة الكلفة الدقيقة لها. 

لذلك تتضارب المعلومات عن عدد قتلى روسيا في أوكرانيا بسبب ضم القرم وحرب الدونباس، فتدعي بعض التقارير أن روسيا خسرت 2000 جندي في عام 2014، بينما تضع تقارير أخرى خسائر روسيا عند 220 قتيلاً فقط. 

لكن ذلك لا يشمل عدد قتلى الانفصاليين الموالين لموسكو، والذين خسروا أكثر من ذلك بكثير؛ لأنهم هم من شاركوا بشكل مباشر وكبير في معارك الدونباس ضد القوات الأوكرانية. 

*الهجوم الحالي على أوكرانيا

تتفاوت التقديرات حول الهجوم الحالي أيضاً؛ ولكن بشكل أكبر من أي وقت مضى، فالقوات الأوكرانية تقول إنها قتلت أكثر من 17 ألف جندي روسي، وهو عدد أكبر من خسائر السوفييت في أفغانستان طوال عشر سنوات، وأضعاف قتلى الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان. 

في بداية شهر مارس/آذار 2021، اعترفت وزارة الدفاع الروسية بمقتل نحو 500 جندي في القتال، وإصابة 1500 آخرين. 

بينما تقول التقديرات الغربية إن قتلى الجيش الروسي بين 7-15 ألف جندي، بالاعتماد على عدة مصادر، بينها المصادر الرسمية الأوكرانية نفسها، ومصادر أخرى أيضاً. 

حتى لو كان عدد القتلى الروس عند أقل التقديرات الغربية؛ أي 7 آلاف جندي، فهو رقم كبير جداً، لأنه يعني أن روسيا خسرت في أقل من شهرين، رقماً مشابهاً لما خسرته الولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان، وطوال عشرين عاماً! 

إن صحت هذه التقديرات؛ فهذا يعني أن الجيش الروسي الذي يُعتبر ثاني أقوى جيش في العالم، قُدِّرت قوته بأكبر مما هي عليه في الواقع، خصوصاً بعد تكبده كل هذه الخسائر أمام جيش ضعيف جداً بالمقارنة؛ مثل الجيش الأوكراني. 

بل إن الجيش الروسي خسر أضعاف ما خسره في حرب الدونباس، وفي فترة أطول بكثير من الهجوم الحالي في أوكرانيا، فحتى لو صحت تقديرات أن الجيش الروسي خسر 2000 جندي في دونباس عام 2014، فلم يحصل ذلك إلا بعد تسعة أشهر من الحرب. 

وهو فرق كبير جداً؛ رغم أن حجم الحرب في الدونباس في عام 2014 كان أصغر بكثير من الهجوم الروسي الكبير على أوكرانيا اليوم، وهو هجوم مستمر لم يتضح مستقبله بعد، وبسبب طبيعة روسيا المتكتمة في هذه الأمور؛ فمن المشكوك به أن نعرف العدد الحقيقي لقتلى الجيش الروسي، أو الكلفة الاقتصادية للهجوم.

* المصدر: عربي بوست