بشير عمري*

صار واضحا للعيان أن أزمة النخب العربية في قراءة التاريخ هي أكبر من أن تحصر أو تذكر في سياق أزمات الداخل العربي، حيث عادة ما يلجأ جلهم إلى ممارسة هوايته في الترف الفكري والاصطفاف المصلحي الايديولوجي مع السلطة أو مع التيارات التي تخدم ذات التوجهه.

فمذ تفجرت الأزمة أو بالأحرى الحرب الروسية الأوكرانية لم نسمع همسا لجلهم ممن اعتادوا خاصة ضرب المثل بالحداثة السياسية والحكمة الجيوبولتيكية الغربية وقيمة الديمقراطية “البيضاء” وفاعليتها في التاريخ البشري وكونها دواء للفوضى ووقاية من الحروب النووية أكثر مما يقال عن الوقاية بالردع النووي ذاته، باعتبار اللجوء اليه مستحيلا وبالتالي هو الضمان لدائم السلم والامان.

ليس مطلوبا هنا من النخب العربية التي إليها نتوجه بهاته النقدية الظرفية، أن تبدي موقفا سياسيا على شاكلة القوم التبع من قادة بلدان لا يملكون قرارهم لعدم ملكيتهم سيادتهم، بل ما كان مطلوبا منهم هو الكشف عن خلاصاتهم لمحطة طارئة في تاريخ هذا العالم المتقلب ورؤيتهم لموقع رقعتهم العربية فيها ومستقبلها من تداعيتها.

طبعا الصدمة كانت أشد من أن تستوعب أو تفهم هاته النخب ما يحدث حاليا في المعادلة الدولية التي طرحها بوتين خارج كل نظريات السياسة والقراءات على نهج للاحتمالات النظرية للجيوساسية التي تستأنس بتدريسها كبرى وصغرى كليات العلوم السياسية والمعاهد العليا للدبلوماسية، على ضوء ما تداعى عن الحرب العالمية الثانية، أين ظن الكل أن أثر الزعيم الطاغية قد انتحر وقُبر بحفرة غير معلومة، وبذلك انتهى هذا النموذج من فكر الانسان – الشيطان.

لكن قصة هتلر غير مكتملة النهاية، وشيطان التاريخ ليس له قبر فالقصة إذن مستمرة، والخيال سيضله جامح ما استمرت الإنسانية في صراعها الوجودي الأبدي تقسو على بعضها وتتقاصى في مديات ومستويات عنفها لأنها مختلفة ومتخوفة على اختلافها وما يخدم مصالح ذلك الاختلاف!

مع الأسف نخبنا العربية لا تعرف أو لا تعترف بالاختلاف إلا الرمزي منه أو الفطري الطبيعي المتجلي في الأبدان، عدا ذلك هو تخلفات المجتمعات والشعوب عن ضرورة السير حيث الغرب يسير ويمضي باتجاه حقيقة اللا حقيقة !

وها هو إذن، الغرب اليوم يقف بكل مؤسساته السياسية والسيادية، الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية مذهولا مدهوشا من رؤية حادثة شابهت إلى حد بعيد حادثة غزو بلونيا سنة 1939، ذلك لأن فكر هذا الغرب ظل على حال بينيته الأولى، محتربا محترسا من الآخر فإذا به يخرج من قمقمه زعيم جديد لا يريد للعالم أن يكون أطلسيا عابرا لحدود الأقوام والثقافات ويأتي لمصلحته على مصالح الآخرين.

موقف الغرب الذي لا تكاد تستوعبه، كما أشرنا أو تفهمه نخب العرب المفتونة به، هو كاشف مثالي على هول الانزلاق الكبير للغرب في فهم دروس التاريخ، كما لو كان العقل الغربي المسكون والسكران بنرجسية المركز، قد نسي أن نفس المعطيات تؤدي بالضرورة إلى نفس النتائج، وبقاء الأطلسي بعد زوال وراسو وتبدد فكر عدم الانحياز، كان مؤشرا على أن العالم الأول سيستنسخ ويولد من جديد طال الزمن أو قصر، وأن ما كان يذاع ويشاع هنا وهناك بشأن التحول في طبيعة الصراع من النار الى الاقتصاد ومن فكرة الأمة إلى فكر العولمة ومن الثقافة والخصوصية إلى التكنولوجية، لم يكن سوى خيال منقطع بأصحابه على اعتاب التاريخ .

إذن هكذا سكتت النخب التقدمية والرجعية مثلما تتصانف في الصحف والاذاعات والمحطات التلفزية الأرضية منها والفضائية، على حد سواء، في لعبة الرأي والرأي الآخر والاتجاه والاتجاع المعاكس، فلم تستطع أن تجد ما تتموضع به في هذا الشأن، والأمر بدا وأنه فاق قدرتها على الكلام لأنه لم يعد نظريا مجردا حيث اعتاد هؤلاء السباحة، يلوكون ما كتب عن شروط اللحاق بالغرب أو شرور الحاق به في الجهة المقابلة.

من هنا يتضح بأن مركزية الغرب هي حقيقة كامنة في عقول الأطراف فقط، الذين اعتقدوا بعصمته وعاصمته عليهم فكرا وسياسة، هاته المركزية الخيالية إنما هي مفروضة بواقع القوة النتشوية التي يستقيم عليها الفكر الغربي، وقد فض غشاوتها بوتين ببادرته الهتلرية التي أرادت أن تقول بأن العالم هو من يحمل ويحبل وينجب هتلر بجنسيات أخرى وفكر آخر لكن بذات المبادرة ونفس شاكلة التصرف والدبير والتدمير، وأن أي استنكاف على التغيير الحقيقي في منظومة العلاقات والمؤسسات الدولية التي تضمن سريانها، سيعيد دوما البشرية إلى المبادرة الهتلرية الشيطانية طالما أن شيطان لا يُرى له قبر ويقرأ له في مقابل ذلك دوما فكر.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع