جو غانم

 

الأزمة السورية تحوّلت إلى حرب تورّطت فيها غالبية الدول العربيّة بأمرٍ من الغرب، ولا تختلف أهدافها عن أهداف العدوان على اليمن

“إنّها حرب إبادةٍ مفروضة، ومن العار أنْ نخوضها متفرّقين؛ فإمّا أنْ ننهض جميعاً، وإمّا أنْ يقتلونا فرادى” – الشهيد فتحي الشقاقي

في المرّة الوحيدة التي بنى فيها العرب دولةً قويّة ومترامية الأطراف، يُحسب لها ألف حسابٍ في جنبات العالم الأربع، انطلقوا من اليمن أوّلاً، وأقاموا في شبه الجزيرة العربيّة، إلى أنْ أتى “الوحي” رجلاً يمانيّ الطلعة والأصل، سلّمهم رايةً بلغت الشام. ومن دمشق تحديداً، انطلقت دولة العرب لتطرق أبواب أوروبا، وتقتحم أسوارها، وصولاً إلى “بواتييه” في فرنسا.

لعلّها أقدار السوريين واليمنيين التي تلاقت وتشابهت ورسمت مصير العرب في محطات كثيرة عبر التاريخ، هي التي أرّخت في هذا الشهر، آذار، لذكرى بدء العدوان الوحشيّ على اليمن، وذكرى انطلاق محاولة تحطيم سوريا من دون رحمة.

لكنّ مصادفات التاريخ وأحكام الأقدار ليست وحدها من جعل العدو في الحالين واحداً، والضالعين في الجريمتين، على اختلاف أسمائهم وعناوين عواصمهم، هم أنفسهم أيضاً.

ثمّة ما هو مهم وخطر يجمع بين اليمن وسوريا، ويجعلهما هدفاً – حتى الموت أو القيامة – لقوى الاستعمار وأدواتها في المنطقة. لعلّ هذا الأمر الخطر يبدأ عند الكرامة العربيّة، ولا ينتهي عند التلاقي على حلم قيام الدولة العربية السيّدة والحرة والقويّة، والتي لا يمكن مصادرة قرارها وتحويلها إلى مطيّةٍ أو أداة تدمير لحساب كلّ مستعمر قادر على العدوان، ومتعطّش للدماء ونهب خيرات الشعوب.

ليست مصادفة أيضاً، وإنْ أتت من دون تنسيق عمليّ مباشر، أنْ يقيم المقاوم اليمنيّ الباسل احتفالاً للمعتدين في الذكرى الثامنة للعدوان، وهو محاصَرٌ في شِعاب صعدة وصنعاء، ويشعل مصافي ومحطات تكرير النفط بصواريخ بالستيةٍ كريمة، وأنْ يقرّر رفيقه السوري، المحاصر حتى الموت أو القيامة هو الآخر، الاحتفال بالطريقة ذاتها، وفي اليوم نفسه (الجمعة 25 آذار/مارس)، ويحوّل النفط في القاعدة الأميركية التي تحتلّ أكبر حقول البترول في الشرق السوري (حقل العُمَر) إلى كتلة لهبٍ تحرق أجساد المستعمرين اللصوص.

في حسابات العقول العدوانيّة المتغطرسة ومحاكماتها، الأمر يدعو إلى الجنون والهذيان، ونحن لن نلوم حكّام السعودية إنْ هاموا على وجوههم في صحراء الربع الخالي، ولسان حالهم: كيف لقومٍ أفقرناهم بأيدينا على مدى عقود، وصببنا عليهم حمم قنابلنا وصواريخنا لمئات المرات يوميّاً طوال 8 سنوات، ودمّرنا بيوتهم ومؤسساتهم ومدارسهم وطرقاتهم وجسورهم، ولم نوفّر حتى صالة الأفراح وسرادق العزاء، وحاصرناهم في الماء والهواء والغذاء والدواء، وجمعنا لأجلهم كلّ أحلافنا الدولية العسكرية والسياسية وكلّ من يعبد نفطنا العزيز، وتَزنّرنا بأحدث الأسلحة في العالم وأكثرها فتكاً، ونحن نستبيح السماء التي تُظلّل قهرهم، كيف لهؤلاء اليمنيين أنْ يخرجوا لنا من كلّ مكان بعد كلّ هذا، وأنْ يقاتلونا مِنْ أمامنا ومِنْ خلفنا وعن يميننا وشمالنا؟ بل كيف استطاعوا أنْ يصلوا إلى قلب نفطنا الذي قاتلناه به واشترينا به نصف العالم لأجل قتالهم، وأنْ يُحوّلوا هذا السلاح الذي ظننّا أنه لا يُقهر إلى دُخان يعمي أبصارنا ويحجب عنّا السماء؟ كيف هزَمَنا هذا اليمنيّ الفقير المجبول بالظلم؟ وبأيّ سلاح؟

والأنكى من هذا كلّه، أننا حيث بحثنا عمّن نرجوه أنْ يُحدّثه كي يرفع سوطه عن جلودنا، ويجلس معنا ليأخذ ما يشاء، لم نجد سوى شقيقه السوري؛ السوريّ ذاته المُعفّر بغبار الحرب والكرامة، والذي لقيَ منّا كلّ ما لقيه أخوه!

صحيح أنّ التاريخ لا يرحم، لكنْ يبدو أنْ تاريخ اليمن والشآم يجيد السخرية أيضاً، كما يجيد الصبر والقتال والأدب والعلم واجتراع المعجزات.

بعد كلّ تلك السنوات من القتل والتدمير والحصار والتجويع ومحاولات الإفناء التامّ، تعود دمشق وصنعاء إلى واجهة العرب، لترسما خريطة مستقبلهما؛ ففي الذكرى الثامنة للعدوان على اليمن، وفي “يوم الصمود الوطنيّ”، أعلن زعيم حركة “أنصار الله” في اليمن، عبد الملك الحوثي، أنّ اليمن بات لديه نشاط لتصنيع الصواريخ والطائرات المسيّرة والبنادق، وأنّ التصنيع الحربي آخذ في التطور بصورةٍ حثيثة وعلميّة عالية، وأنّ التصنيع في مجال المدفعية بلغ مرحلة الاكتفاء الذاتيّ، وأنّ القوات البحرية اليمنية نهضت من نقطة الصفر، وبلغت مرحلة القدرة على ردع أيّ عدوان بحريّ لقوى التحالف.

وقد أكّد القائد العام لحركة “أنصار الله” أنّ قيادة تحالف العدوان على اليمن تعرف كلّ هذا. وفي حال كان لديهم أدنى شكّ، فها هي “أرامكو”، درّة التاج السعودي، تحترق، في كارثةٍ لم تشهد لها الدولة السعودية مثيلاً من قبل، وها هي الصواريخ اليمنيّة تدكّ مصافي النفط ومحطات تحلية المياه، لتبثّ رسائل إلى أهل العدوان ومن وقف ويقف خلفهم بأنّ اليمن بات قادراً على قلب كلّ الموازين، وأنّ عليهم منذ الآن أنْ يعدّوا إلى آخر رقم يعرفونه، قبل أنْ يفكروا في الاعتداء عليه، وأنّ هذا البلد الذي كان “سعيداً” في يومٍ بعيد، يقف الآن وسط الدمار والظلم والحصار والآلام، في أقوى مكان احتلّه في العصر الحديث، ليعلن لهم تاريخ بؤسهم.

وفي الذكرى الحادية عشرة لبدء الأزمة السورية، التي تحوّلت إلى حرب تورّطت فيها غالبية الدول العربيّة بأمرٍ من الغرب، والتي لا تختلف أهدافها عن أهداف العدوان على اليمن، ظهر الرئيس السوريّ بشار الأسد في الإمارات العربية المتحدة، مستقبَلاً بحفاوة كبيرة.

وقد بدا أنّ الأنظمة العربية التي انغمست في الحربين لمصلحة الغرب الاستعماريّ وربيبته “إسرائيل” تسعى لتحريك الرمال السياسية في المنطقة، بعد أنْ غاصت فيها حتى الرقبة، وبعد أنْ فشلت في تحقيق أيّ هدف سياسيّ أو استراتيجيّ يتجاوز القتل والدمار، بل بعد أنْ ارتدّ لهيب المعارك ليبدأ بحرق أثوابها الداخلية، وبعد أنْ خرجت دمشق وصنعاء وعموم الحلفاء في محور المقاومة أقوى بكثيرٍ ممّا كانوا عليه قبل العدوان على المستوى العسكريّ، بل أخذوا زمام المبادرة، وبدأوا بالهجوم، ليرسموا المعادلات العسكرية والسياسية الجديدة بدمائهم وتضحياتهم وإرادتهم الصلبة، الأمر الذي نتج منه انكفاء الرّاعي الأميركي، معبّراً عن ضعفه وعجزه بأبشع طريقة ممكنة في سوريا واليمن والعراق ولبنان وأفغانستان، وأخيراً بشكل صارخٍ في أوكرانيا، حيث التقدم العسكريّ الروسيّ في وجه الناتو، وحيث تخطو موسكو وبكين نحو قمّة العالم الماليّة، لتبدأ مرحلة إزاحة الدولار واليورو عن صدور سكان الكوكب، الأمر الذي زاد المشاكل الوجوديّة التي يعانيها هؤلاء المعتدون.

كلّ هذه العوامل وغيرها جعلت الحراك السياسي الجديد والمختلف مطلباً لقوى العدوان على الدولتين، وجعلت حضور دمشق وصنعاء على رأس كلّ طاولة سياسية أو اقتصادية أمراً ضروريّاً ولا مهرب منه.

الثابت لدينا أنّ صنعاء حاضرة بقوة في هذا الحراك، وأنّ التنسيق السياسيّ بين الحلفاء من دمشق إلى صنعاء، مروراً ببيروت وطهران وفلسطين والعراق، جارٍ على قدم وساق، وأنّ القيادة السياسية والعسكرية في اليمن كانت على علمٍ ورضا بزيارة الرئيس الأسد، وهي راضية عن أيّ حراك يشمل مصلحة الأمة، ويسير فيه الإخوة والرفاق في محور المقاومة.

لكنّ الثابت أيضاً أنّ دمشق ترفض أنْ تُفاوض بدلاً عن اليمنيين، وأنها تعرف وتُقدّر عالياً موقف صنعاء الذي يقرره أهلها فقط، وهو جوابٌ سمعته كلّ الأطراف الدولية على لسان اليمنيين أوّلاً، ثم الإيرانيين والسوريين وأهل الضاحية الجنوبية لبيروت، فمن يريد التفاوض مع صنعاء، فليتقدّم وفق شروط صنعاء، لا بشروطه أو بإملاءات من أحد، والأمر نفسه ينطبق على دمشق، ويعلم هؤلاء جميعاً أنّ العلاقة بين أطراف محور المقاومة لا تعرف الإملاءات والضغوط، بل التعاون لمصلحة شعوبها ودولها وقرارها السياديّ.

تريد قيادات دول العدوان في منطقة الخليج أنْ تدخل في مقايضات مع قوى محور المقاومة، لا تشملها والدول المعتدى عليها فحسب، بل تشمل الحليف الجديد “إسرائيل” أيضاً، فالمعروض على السوريين واليمنيين هو وقف الحرب والاعتداءات وتقديم المال لإعادة الإعمار في البلدين، مقابل الانكفاء السياسيّ عن التأثير في الساحات التي تُشكّل خطراً على نفوذها، وتفسح المجال أمام حضور كيان الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، ليصبح مقبولاً في المنطقة كأيّ “دولة” طبيعية أخرى، الأمر الذي لا تناقش فيه قوى محور المقاومة، بعد أنْ اكتسبت انتصاراتها بتضحياتها الجسيمة، تحت شعارات تحرير الأرض والإرادة العربية من المحتلين وقوى الهيمنة.

إنّ الارتباط بين المسألتين السورية واليمنيّة، لناحية أسباب العدوان أوّلاً، ثم دوافع المقاومة والإصرار على النصر والنهوض ثانياً، يخصّ كل عربيّ في هذه المنطقة، وأوّلهم الفلسطينيون، فمخطّط تفتيت سوريا وتحويلها إلى مزرعة يديرها كيان الاحتلال الإسرائيلي، وسرقة نفطها وقمحها وتهجير شعبها، كمخطط الهيمنة على اليمن بعد تدميره والسيطرة على ثرواته النفطية والغذائية، ووضع اليد على الممرّات المائية الحيوية التي يطلّ عليها، يهدف إلى انتزاع كل المكتسبات وعوامل القوة التي تجعل العرب يقاتلون في سبيل تحرير فلسطين، وإلى الاستفراد بالفلسطينيين ودفعهم إلى الموت أو الرضوخ، كما يهدف إلى إفقار العرب تماماً ومنعهم من النهوض بعد سرقة ثرواتهم وتجييرها لمصلحة قوى العدوان والاحتلال.

بعد قتال ضارٍ وتضحياتٍ كبيرة استمرَّت لسنوات طويلة، ستجلس دمشق وصنعاء على طاولة العالم الجديد كفاعلتَين في صنعه وإنهاضه، وهي المرة الأولى بعد مئات السنين التي يُتاح فيها للعرب أنْ يشاركوا بقوة في تشكيل خرائط العالم السياسية، ناهيك بصناعة مستقبلهم بأيديهم، فكلّ الرؤى التي تُطرَح الآن على الطاولات الإقليمية والدولية تنطلق من نقطة انتصار سوريا واليمن، لتذهب في الاتّجاه الذي تقرّرانه وفق إرادتهما.

كل المقايضات المطروحة الآن تفرض على قوى العدوان التنازل كثيراً والانصياع إلى شروط المقاومين، فتحرير سوريا من الاحتلال الإسرائيليّ والأميركيّ والتركيّ، وفك الحصار عنها وبدء الإعمار، ووقف العدوان على اليمن، ورفع الحصار عنه وتعويضه بالقوة عن الدمار الذي لحق به، واحترام سيادة الدولتين ومبادئهما وثوابتهما في التحرير والنهضة والحضور العربي والإقليمي الفاعل لمصلحة القضية المركزية فلسطين وقضايا الإنسان العربي، هي شروط دمشق وصنعاء وجميع قوى محور المقاومة.

وقد قرَّر هؤلاء أنّهم لا يملكون ما يقايضون به مقابل حقوقهم تلك سوى التهدئة، إلى أنْ تقضي المصالح الوطنية أمراً آخر، وإلّا، فإنّ من جعل من قاعدة حقل العمر الأميركية المحتلّة حقلاً للرمي منذ مطلع هذا العام حتى الآن، ومَنْ حوّل “أرامكو” إلى رماد يوم جمعة آذار العظيمة، بات قادراً على عدم التوقف حتى إسقاط أنظمة العدوان، وهو الأمر الذي بات ممكناً جدّاً بعد تحويل النّفط إلى قنبلةٍ تنسف كلّ من حولها من لصوص، وهم الذين لطالما سرقوه ليقاتلونا ويقتلونا به.

المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً