كيف يفهم موقف مصر من الحرب الأوكرانية – الروسية؟
السياسية:
لم يكن تحرك القاهرة تجاه التعامل مع ما يجري في الحرب الأوكرانية – الروسية في اتجاه واحد، بخاصة مع تشابك وتعقد العلاقات المصرية – الروسية من جانب، ومع الولايات المتحدة من آخر، وهو ما فرض على الأولى المناورة في اتجاهات عدة، إضافة إلى محاولة تهميش أي ارتدادات على أي موقف قد تقدم مصر على اتخاذه خلال الفترة الراهنة والمرتقبة.
* علاقات مرتبكة
العلاقات المصرية – الأميركية جيدة في سياقها العام في ظل وجود تيار نافذ بوزارة الدفاع تحديداً يرى أن مصر دولة مهمة، وينبغي دعم العلاقات معها، وإن كان هذا التيار لم ينجح في مواجهة تجميد 130 مليون دولار من المعونة المقررة للأولى في ظل ما يجري في الكونغرس دورياً تجاه قضايا داخلية متعلقة بالتعددية والليبرالية والديمقراطية، وهو ما تعاملت معه مصر دائماً بنوع من عدم الاكتراث واللا مبالاة، وإن كان قد كشف عن ضرورة تحديد آليات للتعامل المشترك، وتخفيف حالة التوتر الدورية الجارية في مسارات العلاقات المشتركة.
قنوات التواصل الأميركي مستمرة مع مصر قبل البدء وأثناء المواجهات الأوكرانية – الروسية من واقع الاتصالات التي جرت في نطاقها السياسي والاستراتيجي، والتي كان قد سبقها أيضاً تحرك مصري على مستوى وزير الخارجية سامح شكري في إطار ما يعرف بالحوار الاستراتيجي، والذي كان مقياساً على استمرار قناة الاتصال الثنائي، حتى مع عدم وجود بوادر حقيقية لأي إنجاز سياسي أو اقتصادي حقيقي، مما يشير وبعمق إلى حاجة العلاقات لضوابط جديدة تتجاوز ما يجري من معايير قديمة وتقليدية لم تعد مُجدية في هذا التوقيت، وقد يرتبط ذلك على المستوى الاقتصادي بتعرض عدد من مصادر النقد الأجنبي لبعض الضغوط مثل السياحة التي تتأثر بسبب الحرب، إلى جانب استثمارات الأجانب في أدوات الدين وسط حالة عالمية من عدم اليقين إلى جانب اتجاه الفيدرالي الأميركي لرفع أسعار الفائدة. قد تكون مصر بحاجة للجوء إلى الصندوق أو الأسواق الدولية، إذا سمحت الظروف، لسد احتياجاتها من التمويلات مع تأكيد أن الودائع العربية توزعت بين 5.67 مليار دولار للإمارات، و4 مليارات دولار للكويت، و2.3 مليار دولار للسعودية.
لم تسعَ الإدارة الأميركية إلى نقل رسائل إلى الجانب العربي، ولم يقتصر الأمر على مصر، بل امتد إلى دول الخليج الحليفة التي اتجهت لفتح قنوات للتشاور مع روسيا، وهو ما قامت به مصر لاحقاً، وفهم منه أن مواقف جديدة ستتخذ من الجانب العربي، وجاءت الاتصالات المصرية – الخليجية في هذا السياق، إضافة إلى زيارة الرئيس المصري للسعودية، مما أكد وجود قنوات تواصل مهمة سيعمل عليها الجانبان الخليجي والمصري قد تسعى لإحداث توازن في نمط العلاقات العربية – الأميركية، وليس تبني موقف مُعادٍ لسياستها بالمعنى المعروف، وفي ظل الحنين العربي لإيجاد طرف آخر في المعادلة الدولية عبر تطوير وتنمية العلاقات العربية والمصرية مع الجانب الروسي في مواجهة التعنت الأميركي في التعامل مع القضايا العربية، فهل يتسق ذلك مع إعلان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، أن “إدارة الرئيس بايدن ستعاقب أي دولة تحاول مساعدة روسيا في الالتفاف على العقوبات”؟
كما لم تتحرك الإدارة الأميركية لتطوير علاقاتها مع الجانب المصري، وأرادت حصره في قطاع غزة، وهو ما يؤكد عدم قدرتها على تقييم الدور المصري المركزي في الإقليم، خصوصاً أن مصر والأردن تحديداً، دولتان مهمتان في هذا الشأن، ويمكن أن تلعبا دوراً مهماً في استقرار المنطقة، على الرغم من خصوصية كل حالة، فالولايات المتحدة تبني قاعدة عسكرية في الأردن هي الأكبر في الإقليم، كما دشنت تحالفاً استراتيجياً جديداً في صورة اتفاق لم يحظَ بقبول شعبي داخلي. أما مصر فتربطها أواصر استراتيجية كاملة وشراكة مهمة وفي ظل وجود القوات متعددة الجنسيات في سيناء، واستمرار المعونة العسكرية، على الرغم من تقطعها، إضافة لمنح الولايات المتحدة بعض التسهيلات الاستراتيجية، لكن ظلت القاهرة تتحفظ على الكثير من مطالب واشنطن، على الرغم من استمرار المناورات المشتركة، وأشهرها مناورات النجم الساطع، والتدريبات البحرية دورياً.
* علاقات تاريخية
في مقابل هذا، فإن مصر تربطها علاقات متعددة وراسخة مع روسيا، ولكن الإشكالية في إعلان موسكو أن القاهرة دائماً ما تضعها بديلاً، وليس حليفاً سياسياً حقيقياً تقيم معه مشروعات كبرى مثل مشروع الضبعة، وفي ظل وجود الاستثمار الروسية بالمنطقة الاقتصادية والعاصمة الإدارية وشمال الخليج، إضافة لوجود تعاون عسكري ومناورات استراتيجية تم إجراؤها في توقيتات مهمة وبعضها جرى بمنطقة البحر الأسود في مواجهة تركيا، الأمر الذي يشير إلى رغبة روسية في تطوير العلاقات مع مصر على أسس حقيقية، وليست مجرد اتصالات وصلت إلى تفعيل صيغة (2 – 2) التي كانت أهم أسس التعاون الاستراتيجي، ومن ثم فإن الجانب الروسي يرى أن مصر دولة مهمة على جميع المستويات، وعلى الرغم من تصويتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة المناوئ للسياسة الروسية، فإن موسكو تفهمت ما يجري مصرياً، وكان الاتصال الرئاسي المصري الروسي مدخلاً مهماً لما يمكن أن تفضي إليه الأمور تجاه ما يجري في المواجهات الراهنة، حيث لم تبادر القاهرة بالإعلان عن دور الوسيط فيما فعلت إسرائيل وأذربيجان مثلاً، كما أعلنت القاهرة عن زيارة لوزير الخارجية المصري سامح شكري لدول آسيوية في إشارة للاقتراب المحسوب من المنطقة، وتأكيداً لحضور مصري مهم قد يمتد إلى دول جمهوريات آسيا الوسطي، بعد أن زار مصر رئيس طاجكستان، أخيراً، ومنحته القاهرة الدكتوراه الفخرية من جامعة القاهرة. والرسالة أن مصر، ومن خلال مقاربتها على التعامل، ونقل رسائل للجانب الروسي بطريقة غير مباشرة، كما يمكن للقاهرة أن تؤدي دوراً في حفظ السلام بالعالم، وليس فقط بمنطقة الصراع الراهن في حال وقف إطلاق النار ومشاركة الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي يمكن وضعه في الاعتبار.
روسيا تدرك أن أن علاقتها بمصر، الدولة العضو في القيادة المركزية الأميركية مع إسرائيل ودول الخليج، تأتي في سياق الشراكة المصرية – الأميركية التاريخية، لكنها ترى أيضاً أن القاهرة لديها الإمكانات والقدرات في إقليمها، وأنها مدخل لعلاقات روسيا إلى الدول العربية وأفريقيا، خصوصاً بشأن الاتصالات العربية مع روسيا في إطار ما يجري.
كما أن مصر انفتحت في مجال الحصول على السلاح من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا، وغيرها، ولم تعد تتعامل مع سوق السلاح الأميركية فقط، الأمر الذي يؤكد تفهم موسكو لأبعاد الموقف المصري وتحولاته الكبيرة وأنها تتحرر من قيد واشنطن الراهن من خلال ما تقوم به على أرض الواقع، بخاصة أن التقدير الروسي بأن القاهرة لن تسعى إلى تفكيك تحالفاتها مع الجانب الغربي، لكنها تتجه لبناء توازنات حقيقية لا تشمل الولايات المتحدة أو روسيا، بل والصين معاً في اتجاه لإحياء دبلوماسية الشرق التي بدأتها القاهرة بعد أن تولى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مهام الحكم، ومنها نفذت إلى العالم، وأعادت تقديم نفسها على الخريطة الدولية.
الرسالة أن مصر تتحرك في دوائر متشابكة ومتفاعلة مع استمرار الأزمة الأوكرانية – الروسية وارتداداتها على أمن الإقليم بأكمله، الأمر الذي قد يدفع القاهرة إلى إعادة تدوير بعض مبادئ “عدم الانحياز” في إطار جديد، خصوصاً أن بعض الدول في آسيا وليس الهند فقط قد تتبنى هذا الطرح في الوقت الراهن، وهو ما قد تتخوف من تداعياته روسيا والولايات المتحدة في إطار استقطاب جديد لإعادة التوازن لنمط المنظومة الإقليمية والدولية الراهنة، والتي ستشهد مرحلة من حالة عدم السيولة وعدم الاستقرار، وهو ما يجب الانتباه إليه، بخاصة أن مصر لديها ارتباطاتها الكبرى والمهمة، التي لن تتفكك أو يعاد تشكيلها بسهولة.
* مسارات التحرك
سيكون أمام الجانب المصري عدة مسارات، الأول الاستمرار في التوازن قدر الإمكان مع طرفي المواجهة مع الاستعداد لكل الخيارات، وتداعياتها على مصر ليس في سياقها الاقتصادي فقط، بل والأمني والاستراتيجي معاً، وهو ما تحاول القاهرة تعزيزه بصورة استباقية، إلا أن المشكلة في سرعة الأحداث، واحتمال تأثيرها في أمن الشرق الأوسط ومصر معاً، وهو ما قد يفتح الباب أمام مراجعة المواقف الأميركية تجاه دول المنطقة، الأمر الذي يؤكد حرص واشنطن على الشراكة مع مصر ويفسر ذلك تمرير صفقة السلاح من الأولى للأخيرة.
يتمثل المسار الثاني في الاتجاه شرقاً، ما يعني أن القاهرة ستُبقي تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا مع البدء في تكثيف مجالات التعاون مع روسيا، وإعلان سلسلة من الإجراءات في هذا الإطار، ما يؤكد أن مصر قد تسعى لحجز دور في أي ترتيبات أمنية قد تجري وتتأثر بها، بخاصة أن المسار الثالث يتجه إلى إحياء عدم الانحياز الذي سيأخذ وقتاً طويلاً في تنفيذه في ظل حالة الاستقطاب الكبرى في العالم، وستعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، وحتى قبل أن توقف العمليات العسكرية في أوكرانيا.
الخلاصة
ستتجه مصر في مسارات واتجاهات تعاملها مع ما يجري في أوكرانيا انطلاقاً من قرارها الوطني، وشراكتها مع الجانبين الروسي والأميركي، ولكن قد تتحرك في مسارات مستجدة عنوانها تعزيز حضورها الاستراتيجي في الإقليم مع تأكيد شراكتها مع واشنطن باعتبارها عضواً عاملاً في القوة المركزية، ومن غير المستبعد أن تُقدم القاهرة على إجراء مزيد من التدريبات والمناورات مع بعض الدول الغربية، وروسيا تأكيداً لحضورها الاستراتيجي والسياسي في الإقليم.
* بقلم : طارق فهمي – كاتب وأكاديمي
*المصدر: اندبندنت عربية – المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب