السياسية – مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي

 

الإسراء معجزة ربانية أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، بعد حصار قريش لبني هاشم في الشعب، وموت الناصر والحامي والذائد الخارجي “أبي طالب” شيخ الأبطح عليه السلام، والونيس والحامي الداخلي “خديجة الكبرى” عليها السلام، ونكبة وصد أهل الطائف، فكان فرج الله وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بها: “لنُرِيَهُ من آياتنا ..” الإسراء/1، ما يثبت قلبه، حتى يتحمل كل ما يلاقيه من سخرية واستهزاء وعذاب قريش.

وهي من الآيات التي أبهرت الكافر والمعاند والزنديق والمنافق، وأظهرت مدى علم الله وضآلة العلوم الحديثة، التي لا زالت تدور في محك بسيط من سماء الله المليئة بالأسرار والعجائب.

إنها رحلة استكشاف للكون، وما في قوله تعالى: “لقد رأى من آيات ربه الكبرى” النجم/ 18، وقوله “لنُرِيَهُ من آياتنا ..” الإسراء/1، من الغموض وعدم الإفصاح وعلامات التعجب والاستفهام عما رآه صلى الله عليه وآله وسلم، من الآيات الكونية الباهرة، ما يكفِ لتبيين أهمية هذه المعجزة الربانية، و”من” في الآيتين تبعيضية، بمعنى بعض آياتنا الكبرى، وليس كلها.

والهدف من هذه الرحلة المباركة عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة بصدر منشرح وقلب متفتّح، قد انعكست فيه آيات العظمة وسبحات الجلال والجمال، وأمّا ما يتخيّله طغام المجبرة والمشبهة من أنّ الهدف من حادثة الإسراء رؤية الله سبحانه، فهو ممّا حاكته يد الدسّ ونسجته أغراض التزوير، بغرض تشويه الإسلام، والانسياق وراء شبهات وهرطقات اليهود الأقتام.

قال ثابت بن دينار: سألت علي بن الحسين عليه السلام عن الله جلّ جلاله هل يُوصف بمكان؟.

فقال: تعالى عن ذلك.

قلنا: فلم أسرى نبيّه إلى السماء؟.

قال: لِيُريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

أسرى الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة المكرمة، محطة الانطلاق، على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، محطة الاستراحة، والصلاة بأرواح الأنبياء إماماً في تلك البقعة الطاهرة، ثم العودة إلى مكة المكرمة في ذات الليلة، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى من سورة الإسراء: “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير”، ابتدأت الآية الشريفة بتنزيه الله والتأكيد على قدرته المطلقة، وفي هذا دلالة واضحة أن انتقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى بيت المقدس كان بالروح والجسد.

وسمّى الله سبحانه وتعالى سورة كاملة باسم هذه المعجزة الربانية للتأكيد على أهميتها، رغم أنه لم يرد فيها سوى آية واحدة تتحدث عن حادثة الإسراء بصورة صريحة وواضحة، ووصفتها بدقة متناهية – عكس حادثة المعراج وما فيها من اختلاف وجدل بين علماء المسلمين، بسبب عدم وجود أية صريحة تتحدث عنها، إنما يرى بعض العلماء أن الحديث عنها أتى ضِمنياً في سورة النجم، في الآية السابعة: “وهو بالأفق الأعلى”، والعلو من الارتفاع، أي الفوق، وتقول صعدت الى الأعلى أي عرجت، والحديث عن جدلية المعراج بحاجة الى بحث مستفيض لسنا بصدده في هذه الفسحة.

قال العلامة أحمد درهم حوريّه: حادثة المِعراج عليها مدارُ كلامٍ بين عُلماء الأمّة، وإنّما ما لا ينبغي الخلافُ عَليه هو حادثة الإسراء إلى المسجد الأقصى، فذلك صريح القرآن.

وقد أجمع علماء المدرستين على صحة معجزة الإسراء، واختلفوا حول الأشياء التي رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلال تلك الرحلة المقدسة، وطريقة الانتقال، وهل كانت بالروح والجسد أم بالروح فقط، والراجح كما هو واضح من منطوق القرآن أنها بالروح والجسد، وهو ما أكسبها أهمية خاصة، وجعلها منطلقاً لمرحلة جديدة في حياة الرسول والدعوة الإسلامية.

وكانت حادثة الإسراء في ليلة 27 رجب الأصب وقيل 17 رمضان وقيل في ربيع الأول، قبل الهجرة بسنة وقيل سنة و3 أشهر وقيل غير ذلك، انطلق رسول الله من دار أم هانئ بنت أبي طالب بجوار المسجد الحرام بمكة المكرمة ليلاً إلى بيت المقدس، مهبط الملائكة ومقر الأنبياء، المباركة أكنافه بالزروع والثمار والأنهار والأمن والخصب، وعاد في ذات الليلة، متعدياً عامل الزمن، وقال بعضهم أنه انطلق من شعب أبي طالب، بمكة، والأصح انطلاقه من بيت أم هانئ.

قال الزمخشري في الكشاف: إنّ تنكير كلمة “ليلاً” في قوله تعالى “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً” للدلالة على أنّه أسرى به صلى الله عليه وآله وسلم بعض الليل من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة.

مقدمات الرحلة:

بعد حصار الشعب وموت خديجة الكبرى وأبو طالب عليهما السلام، اشتدت أذية كفار قريش ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمين في مكة، فقال رسول الله: ما زالت قريش كاعَّة عني حتى مات أبو طالب” – وكاعة تعني رافعة أذاها عني، أي كانت تعمل اعتباراً لأبي طالب، والذي ظل على الدوام الدرع الحامي والواقي لرسول الله من أذى قريش، وبعد وفاته سلام الله عليه، تمادت قريش وتفرعنت، ومارست كل أنواع الإرهاب ضد رسول الله والمسلمين، فقرر النبي الخروج إلى الطائف، لعلهم يستجيبون لدين الله، لكنهم فضلوا السير على نهج عتاولة قريش من الكفر والعتو والنفور.

ولم يكتفِ كفار ومُشركي الطائف بالصد وعدم التجاوب، بل وسلطوا على رسول الله سفهائهم، فرجموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه، فرجع صلى الله عليه وآله وسلم الى مكة، ولم يستطع دخولها إلا بحماية ومجورة “المطعم بن عدي”.

وبهذا ضرب رسول الله أروع الدروس في تاريخ الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، مناجياً ربه ومستمداً منه أسباب النصر والتمكين: “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟، إلى بعيدٍ يتجهمني؟، أم إلى عدوٍ ملّكته أمري؟، إن لم يكن بك علي غضبٌ، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تُنزل بي غضبك، أو تُحِل علي سخطك، لك العقبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله”.

يقول الشيخ “محمد متولي الشعراوي”: دعاء النبي فيه كل مقومات الإيمان واليقين، لأن الله الذي أرسله لن يخذله، وهو أيضاً يشمل أن رسول الله قد استنفذ الأسباب، ولم يجد سوى عدو متملك، وبعيد متجهم، لذا كان لا بد أن تتدخل القدرة الإلهية.

سمع الله ضراعة رسوله، وأراد أن يبين له أن جفاء الأرض، لا يعنِ أن الله قد تخلى عن نبيه، ولكن سيعوضه عن جفاء أهل الأرض بحفاوة الملأ الأعلى، ويُريه من آياته وقدرته وأسراره في الكون، ما يُعطيه طاقة وشُحنة، للاستمرار في الدعوة وإحراز النصر، لأن الله الذي أراه هذه الآيات، قادرٌ على أن ينصره، ولن يتخلَّ عنه، ولكنه ترك له الأسباب أولاً، ليجتهد صلى الله عليه وآله وسلم فيها، حتى يكون أسوة وقدوة لأمته، في ألاّ تدع الأسباب، وتكتفي برفع يدها إلى السماء، انتظاراً للفرج والنصر.

بعد هذه الأحداث الجسيمة من جفوة الأرض لرسول الله، وفقدانه النصير والحامي، أكرم الله نبيه بمعجزة الإسراء، للتخفيف عنه، وتبيين فضله ومنزلته لديه، وطمأنة قلبه، وحتى يثبت له أن في الله عِوضاً عن كل فاقد، وأن الملكوت سيحتفي به حفاوة تمسح عنه كل عناء هذه المتاعب، ويُعطيه شُحنة قوية لتكون أداته في منطلقه الجديد.

الآيات الكبرى:

في هذه الرحلة المقدسة لم يتحدث صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ما رآه، بل عن شيئ يسير فقط، تناقله الرواة، فأضافوا إليه ما خُيِّل لهم أنه صالح لشرح آيات الله التي رآها صلى الله عليه وآله وسلم، بعض هذه الإضافة كان بحسن نية وبعضها كان من دس المنافقين، ليشوشوا علينا أمر ديننا، وليجعلوه مع العقل السليم والفطرة السليمة والسنة السليمة على اختلاف وتناقض، فيتسرب الشك إلى القلوب، ثم الكفر والجحود.

وحسبنا أن القرآن الكريم قد وصفها بـ”الكبرى”، وهذا الإجمال في الوصف لطفٌ من الله لنا، لأن عقولنا أقل من مستوى تلك المعلومات التي اختص الله بها نبيه، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرى إلا ما أذن الله له أن يراه، وقد وصف سبحانه وتعالى محافظة نبيه على حدود اللياقة والأدب وعدم مد النظر إلى ما لم يُأذن له في رؤيته: “ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى” النجم/17 – 18.

قال الإمام زيد بن علي عليه السلام في تفسيرها: ما عدل البصر، وما حار مما رآه من علامات وعجائب الله في الكون.

وفي تفسير الإمام القاسم بن الحسين العياني عليه السلام: ما أخطأ البصر ولا مال، ولم يتعد الى غير الحق، بل أصاب، والآية الكبرى التي رآها النبي هي جبريل عليه السلام، وهو آية عظيمة باهرة منيرة.

وقال الإمام الهادي يحيى بن الحسين والإمام الحسين بن القاسم العياني عليهما السلام: الآيات الكبرى التي رآها رسول الله هي رؤية جبريل عليه السلام في صورة لم يسبق لأحد من الأنبياء رؤيته فيها.

وأضاف الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام: ما زاغ بصر النبي، وما عدل عنه، ولا شبّهه، ولا تخايله، ولا ظنه، بل قد رآه – أي جبريل عليه السلام – بحقائق الرؤية وأبصره، وما طغى رسول الله فيما أخبركم به، ولا دخله في ذلك أشر ولا بغي، بل قد صدقكم عما أبصر ورأى، وقيل ما تجاوز صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه من العجائب التي أُمر برؤيتها، ومُكِّن منها، ويضيف الهادي عليه السلام في توضيح ماهية الآيات الكبرى التي شاهدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: رأى من جبريل عليه السلام آية من آيات الله العظمى لا يشبهها شيئ من الأشياء.

وقال الزمخشري في الكشاف: رأى صلى الله عليه وآله وسلم، جبريل عليه السلام قد سد الأفق بأجنحته – رأى رسول الله جبريل على صورته الأصليّة مرّتين، مرّة في بدء الدعوة ومرّة في الإسراء – ورأى كبرى آيات ربه وعُظمَاها حين عرج إلى السماء، فأُرِي عجائب الملكوت في تلك الليلة.

ولنا أن نتصور ما شئنا من آيات الله الكبرى التي أُطلِع عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكن شريطة أن نعرض ذلك على كتاب الله، فما وافقه فهو الصواب وما خالفه فهو باطل مردود، وليس القصد الإطالة وتصحيح وتنقية ما رُوي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الرحلة العظيمة المباركة، وإنما الوقوف على الحكمة منها.

وقد وجدت قريش في هذه الحادثة التي سمتها “خُرافة”، مرتعاً خِصباً لنشر الأقاويل والأكاذيب والدعايات المُغرضة ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويأبى الله إلا أن يُتِمَ نوره ولو كره الكافرون، وتظهر آيات ذلك في وصفه صلى الله عليه وآله وسلم لبيت المقدس وصفاً دقيقاً كأنه يراه الساعة، وإخباره صلى الله عليه وآله وسلم ببعير لقريش في الطريق، وما شرد منها، وما جرى لماء قافلتهم، ومتى يصلون مكة، ومع ذلك آمن من آمن، وصدّق من صدّق، وكفر المعاند الجهول الغوي.

دلالات نهتدي بها:

حملت معجزة الإسراء العديد من الدلالات والرسائل ليس للنبي فحسب بل وللأمة المحمدية الى قيام الساعة، منها:

1 – تثبيت قلب رسول الله بما رآه من آيات ربه الكبرى، ليزداد هُداً ونوراً وصبراً، على تحمُّل ما لاقاه ويلاقيه بعد موت أبي طالب وخديجة من ضروب الإهانة والسخرية والتعذيب.

2 – إشعار رسول الله وأمته بوحدة الشريعة السماوية المُنزلة عليه والرسل من قبله: “إن الدين عند الله الإسلام” – لنا بحث مطول غير منشور حول واحدية الأديان السماوية وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين، وأن الإسلام والإيمان بمعنى واحد – وأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن أول من تلقَّ الإهانة والتعذيب في سبيل الله، فقد تلقاها من قبله إبراهيم الخليل وموسى الكليم، عليهما السلام، ويشير إلى هذا رحلته صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلد الأنبياء “القدس الجريح”، وتعريجه على طور سيناء جبل الكليم موسى عليه السلام، واتفاقه بأرواح الأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس.

3 – تأكيد الله للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان على ارتباط حرمة الحرم المكي والمسجد الأقصى إلى قيام الساعة، ووجوبية رعاية حرمتهما، ومواجهة كل من يريد بهما شراً، وتأكيد وحدة مسار ومصير المسجدين، وأن ما يقع على أحدهما سيكون له تداعيات كارثية مباشرة على الأخر.

بعد حادثة الإسراء اهتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفتح بيت المقدس، وتجهيز جيشاً لهذه المهمة المقدسة قبل وفاته بقيادة أسامة بن زيد رضي الله عنه 11 هـ / 632 م، لكن وفاته صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين حالت دون إنفاذ جيش أسامة، وبعد وفاة الرسول الأكرم بأربع سنوات 15 هـ / 635م، فتح المسلمون بيت المقدس، وتسلم عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مفاتيح القدس الشريف مباشرة من بطريكها “حفرونيوس”، وتم بناء المسجد الأقصى في البقعة التي صلى فيها، وتحققت أُمنية الرسول الخاتم وتطهر بيت المقدس من رجس ودنس اليهود.

تتابعت الأحداث بعدها، وتمكن اليهود من انتزاع القدس وتهويده وتدنيسه، خلال فترة تمدد الحروب الصليبية في المشرق العربي في العهد الوسيط، لكن المسلمون تمكنوا من استعادته في العام الميلادي 1187، وبقي في حوزتهم حتى نكبة يونيو 1967، ومن يومها والكيان الصهيوني الغاصب لا يدخر وسيلة لتسريع عملية تهويد الأماكن المقدسة في القدس وأكنافه، وتغليب العرق اليهودي، وتحويل القدس إلى عاصمة أبدية لكيانه اللقيط، بمباركة هيئة الأمم ودعم رعاة البقر، وتمويل بِعران العرب.

فهل يُرضِيك يا حبيبي يا رسول الله، ما يجري في مسراك اليوم، بتواطؤ ودعم رعاة المسجد الحرام؟.