السياسية:

نشر الكاتب البريطاني ورئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني ديفيد هيرست تحليلاً حول أهداف العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وانعكاسها على الغرب، وحتى على روسيا من الداخل، ومحاولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خلالها استعادة ما سمَّاه “روح روسيا”، حيث يذكر هيرست كيف عمل الغرب على تحطيم روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإذلالها وإلحاق العار بها، وتفكيك اقتصادها الضخم الذي ورثته عن السوفييت، وكيف أدى ذلك إلى صنع بوتين نفسه والطبقة الحاكمة هناك.

ويروي هيرست مشاهداته للظروف الاقتصادية الروسية بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي، ويقول: الزمان هو نوفمبر/تشرين الثاني 1992. والمكان هو سوق تيشينسكي في موسكو، كانت الثلوج تتساقط على صفّ مبلل من التجار الذين ينادون على أي شيء يمكن أن يبيعوه، وحتى المصابيح الكهربائية المحروقة كانت لها قيمتها في هذا السوق.

اقتربنا من أحد البائعين، واتضح أنَّه أستاذ جامعي سابق في الفيزياء، وكان بائع آخر مدرب سباحة أوليمبياً، روى كل منهما قصته، ففي لحظة كان لديهما منصب ومدخرات، وفي اللحظة التالية لم يكن لديهما شيء، لم يكن هذا تغييراً للنظام، بل ثورة.

كان أمام يغور غايدر، رئيس الوزراء آنذاك، شهر ليرحل قبل أن يتولى بوريس يلتسين بدلاً منه، لكن الضرر قد وقع. فكان التضخم المفرط آخذاً في الازدياد نتيجة لإصلاحاته التي اتخذت نهج العلاج بالصدمة، وهي الصيغة التي جُرِّبَت لأول مرة في تشيلي في عهد بينوشيه.

لكن هنا في تيشينسكي كانت توجد صدمة أكثر مما كان يوجد علاج، لكنَّ الاقتصاديين الغربيين كانوا في حالة نشوة، فكانوا يتعاملون مع روسيا باعتبارها مختبراً نقدياً، وفي هذه الحالة كانوا يبحثون عن طريقة لإيجاد روبل قوي من وسط هذا الانهيار الكامل للاقتصاد.

كانت خسارة الناتج الصناعي في السنوات الخمس الأولى من الديمقراطية في الاتحاد الروسي أكبر مما وقع خلال غزو هتلر عام 1941. وكان انهيار الاقتصاد الروسي بين عامي 1991 و1996 أكبر مما وقع في الكساد الكبير في الولايات المتحدة.

لكنَّ الغرب كان يشجع انهيار روسيا، وكان لعاب وسائل الإعلام الغربية يسيل أيضاً في موسكو، التي تبنَّت النيوليبرالية بقوة كبيرة، إذ حضر يلتسين تدشين ثاني مطاعم ماكدونالدز التي تُفتتح في روسيا، وفي مقابله كان يوجد تمثال لألكسندر بوشكين (الشاعر الروسي الأعظم ومؤسس الأدب الروسي الحديث).

وكان صديقي الروسي أحد الحضور القلائل الذين شعروا بحزنٍ عميق. وقال لي: “سيكون هنالك رد على هذا، وأنتم في الغرب لن يعجبكم ذلك الرد”.  

كان قليلون في موسكو آنذاك يعلمون مَن هو فلاديمير بوتين. كان يلتسين ومستشاروه يبحثون في الاتجاه الخاطئ عن الإشارات المبكرة لعدوهم، فكانوا يخشون عودة ظهور “المديرين الحمر” من محتكري الدولة القدامى والحزب الشيوعي، لذلك قاموا بتأطير انتخابات 1993 على أنَّها معركة بين “البيض” و”الحمر”، في محاولة واعية لإرهاب الناخبين الروس باستخدام ذكريات الحرب الأهلية.

ولم يلقوا بالاً للأشخاص الذين كان يلتسين نفسه يُرقِّيهم، وأظهر بروز بوتين من داخل الدوائر الفاسدة حول يلتسين، التي تُعرَف باسم “العائلة”، أنَّ تحالف روسيا الوجيز مع الغرب كان ينطوي على بذور دماره.

لكن في ذلك الوقت جرى إنشاء شبكة موسعة من الشركات الأجنبية الوهمية لإخفاء الأموال التي استولت عليها “العائلة” ودوائر الأوليغارشيين الأوسع نطاقاً. وكان كل ذلك يحدث بعلم ورضا تام من الحكومات البريطانية وجهاز مخابراتها.

وكان رائد وعميد إخفاء الأموال المسروقة من الدولة الروسية هو بوريس بيريزوفسكي، وهو متخصص في الرياضيات تحول إلى مستورد للسيارات المستعملة، ثم تحول إلى أوليغارشي، ثم إلى عميل لجهاز المخابرات البريطاني (MI6)، ثم تحول إلى أحد المنفيين في لندن. وكان تلميذه، الذي اختلف معه لاحقاً، هو الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش، كانت الأموال تتدفق إلى لندن، ولم يكن يُطرَح بشأنها أسئلة.

* الرد المدمر على “الإذلال” الأوروبي لروسيا

كان “رد” بوتين على الهوان والذل الذي عانى منه الروس هو إنشاء كارثة من صنعه، لكنَّها أشبه بسلسلة من الكوارث، ليس فقط بالنسبة للآلاف من الأوكرانيين الذين قتلتهم قواته خلال الأسابيع الماضية، بل لروسيا أيضاً. بإمكان جيشه القتل، لكن ليس القتال، ويبدو أنَّه لم يصبح قوة قتالية بأفضل مما كان حين دمَّر الشيشان مرتين عامي 1994 و1999. 

يبالغ الجانبان في أرقام الضحايا، لكن إذا كان المدى المتوسط لضحايا الجيش الروسي قريباً من الحقيقة، فإنَّ روسيا ربما فقدت في ثلاثة أسابيع بأوكرانيا رجالاً أكثر مما فقدت أمريكا طوال عشرين عاماً في أفغانستان. وإذا كان الرقم الأكبر للضحايا دقيقاً، فإنَّ ذلك من شأنه أن يشمل ضحايا الولايات المتحدة في العراق أيضاً.

وحتى لو وضعنا في الاعتبار اهتمام أجهزة المخابرات الغربية بالترويج لسردية أنَّ كل شيء لا يسير على ما يرام بالنسبة لبوتين، فإنَّ أجهزة الأمن الروسية الشهيرة آخذة بالتعثر.

إذ أفادت تقارير بأنَّ سيرغي بيسيدا، رئيس فرع المخابرات الخارجية بجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، قد وُضِعَ قيد الإقامة الجبرية. وهناك أيضاً دلائل على تسريب جهاز الأمن الفيدرالي معلومات للأوكرانيين، معلومات قادت الفرق الأولى من الجنود الشيشانيين إلى حتفهم.

ويلجأ بوتين على نحوٍ متزايد إلى المقاتلين الأجانب -الشيشانيين والسوريين- للمساعدة في اقتحام المدن الأوكرانية. ولا يمثل أي من هذا أنباءً سعيدة بالنسبة لحاكم مطلق من النوعية التي صوَّر بوتين نفسه أنَّه منها.

* “كارثة أوكرانيا”

يقول هيرست: شعر بوتين في السابق بضعفه عند وقوع الكوارث، ويُعَد كلٌّ من حصار المدرسة في بيسلان عام 2004، وغرق الغواصة كورسك عام 2000، وفيضانات كراسنودار كراي عام 2012 ثلاث كوارث يجب وضعها في الاعتبار. فحين تُوهِن كل المؤسسات في روسيا مثلما فعلت رئاسة بوتين، لا يتبقَّى إلا شخص واحد لتلقّي اللوم.

أقرَّ بوتين بهذا من خلال الظهور شخصياً في كل مناسبة لتحمُّل المسؤولية، لكنَّ الكارثة العسكرية تمثل تهديداً من نوع مختلف تماماً بالنسبة لرئيس صوَّر نفسه بأنَّه أقوى الأقوياء.

كان مشروع غزو أوكرانيا هو حرب بوتين، كانت فكرته. فلم يكتب فقط مقالاً من 5 آلاف كلمة يقول فيه إنَّ أوكرانيا كانت اختراعاً بلشفياً لم يكن موجوداً في الحقيقة، بل حشد الجيش لإجبارها على العودة إلى أحضان روسيا. وقال لحلفائه سلفاً إنَّ ذلك سيحدث. على حد علمي (يقول هيرست) كان وزير النفط الإيراني أحدهم، خلال زيارة جرت في يناير/كانون الثاني، خُطِّط للغزو مسبقاً قبل أشهر. وكان بوتين هو الرجل الذي وصف بلداً يضم 44 مليون مواطن بالقول “هذه الدولة المعادية لروسيا صنيعة الغرب”، وفي حال لم تكن كذلك قبل ثلاثة أسابيع من الغزو فإنَّها كذلك الآن.

حتى لو ترك انسحاب القوات الروسية بعض النتائج الملموسة لبوتين -وعد بعدم الانضمام للناتو والاعتراف بسيادة المناطق المنفصلة عن أوكرانيا فضلاً عن منطقة أخرى في الجنوب- فلا يزال على بوتين تقديم إجابات للرأي العام.

يبدو ذلك منافياً للحقيقة، لكن هنالك بالفعل ما يُسمَّى رأياً عاماً في روسيا، فهي ليست السعودية أو الإمارات أو مصر، حيث يمكن لتغريدة واحدة أن تؤدي إلى اختفائك أو سجنك.

يعتقد غالبية الروس أنَّ الغرب كان يُصنِّع أسلحة بيولوجية في أوكرانيا، من شأنها استهداف المنتمين للعرق الروسي، وأنَّ الناتو يمثل تهديداً حقيقياً لسيادة الاتحاد الروسي.

فوفقاً لشركة Survation المهتمة باستطلاعات الرأي، يعتقد 69% من الروس المستطلعة آراؤهم أنَّ هدف العملية العسكرية هو هدف “تحرير”، بينما ينظر 13% فقط إلى روسيا باعتبارها الطرف “المعتدي”، لكنَّ الآراء أكثر توازناً بشأن ما إن كانت الحرب تستحق هذا الثمن، إذ يعتقد 43% أنَّها تستحق، بينما يعتقد 33% أنَّها لا تستحق، ولا يعرف 24% ما إن كانت تستحق أم لا.

وبالتالي، كان من المهم أن يجاهر بعض الروس بمعارضتهم علناً، ومن الملاحظ كيف كان جيش بوتين من محللي السياسة الخارجية المأجورين صامتاً خلال هذه الحملة.

بدأ الأمر بعرض استثنائي من تلفزيون الواقع في الكرملين، حين أهان بوتين مدير جهاز المخابرات الأجنبية الروسية، سيرغي ناريشكين، خلال اجتماع لمجلس الأمن الروسي. وتواصل من خلال “الاحتجاج الشجاع” من جانب إحدى محررات التلفزيون الروسي.

وهناك آخرون يعبِّرون عن اعتراضهم، مثل طيار التجارب الروسي النقيب ألكسندر غارنايف، وشنَّ غارنايف، الذي يحمل لقب “بطل روسيا”، هجوماً لاذعاً على الطريقة التي “تُقصَف وتُسحَق” بها المدن الأوكرانية باستخدام الدبابات. وأضاف غارنايف، الذي استقال من عدد من مناصبه على خلفية الحرب “غير المفهومة تماماً”: “عاجلاً أم آجلاً سيعرف المجتمع عدد الخسائر النهائي، وسيُصاب بالرعب”.

وفي مدينة نوفوكوزنتسك غربي سيبيريا، اتهمت أمهات الجنود الذين أُرسِلوا إلى أوكرانيا المسؤولين باستخدامهم “وقوداً للمدافع”. وحين وعد سيرغي تسيفيليوف، حاكم الإقليم، بانتهاء الصراع قريباً، ردَّت عليه إحدى الأمهات قائلةً: “حين يموتون جميعاً؟”.

تمثل هذه تصدعات في واجهة سلطة بوتين الملساء، وهي آتية من الداخل، تماماً مثلما كان أعداء يلتسين.

* معركة حول “روح روسيا”

كانت الفترة التي فرض فيها بوتين سلامه على روسيا (أو ما يُعرَف بـ”سلم بوتين”) تعتمد كثيراً على تحالف: طبقة وسطى جديدة بإمكانها أن تنمو وتسافر وتثري نفسها، طالما لم تعبث بالسياسة. وكانت الغالبية العظمى من روسيا تملك الخدمات الأساسية، ومعاشات تقاعد، وأنظمة تعليم، والتي كانت تخضع للخصخصة بصورة متزايدة.

وكان بإمكان الشركات الغربية مواصلة النمو في أسواقها في روسيا طالما استثمرت في الدولة الروسية أيضاً. وترأس بوتين هذا التحالف باعتباره الرجل الذي ضَمِنَ الاستقرار في الداخل والذي أكسب روسيا الاحترام باعتباره زعيماً مخضرماً بالخارج.

تكسر العزلة الغربية لروسيا، والتي من المقرر الآن أن تستمر ما دام ظلَّ بوتين رئيساً، هذا التحالف، والروس يسألون أنفسهم بصورة متزايدة حول ما إن كانت النتائج تستحق الثمن الباهظ الذي يُطلَب منهم دفعه.

وهم غاضبون من ناحيتين، من بوتين ومن بروكسل، فهم منزعجون من عدم وصفهم بالأوروبيين، لأنَّ كل شيء في لغتهم وثقافتهم وموسيقاهم وأدبهم يستدعي وصفه بالأوروبي.

وروسيا بوتين ليست هي الاتحاد السوفييتي، وقد بُعِثَ من جديد، وهذه مشكلته. فروسيا بوتين لا تملك شيئاً من الأيديولوجيا والانضباط والتماسك الداخلي الذي كان لروسيا الشيوعية في أوجها.

ولا تملك روسيا العودة إلى انعزال الاتحاد السوفييتي في عهد يوري أندروبوف على سبيل المثال، وستعاني من أجل استبدال المستثمرين الغربيين بآخرين شرقيين. فمنذ تولَّى بوتين السلطة، ترعرع جيل من الروس في دولة مُغَربَنة غنية بالنفط، واعتاد السفر إلى تركيا وقبرص وتونس وفرنسا مرتين أو ثلاث سنوياً، وأن يفرش شققه من متاجر Ikea السويدية.

* تهديد وجودي

يتمثَّل رد بوتين على ردة الفعل السلبية الداخلية الواضحة التي يتلقاها في الانزلاق إلى “جنون العظمة”. ففي خطاب ارتجالي ألقاه يوم الأربعاء 16 مارس/آذار، هاجم بوتين “الطابور الخامس” و”الخونة” الذين يتمثل هدفهم الوحيد في تدمير روسيا، بل واستهدف أيضاً أثرياء روسيا. فقال: “لستُ أصدر أحكاماً على الإطلاق على أولئك الذين يملكون فيلا في ميامي أو الريفييرا الفرنسية، الذين لا يمكنهم الاستغناء عن الكبد الدسم (فوا غرا)، أو المحار”.

وأضاف: “المشكلة ليست في ذلك على الإطلاق، بل، وأكرر في الحقيقة أنَّ الكثير من أولئك الأشخاص بطبيعتهم ينتمون نفسياً إلى هناك، وليس إلى هنا، ليس إلى شعبنا، ليس إلى روسيا. وهذا هو ما يعتقدون -في رأيي- أنَّه علامة على الانتماء إلى طبقة أعلى، إلى عرق أسمى”.

يهاجم بوتين جزءاً كبيراً من التحالف الذي بناه بنفسه. فهو نفسه ليس أوليغارشي وحسب، بل ويملك السلطة لخلق الأوليغارشيين.

لقد أصبحت مشكلة بوتين الآن هي أين “ستنتمي روسيا نفسياً” بعد أوكرانيا. هل ستسمح روسيا لنفسها بالانزلاق مجدداً لتصبح دولة سلطوية من الدرجة الثالثة، تعتمد حصراً على فكرة أنَّ الغرب يتربصها باستمرار؟ إنَّ ما بدأه بوتين باعتباره عملية عسكرية لنزع سلاح أوكرانيا يُصوَّر الآن باعتباره تهديداً وجودياً للأمة الروسية، ولن ينتهي ذلك بخير لبوتين أو لروسيا.

المصدر : عربي بوست