الحكومة البريطانية تضخم مخاطر النزاع الروسي – الأوكراني
السياسية:
الأخبار الكاذبة، التضليل المعلوماتي، وحملات التزييف الإعلامي، أو سمها ما شئت. فإن دراسة التضليل الإعلامي أصبحت تجارة رائجة ومنتشرة في مختلف أرجاء العالم الغربي، وهي حالياً تستأثر برساميل كبيرة من التمويل.
إن أنصارها (التضليل الإعلامي) يميلون للانطلاق من خلاصتين، الأولى هي أن العالم منقسم إلى الـ”نحن”، والـ”هم”، الأصدقاء والأعداء، وإن هذا التضليل الإعلامي يصدر دائماً عن الآخرين، “هم”. والثانية، والتي طالما تبرز للعيان حين التحليل الدقيق للخوارزميات من رسائل إلكترونية موجهة وبرامج التضليل المؤتمتة الـbots وغيرها، مفادها الاعتقاد أن الغالبية من إخواننا في البشرية هم أغبياء، ولا يفرقون بين الحقيقة والأكاذيب، ولا بد من تثقيفهم من قبل أولئك المخضرمين المدربين منذ الصغر على التمييز بين الحقيقة وما هو كذب.
كل ذلك لا يساعد، ولكن عندما تكون (المعلومة) خاطئة، أو مضللة أو ــ لا سمح الله ــ تصلكم المعلومات المضللة من جهة تعتبرونها قريبة منكم. وعندما يكون لتلك المعلومة القدرة على تشويه [الحقيقة]، أو حين يكون لها القدرة على التعبئة والتأثير في وضع مضطرب، فإن ذلك يطرح سؤالاً كبيراً على الصحافيين، هل تصدقون ما يقال لكم، وإن كنتم لا تصدقون، ما الذي يمكنكم، وعليكم القيام به حيال ذلك؟
هذا السؤال كان يبدو أكثر إلحاحاً خلال الأسابيع الماضية، لأن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد دق جرس الإنذار الكاذب عن اجتياح روسي “وشيك” لأوكرانيا. إن المعلومات جاءت بنسبة كبيرة من المسؤولين الحكوميين الذين يعتمدون في أغلب الأوقات كما يقولون على أجهزة الاستخبارات. كل ذلك وفر لنا وبالأرقام والمواقع الجغرافية التقريبية لتمركز القوات الروسية، والتوقعات حيال نوايا موسكو والتي غالباً ما بدت بالنسبة إليّ، وفي أفضل الأحوال، بحاجة للتدقيق فيها ولطرح مزيد من الأسئلة، وفي أسوئها كانت خاطئة بالكامل.
فيما يعود إليّ، أنا على موقفي المشكك بحقيقة الخطط الروسية التي تفيد عن نية موسكو الاجتياح، لكن هذا الكلام المضخم، وأياً كانت أسبابه يهدد باندلاع ذلك النزاع تحديداً، ولكن لماذا الآن؟ ولماذا تصدر هذه المخاوف الغربية ــ وكما أرى ــ ولماذا لم يجرِ التصدي لها أكثر مما هو عليه الحال حالياً.
في الأسبوع الماضي ــ ومن خلال فصل كانت له تداعيات في الأوساط الإعلامية ــ إذ فقد صحافي أميركي صبره خلال إيجاز صحافي في وزارة الخارجية وانزلق في أسئلته نحو منطقة خطرة تظهر بالوقائع عملية التلاعب الإعلامي. الناطق باسم الخارجية نيد برايس Ned Price، قام بالحديث عن إمكانية أن تلجأ موسكو لفبركة شريط فيديو لغاية التضليل (البروباغندا) على أن يضمن ذلك صوراً لانفجارت، والتي من شأنها أن تتخذ ذريعة لاجتياح أوكرانيا.
الصحافي في وكالة “أسوشيتد برس” AP ماثيو لي، كرر السؤال عن الأدلة المتوفرة عن تلك المؤامرة، وحين قيل له إن تلك المعلومات جاءت من مصادر استخباراتية أميركية، رد سائلاً، وليس من دون وجه حق، لماذا عليه تصديق تلك المعلومات. وجاءه الرد على مستويين: الأول وهو على الطريقة الأبوية، “لأنني قلت لك ذلك”، والثاني كان يحمل في طياته تهديداً أنه لو قام بالتشكيك بكلمات الناطق الرسمي، فإن معنى ذلك أن الصحافي يتواطأ مع الطرف الآخر. أن يكون ذلك الحوار قد جرى في مؤتمر صحافي رسمي لا يخفف من السوء الذي تخلفه مثل تلك التلميحات بالنسبة للصحافي وسمعته (وهو ما تعرفه الحكومات تحديداً).
وكانت لديّ شخصياً قصتي حين واجهت الأمر نفسه في وزارة خارجية المملكة المتحدة قبل واقعة الصحافي الأميركي بأيام، عندما أدلت وزيرة الخارجية ليز تراس بحديث لبرنامج “اليوم” Today الذي تبثه هيئة الإذاعة البريطانية BBC. وخلال المقابلة، أدلت تراس بثلاثة تصريحات بدت وكأنها تعظم ما كانت الحكومة قد قالته في السابق، لذلك سألت ما هي الأسس التي ارتكزت عليها التأكيدات الجديدة.
فهي كانت قد قالت إن هناك “مئات الآلاف” من الجنود الروس متمركزين على الحدود الأوكرانية (علماً بأن الأرقام التي كانت قد أعلنت حتى ذلك الوقت لم تتخطَ رقم 125 ألفاً). وهي كانت استخدمت تركيبة لغوية وكلمات أوحت وكأن روسيا كانت قد أطلقت عملية تضليل عسكرية false flag، لاستفزاز القوات المسلحة الأوكرانية ودفعها للقيام بالرد [عسكرياً]. البيانات السابقة ــ والتي كانت نسبت أيضاً للاستخبارات ــ قد اقترحت أن تلك المحاولات كانت قيد الإعداد.
يبدو لي أن ذلك نوع من التضليل الإعلامي، سواء أكان من قبيل الصدفة أو مع سبق الإصرار والتصميم، أسهم في تعظيم مستوى التهديد ــ عبر مبالغة حجمه لو أحببتم ــ على نحو يبدو فيه غير مسؤول إلى درجة كبيرة، بالنظر إلى الأجواء المشحونة التي نعيشها في هذا الوقت.
الجواب الذي وردني من وزارة الخارجية البريطانية ــ وبعد بعض المثابرة في تكرار السؤال ــ كان، وكي أكون ألطف، غير مفيد. لقد تم توجيهي لمراجعة بيانات حكومية أخرى (والتي لم تتضمن تلك المبالغات). من المفيد الملاحظة هنا ربما، أنه وفيما لم تصوب الوزيرة تراس ما سبق أن قيل، لم تقم بتكرار ما قالته أبداً.
النقطة التي أحاول الوصول إليها أنه وبوصفي صحافية، فإنه لدي قنوات تسمح لي بطرح هذه الأسئلة. أغلب الناس لا يتوفر لهم ذلك. وبما أنني من المتابعين المخضرمين للشؤون الروسية، فإن لديّ بعض الخبرة أيضاً، وأنا أجيد اللغة الروسية، وربما أنا علم بأي نوع من الأسئلة أقوم بطرحها. فهذا يمكنه أن يكون عاملاً مساعداً، ولكنه من الصعب عموماً على الصحافيين مواجهة المسؤولين الرسميين إذا كان هدفهم استخدام هؤلاء لنقل سردية “مصرح بها” للجمهور، وتحديداً إذا ــ وكما هو الحال بالنسبة للقضية الروسية الأوكرانية ــ كانت تصريحاتهم مدعومة فقد ببعض المعلومات الإستخبارية المختارة. فبأي حق نقوم بالتشكيك بحكمة من ألقيت على عاتقهم وظيفة الحفاظ على أمن وسلامة بلادنا؟
بالنسبة للبعض منا، هناك جواب واحد على هذا السؤال: الفرضية الخاطئة التي دفعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى شن حرب على العراق. في خصوص الولايات المتحدة، لقد حصلت الصحافية من صحيفة “نيويورك تايمز” جوديث ميللر، والحائزة جوائز عدة وهي متخصصة في شؤون الإرهاب والقضايا المماثلة، على إيجاز صحافي خاص جداً بخصوص القدرات العراقية التي كانت قد بررت بقوة ضرورة شن الحرب، وكانت التقارير قد استفادت من مصداقية الخبر الذي كتبته (طبعاً استناداً إلى ذلك الإيجاز الخاص). وعندما تم تكذيب تلك الأنباء بعد ذلك دفعت ميللر نفسها ثمن التسريب، أكثر من “نيويورك تايمز” أو أولئك الذين قاموا بالترويج لتلك المعلومة.
الحكومة البريطانية من ناحيتها أضافت إلى “الملف الملفق” dodgy dossier، وما تلاه من فصول، ما يدعي أن العراق كان – ولا يزال – يملك مخزونات كبيرة من الأسلحة الكيماوية والصواريخ القادرة على ضرب القواعد العسكرية البريطانية في قبرص. هل تتذكرون عنوان صحيفة “الصن” الشعبية (في 25 سبتمبر 2002، وهذا التاريخ سجل لحظة حاسمة في جهود الحكومة البريطانية لإقناع الرأي العام حول ضرورة خوض الحرب)، “البريطانيون هم على مسافة 45 دقيقة من الفناء!”، ذلك العنوان كان لا مناص منه في اللحظة التي أطلع فيها المتحدث الحكومي الصحافة على تفصيل الـ45 دقيقة. والأخصائيون الحكوميون في مجال التواصل (الاستراتيجي) يعلمون ما الذي يثير لعاب الصحافيين عادةً.
أن تقوم بطرح الأسئلة عن مضمون تلك الإيجازات الصحافية، أو أن ترفضها، فمثل هذا النوع من الإيجازات الصحافية هو إشكالي أكثر مما يظهر. فمن الممكن أن يتضمن ذلك إنذاراً حقيقياً، بالتالي ستتأثر مصداقيتك كصحافي، حيث كان يمكن أن تفوز باللقب الشرفي بأنك واحد ممن تسرب لهم المعلومات الحساسة، بالتالي تكون بصدد المخاطرة بخسارة هذا الموقع القريب من دوائر القرار.
أضف إلى ذلك الصعوبة في كيفية إضفاء عامل الشك على ما يصدر عن جهة رسمية. أتذكر كيف كنت أعود بعد مؤتمرات صحافية في وزارة الخارجية البريطانية في فترة الإشكاليات الدولية مع العراق لأخبر رئيس التحرير المسؤول عما قيل لنا من ألف الأمور إلى يائها، ولكنني لم أكن أصدق أي جزء من تلك المعلومات، ولكن لا يمكن لأي رئيس تحرير، أو أنه لا يسعه أن لا ينشر مقالاً يفصل ما جاء في إيجاز الحكومة لذلك اليوم متذرعاً فقط بأن المراسل الصحافي “لم يصدق ما قيل له”.
أحد عوامل الشك يمكن نشره مع وضع المزدوجين حول العبارات، لكن أي مراسل من شأنه تحدي الرواية الحكومية لا بد أن تكون لديه أدلة، وعندما تنقل المصادر الرسمية عن الاستخبارات، فهي في تلك الحالة تضع كلمة المسؤولين الرسميين في مواجهة حكمك كصحافي على الموضوع ــ تماماً كما جرى لمراسل وكالة “أسوشيتد برس” AP.
أن تجد أي مصدر مطلع بما فيه الكفاية ليعارض تفاصيل سرية انتقيت بعناية للكشف عنها أقرب إلى المستحيل في الوقت المتاح، أو في أي وقت آخر. وحتى إن ذلك لطالما كان أمراً محفوفاً بالمخاطر لأي مسؤول يعمل في داخل المؤسسة للحديث عن القضية. فإن ملاحقة [واضطهاد] العالم الحكومي ديفيد كيللي، بعد أن تم الكشف عنه كمصدر الرواية الحكومية لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” وغيرهم، قد يكون مثالاً رادعاً لكثيرين.
المشكلة يمكن لها أن تكون حادة للغاية عندما يتعلق الأمر بالاستخبارات، وهذا الأمر ينطبق على أي موضوع يعتمد على معلومات مصدرها أخصائيون، عندما تحدد الحكومة موقفاً معيناً، وتدافع عنه ولا تقبل الخروج عنه لأي سبب كان. تذكروا كيف كانت الحكومة “معتمدة في قراراتها على العلم” خلال جائحة كورونا. النواب قاموا في وقت لاحق بانتقاد الوزراء لأنهم لم يقوموا بتحدي آراء طبقة العلماء بشكلٍ كافٍ، ولكن كما دافع أولئك الوزراء عن أنفسهم، وكذلك الصحافيون: فإنك في مثل تلك الحالة قائلين: لم نفتقر فحسب إلى الخبرة الكافية لشنّ مقاومة مستندة إلى الوقائع. وحتى أولئك القادرون على التغريد خارج سرب الرواية الحكومية وفي متناولهم تحديها بشكل موضوعي، فإنهم وجدوا أنفسهم، وقد كتمت أصواتهم بذريعة أنها خطر على الصحة العامة.
وأن يكون بعض المنشقين قد وجدوا مواقع لنشر آرائهم في وسائل الإعلام البديلة، ولكن ذلك لم يساعدهم أيضاً، لأنه سمح للمسؤولين الحكوميين وغيرهم من العلماء لنبذهم واعتبارهم دخلاء على العلم، ولم يكن هناك أي أرضية تسمح لهم بمناقشة آرائهم. فنحن نلاحظ حالياً كيف أن الحديث قد بدأ للتو، وبخجل شديد للبحث عن جدوى قرارات الإغلاق وأثرها على الدورة الاقتصادية وتأخير تقديم العناية الطبية اللازمة للمحتاجين [من قبل خدمة الصحة الوطنية].
في المحصلة، فإن الحكومات لديها أفضلية، وليس فقط في الدول الاستبدادية في طرح وجهة نظرها. فمن السهل اعتبار أن الحرب العراقية وبسبب “ملفات تبرير الحرب التي تم التلاعب بها” وتضخيم ما تضمنته من معلومات استخباراتية وما تلاها مجرد كارثة وحيدة لا يمكن أن تتكرر قد أعطت درساً للمسؤولين الحكوميين والصحافيين. ولا يبدو من الواضح بالنسبة لي أنهم، أو أننا تعلمنا ذلك الدرس إذا أخذنا في الاعتبار نواقيس الخطر التي تقرع بخصوص التهديدات الروسية بناءً على أسس مشكوك فيها بوضوح، ولكنها عموماً تبقى معلومات لا يمكن المجادلة فيها.
بقلم : ماري ديجيفسكي ـ كاتبة صحفية
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع اندبندنت عربية ولايعبر عن راي الموقع