السياسية:

تتجه عملية “تاكوبا” الأوروبية، لتلقى نفس الإخفاق الذي واجه عملية برخان التي تقوم بها فرنسا في منطقة الساحل الإفريقي، لكن الأزمة هذه المرة مختلفة، وجاءت بعد سلسلة من تبادل الإهانات بين المجلس العسكري في باماكو من جهة، وفرنسا وحلفائها الأوروبيين من جهة ثانية.

وكانت القطرة التي أفاضت الكأس، مطالبة الحكومة المالية للدانمارك بسحب نحو 100 من جنودها الذين وصلوا إلى البلاد في 18 يناير/كانون الثاني، قبل أن تقرر سحبهم فعلياً في 27 من ذات الشهر، أمام إصرار باماكو على سحبهم على الفور، لأنه تم نشرهم دون موافقتها.

لكن الجيش الدنماركي، نوه في بيان، إلى أنّ إعادة الجنود والعتاد إلى الدنمارك تحتاج “عدة أسابيع”. ما يعني أن الانسحاب لن يكون فورياً.

وعقب قرار سحب الكتيبة الدنماركية، اجتمع وزراء دفاع وجيوش الدول الأوروبية الـ15 المشاركة في عملية “تاكوبا”، في 28 يناير/كانون الثاني، عبر دائرة تلفزيونية مغلقة.

وبحث المجتمعون إنهاء العملية العسكرية للقوات الخاصة الأوروبية في مالي، وبالتالي ترك المجال مفتوحاً لروسيا لملء الفراغ، أو البقاء تحت ضغط المجلس العسكري المالي، الذي يحاول فرض سيادته على البلاد، دون رغبة في عودة قريبة إلى الشرعية الدستورية.

السؤال كان صعباً، إلى درجة لم يخرج قادة الجيوش الأوروبية بأي بيان ختامي، واكتفوا بمنح أنفسهم أسبوعين قبل حسم مسألة انسحاب “تاكوبا” في مالي، حتى لا يكون قرارهم صادراً عن ردة فعل غاضبة من “الإهانة” التي وجهتها لهم الحكومة المالية.

غير أن وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي، خرجت في اليوم التالي، وأعلنت عبر قناة “فرانس إنتر”: “يجب أن نلاحظ أن شروط تدخلنا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً (في مالي)، أصبحت أكثر صعوبة، وباختصار، لا يمكننا البقاء في مالي بأي ثمن”.

وكأن قرار انسحاب قوات “تاكوبا” من مالي أصبح محسوماً ولم يبقَ سوى ضوء أخضر من القادة السياسيين لبدء تنفيذ خطة الانسحاب.

غير أن قوات تاكوبا المنتشرة في منطقة الحدود الثلاثة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ليست بالحجم الكبير، ولا تتجاوز 800 عنصر، نصفهم فرنسيون، بينما كانت باريس تأمل أن ترفع هذا الرقم إلى ألفي عنصر، لتعويض تقليص قواتها من 5100 إلى 2500 وحتى 3 آلاف عنصر.

  

“لعبة قذرة”، بهذه الجملة وصف وزير الخارجية الدانماركي الطلبات المتكررة للسلطات المالية بسحب 100 من الجنود الدنماركيين من بلادهم.

وقال الوزير الدنماركي إنّ “جنرالات الانقلاب أصدروا بياناً واضحاً أكدوا فيه أن الدنمارك غير مرحّب بها في مالي.. ونحن لا نقبل بذلك، ولذا قررنا إعادة جنودنا إلى الوطن”.

وانسحاب الدنمارك من مالي، يعني سقوط حجر كبير في جدار تاكوبا، ما يهدد بانهيار العملية بالكامل، إذ قررت دول أوروبية القيام بنفس الخطوة في إطار التضامن مع كوبنهاغن.

فشعور الدانمارك بالإهانة بعد إصرار الحكومة المالية على ضرورة سحب قواتها التي جاءت دون دعوة، دفعها لوصف المجلس العسكري بـ”جنرالات الانقلاب” للتعبير عن عدم اعترافها بالحكام الجدد لمالي.

لكن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، كان أكثر عنفاً مع قدر ليس بالقليل من الازدراء، عندما تحدث عن “الاندفاع المتهور من قبل المجلس العسكري غير الشرعي الذي يرفض الاقتراع العام”.

هذا ما دفع نظيره المالي عبد الله ديوب، لاستنكار هذه التصريحات “غير المقبولة” عبر قناة “فرانس24″، بنسختها الناطقة بالفرنسية، وطالب “باحترام مالي كدولة”.

يبدي قادة المجلس العسكري المالي، منذ الانقلاب الأول في 2020، انزعاجهم من تجاهل الفرنسيين لسيادة بلادهم، واتخاذ قرارات تخص بلادهم دون التشاور معهم، بينها احتجاجهم مؤخراً على انتهاك طائرة فرنسية مجالهم الجوي.

والأزمة الأخيرة بين مالي والدنمارك، لها علاقة برغبة باماكو في استعادة سيادتها التي أصبحت مستباحة من فرنسا، بحجة مكافحة الإرهاب.

وعبر رئيس الحكومة المالية شوغيل كوكالا مايغا، عن هذه الرغبة، في تصريح صحفي، قائلاً: “لن يأتي أحد إلى مالي بالوكالة بعد الآن. من قَبل، حدث ذلك. اليوم، انتهى الأمر”.

وبهذا الخصوص، أوضح مايغا: “قلنا للدنماركيين: إذا كنتم تريدون القدوم إلى مالي، فهذا التزام بين الدنماركيين والماليين”، متسائلاً: “لماذا يأتون؟ ألا يأتون لتحضير شيء ضد بلدنا؟”.

فباماكو تريد أن تتفق بشكل ثنائي مع الدول المشاركة في عملية تاكوبا، لا أن يتم الأمر ضمن اتفاق جماعي تشرف عليه فرنسا.

لذلك تقدمت الحكومة المالية بمقترحات لمراجعة اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، في 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن باريس ما زالت تتجاهلها لحد الآن.

  إعادة الانتشار

في ظل التهديدات بسحب قوات تاكوبا من مالي، فإن الخيارات المطروحة أمام الأوروبيين تتمثل في سحب كامل قواتهم من المنطقة والعودة بهم إلى الديار مثلما فعلت الدنمارك، خاصة أن عددها قليل، ولم يثبت جدارته في مكافحة الإرهاب.

والخيار الثاني أن يتم الإبقاء على هذه القوات ومضاعفتها، والبحث عن تفاهمات مع المجلس العسكري، ولو بتعديل الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا، والتوقيع على اتفاقيات ثنائية للدول الأوروبية الـ15 مع باماكو، ويعتبر ذلك بمثابة رضوخ لمطالب الحكومة المالية.

أما الخيار الثالث فيتمثل في الانسحاب من مالي وإعادة الانتشار بالنيجر وبوركينا فاسو فقط، لكن وقوع انقلاب في الأخيرة من شأنه إعاقة هذه الخطة، خاصة أن الجماعات المسلحة في منطقة الحدود الثلاثة تتحرك بمرونة؛ ما سيصعب من مهمة مطاردة عناصرها عبر الحدود.

بينما لا تبدو باماكو مهتمة كثيراً بانسحاب فرنسا وقوات تاكوبا المحدودة العدد من بلادها، إذ سبق أن اعتبرت أن باريس تخلت عنها عندما قررت دون تنسيق الانسحاب من 3 مدن في شمال مالي، وتقليص قواتها إلى النصف.

حيث أعلن وزير الخارجية المالي أن بلاده “لا تستبعد أي شيء” في علاقاتها مع فرنسا، لكنه استبعد خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل قائلاً إن هذه المسألة “ليست مطروحة في الوقت الحالي”.

فالمجلس العسكري أصبح أكثر ثقة في تحدي فرنسا وحلفائها الأوربيين مع تلقيه دعماً روسياً بالعتاد، خاصة مع توارد أنباء عن وصول نحو 400 عنصر من شركة فاغنر الروسية إلى مالي وانتشارهم في مناطق متفرقة من البلاد.

ويثير دخول فاغنر الملعب الفرنسي في مالي قلق باريس، حيث علق لودريان، على الأمر، في تصريح له الأحد، بأن فاغنر “تنهب مالي مقابل حماية المجموعة العسكرية” الحاكمة في البلاد.

ومع وجود فاغنر يصعب على باريس الانسحاب من مالي، لكن شركاءها الأوربيين لا يملكون نفس الحماسة والمصالح للبقاء أكثر في ظل عدم رغبة الحكومة المحلية في استباحة سيادتها دون أن يكون لها الحق في ضبط التواجد العسكري الأجنبي على أراضيها.

عربي بوست