صحيفة “بروفيل”: نحو زوال الهيمنة الأميركية على قواعد السياسة الدولية
أصبحت أوكرانيا خط المواجهة الحاسم. المعركة ليست أيديولوجية على غرار الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ إننا نلحظ محاولة لتحدي الهيمنة على النظام العالمي لمصلحة إنشاء نموذج عالمي أكثر تنوعاً.
السياسية :
كتب رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي، فيودور لوكيانوف، مقالاً في صحيفة “بروفيل”، بعنوان “التحصّن بالقوّة”. تحدّث فيه عن معالم الحقبة الجديدة، بعد العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، التي أطلقها الرئيس فلاديمير بوتين يوم الخميس الماضي.
هنا الترجمة الكاملة للمقال:
على المجتمع الروسي أن يعي أن الأمور لن تعود كما كانت من قبل، فالعملية العسكرية الروسية الجارية في أوكرانيا تشطب حقبةً كاملةً، بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الاشتراكية، ثم مع إبدال النظام العالمي الثنائي القطب، والذي كان متوازناً، إلى حدٍّ ما، بما سُمِّي لاحقاً النظام العالمي الليبرالي، بحيث كمن جوهره في هيمنة السياسة الدولية للولايات المتحدة وحلفائها على قواعد الأيديولوجيا العالمية.
تجلّت الأزمة منذ زمنٍ، وهي لم تقتصر على أن لاعبين دوليين رئيسيين ليسوا راضين عن مراكزهم في الساحة الدولية. فلمدةٍ طويلةٍ نسبياً (عقد ونصف عقد على الأقل)، لم تكن هناك معارضة محددة من اللاعبين، ثم بذلت الدول، التي لا تنتمي إلى الغرب بعد ذاك، بما في ذلك جمهورية الصين الشعبية وروسيا، جهوداً لتلائم مواقعها مع التسلسل الهرمي العالمي. ولم تتمكن الصين، من حيث المبدأ، من القيام بذلك فحسب، بل تمكنت أيضاً من تحقيق أقصى استفادة من الوضع لتقوية موقعها. وكان واقع روسيا أسوأ كثيراً، لكنها بدأت أيضاً السعي لإجراء مراجعات غير فورية للنظام العالمي. لمدة طويلة، تمثّلت المهمة بأن تجد لنفسها مكاناً لائقاً داخل هذا النظام العالمي.
في المقابل، ثبت أن النظام العالمي نفسه غير مرن. لقد استبعد من الناحية المفاهيمية ميزان القوى، الأمر الذي جعله في حد ذاته مهتزاً. لكن الأهم من ذلك أنه لم يتمتع بدرجة كافية من التنوع، ثقافياً وسياسياً، والتنوع ضروري في العمل المستدام في العالم. والنظام العالمي غير المتجانس بالتعريف، حاول اللاعبون الأساسيون فيه فرض التجانس بوسائل متعددة، وصولاً إلى القوة العسكرية. ونتيجة لذلك، أغلق الباب على نفسه.
العملية الروسية الجارية في أوكرانيا هي صورة طبق الأصل عمّا فعلته الولايات المتحدة وحلفاؤها أكثر من مرة، على مدى العقود الماضية، في أجزاء متعددة من العالم. وفقاً للأسطورة، بعد معركة بولتافا، رفع بطرس الأكبر نَخباً لـ “معلميه السويديين”. والآن، يمكن للقيادة الروسية أن تعلن أنها تعلمت كثيراً من الغرب. في تصرفات روسيا في أوكرانيا، من السهل اكتشاف العناصر العسكرية والمعلوماتية، والتي كانت موجودة في حملات أميركا وحلف شمال الأطلسي ضد يوغوسلافيا والعراق وليبيا.
التوتر يتصاعد منذ فترة طويلة. أصبحت أوكرانيا خط المواجهة الحاسم. هذه ليست معركة أيديولوجية على غرار الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، إذ إننا نلحظ محاولة لتحدي الهيمنة على النظام العالمي لمصلحة إنشاء نموذج عالمي أكثر تنوعاً، يعتمد على مناطق النفوذ وفق المصطلحات القديمة. والآن، بينما أصبح العالم أكثر شفافية وترابطاً، فإن العزلة لم تعد ممكنة إلاّ بمقدار محدد فقط. على الأقل، هذا ما نظنه حتى الآن.
يتمثّل سبب العمليات العسكرية المباشر بالسيطرة على منطقة ذات أهمية استراتيجية، كما كانت الحال في كثير من الأحيان في الماضي. لكنها تتخذ طابعاً خاصاً تحت عنوان “عودة التاريخ”، الذي يتردد في وسائل الإعلام بكثافة، ويعكس الواقع بصورةٍ عامةٍ. يتداخل نوعان من التأثير هنا، الأول يتمثل بالقوة الصلبة الكلاسيكية، والتي تستند إلى عناصر بسيطة غير مصقولة، لكنها مفهومة، يأتي على رأسها مصطلحا “صلة الدم” و”وحدة الأرض”، من جهة. ومن جهة أخرى، تفتح العمليات العسكرية الباب أمام وسائل متقدمة لنشر المصالح والنفوذ. تتحقّق القوة في المحصلة كمجموعةٍ من الأدوات الأيديولوجية والتواصلية والاقتصادية. والعناصر المستخدمة في تحقيق ذلك مذهلة، لكنها طيّعة، وتسمى “القيم”.
بعد الحرب الباردة، سيطرت الوسائل الأكثر حداثة على مسارح الأحداث، بصورةٍ شبه تامةٍ، دعونا نطلق عليها تعبير “الهجينة العصرية”، وإن كان غير دقيقٍ. لكن، بصورةٍ عامةٍ، لم تواجه أبداً مقاومةً جديةً، ولاسيما بطريقةٍ مسلحةٍ مباشرةٍ. أمّا في أوكرانيا عام 2022، فنحن أمام الاختبار الحاسم: أي نهجٍ سيفوز؟ بهذا المعنى، فإن أولئك الذين يعتقدون أن العواقب يمكن أن تكون ضخمةً هم على حق.
ربما إن القيادة الروسية، التي اتخذت قراراتٍ صارمةً للغاية، هي على درايةٍ بتلك العواقب، وربما إنها تسعى نحو تلك العواقب بوعي وهي تطوي صفحة التعاون مع الغرب. هذا لا يعني أنها ستعتمد العزلة بدلاً من ذاك التعاون، لكنه يعني بالتأكيد أنها أغلقت مساراً مهماً، وبعثت الحرب الباردة هنا لتبقى. بعد مدة من الزمن، من المحتمل أن تبدأ الاضطرابات التي أحدثتها العملية العسكرية في الانحسار، وسيستأنف بعض التفاعل مع الغرب. لكن الخط رُسم بالفعل، وسيستغرق رفع العقوبات سنوات طويلة، حتى في ظل أي سيناريو ملائم، وستُستعاد العلاقات ببطء وانتقائية.
إن إعادة هيكلة الأولويات الاقتصادية ستتطلب خطة تنمية مغايرة، مع تحفيزات تطال نواحيَ منها، وتثبيطات في نواحٍ أخرى. يتعين أن يعيَ المجتمع الروسي، وخصوصاً القطاعات الأكثر نشاطاً فيه، أنَّ الأمور لن تعود كما كانت من قبل، وأن يدرك أن طريقة الحياة السابقة لم تعد متاحة. لقد قررت “روسيا الحصينة” أن تختبر قوتها بإيثار، وأن تغدوَ، في الوقت نفسه، عامل التغيير الأساسي في العالم كله.
* المصدر : الميادين نت ترجمة: عماد الدين رائف
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع