السياسية:

مركز البحوث والمعلومات

بعد أشهر من هرولة عدد من الأنظمة العربية إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، بدا واضحاً أن ذلك التوجه لم يكن سببه تصاعد الضغوط الدولية أو أن هدفه خدمة القضية الفلسطينية والوصول إلى سلام عادل وشامل، كما كانت تدعي، ولكنه تطبيع مقصود وممنهج من قبل الأنظمة الحاكمة في كلاً من الإمارات والبحرين في سبيل خدمة مصالحهم الخاصة.

ومع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر مايو الماضي، لم يكن مفاجئ أن تتخلى بعض الأنظمة على ورقة التوت التي كانت تخفي سواءتها، تجاه فلسطين وشعبها الصابر، فبعد أن كان التضامن الإعلامي أكثر ما يمكن سماعه من قبل تلك الأنظمة تجاه الشعب الفلسطيني مع كل اعتداء صهيوني، إلا أن ذلك التضامن الهزيل لم يعد موجود خلال السنوات الأخيرة.

وهذا ما بدا واضحاً من خلال التصريحات الرسمية أو التغطية الإعلامية التابعة لتلك الأنظمة، التي سعت إلى إظهار الأحداث للمواطن العربي، وكأنها صراع بين القوات الإسرائيلية من جهة والجماعات الفلسطينية في قطاع غزة من الجهة المقابلة، هذا التحول في مواقف كلاً من أبوظبي والمنامة “على سبيل المثال” كشف أن التطبيع ما كان إلا تدشين فعلي للتحالف مع الكيان الصهيوني في المنطقة بصورة علنية، وفي مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية، وفي تجاوز واضح للمأسي التي ارتكبها العدوان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني طوال عقود وأخرها الحرب على قطاع عزة، التي أدت إلى استشهاد ما يقارب 254 فلسطينيا منهم 66 طفلا وحوالي الفان مصاب، والحاق الضرر بالمئات من المساكن والأبراج والمنشئات الاقتصادية في القطاع.

ذلك السقوط لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه تعاظم بعد أيام قليلة من وقف العدوان على قطاع غزة، وتبين ذلك السقوط من خلال الحرص الرسمي في الإمارات والبحرين، على الاحتفال والتضامن مع الضحايا اليهود في ما يسمى “الهولوكوست” وفي هذا السياق دون وزير خارجية الإمارات، عبدالله بن زايد، في سجل النصب التذكاري لضحايا ما يسمى “الهولوكوست” في ألمانيا، الذي زاره برفقة وزير الخارجية الإسرائيلي “غابي أشكينازي” حيث كتب “فخور بزيارتي اليوم للنصب التذكاري لضحايا اليهود في أوروبا المعروف باسم النصب التذكاري للهولوكوست، ذلك المكان الذي يخلد سقوط كوكبة من بني البشر ضحايا لدعاة التطرف والكراهية” مؤكداً في كلمته” إن الهولوكوست لن يحدث مطلقاً مرة أخرى، وأن ذلك المكان “يؤكد على قيم إنسانية نبيلة تدعو إلى التعايش والتسامح وقبول الآخر واحترام الأديان والمعتقدات كافة، تلك القيم التي تأسست عليها بلادي وستظل دائما محركا رئيسيا لمسيرتها التنموية”.

وعلى ذات الخطى بعثت سفارة الإمارات في دولة الاحتلال بتعازيها الحارة لعائلات ضحايا “الهولوكوست” وأشارت السفارة انهم “راحوا ضحية التطرف والكراهية والتمييز، وان المحبة والتعايش والصبر هي من القيم الأساسية التي تحتاج اليها الإنسانية من اجل ضمان السلام لابد الابدين”.

جدير بالذكر أن ما يسمى “الهولوكوست” أو المحرقة اليهودية في عهد النازية، تشير إلى اضطهاد اليهود من قبل الزعيم الالماني “أدولف هتلر”، خلال الحرب العالمية الثانية “1939-1945″، ولم يعد خافياً أن إسرائيل تهدف من إحياء فعاليات ذكرى قتلى المحرقة اليهودية، التي يزعم وقوعها في معسكرات الاعتقال التابعة لألمانيا، من أجل تحقيق الاستغلال الامثل للمناسبة وابتزاز العالم عموماً والغربي “على وجه التحديد” في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والمالية، هذا من جهة ، ومن الجهة الأخرى، التغطية على عدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

مسلسل السقوط لم يتوقف عند وزير الخارجية الإماراتي، ولكنه امتد ليشمل رأس النظام البحريني وملكه، حمد بن عيسى آل خليفه، الذي أكد على دعمه ودعم بلاده للمشاريع الهادفة إلى مواجهة نفوذ منكري محرقة الهولوكوست لدى العرب والمسلمين، من خلال “دعم البحرين للدور الذي تضطلع به منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، والتي تشرف على مشروع علاء الدين”.

وتجسد الدعم البحريني عندما استقبل الملك في نوفمبر الماضي، وفد مشروع “علاء الدين” الهادف لتعريف العرب والمسلمين بالمحرقة “الهولوكوست”، وذلك برئاسة مؤسسة البارون أريك دي روتشيلد، ورئيسة المشروع الدكتورة ليا بيسار، وسفير فرنسا لدى المملكة جيروم كوشار، يشار إلى أن مشروع علاء الدين، أطلق “حسب زعم القائمين عليه” من أجل تعريف العرب والمسلمين بحقائق المحرقة “الهولوكوست” ومواجهة منكري حجم المأساة.

دعم البحرين لمزاعم “الهولوكوست” لم يقف عند حدود الملك ولكنه شمل وزير خارجيته، عبداللطيف الزياني، الذي أكد في رسالة إلى نظيره الاسرائيلي “غابي ‏أشكنازي” بمناسبة اليوم العالمي لإحياء ذكرى ما يسمى “الهولوكوست” الذي يصادف السابع والعشرين من شهر يناير ‏‏بقوله “إن ‏مملكة البحرين تنعي ملايين الضحايا الذين قتلوا في الجريمة البشعة ضد الإنسانية وتتضامن ‏مع ‏الناجين وأسرهم”، وأضاف الزياني “أنه لا مجال لمعاداة السامية والعنصرية والتطرف، فقط السلام والمحبة”. ‏

السباق المحموم على التطبيع مع إسرائيل لم يتوقف لدى الشخصيات الرسمية في البحرين ولكنه تمدد ليشمل وزير خارجية البحرين السابق، خالد آل خليفة، الذي أعلن في رسالة، تضامنه مع اليهود، فيما عرف بالمحرقة التي ارتكبتها ألمانيا النازية، بحقهم خلال الحرب العالمية الثانية.. وأعاد الوزير السابق التغريد على حسابه في “تويتر” تغريدة لوزير الخارجية الإماراتي، عبدالله آل نهيان، قال فيها إن بلاده في ذكرى الهولوكوست “تقف مع الإنسانية في رفضها للعنصرية والكراهية والتطرف”، وعلق الوزير السابق على التغريدة السابقة بالقول “نعم إنها مسألة إنسانية، والضحايا بشر أبرياء”!!.

حالة التدافع المكشوف من قبل النظامين الإماراتي والبحريني تجاه إحياء ما يسمى “الهولوكوست” جاء بعد أشهر من توقيع البلدان على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل “إبراهيم”، هذا التدافع المقصود فتح الباب أمام الشخصيات والمنظمات المدنية الموالية للنظامين إلى الترويج أن هناك قبول شعبي في كلا البلدان بمسار التطبيع المعلن، وفي هذا الإطار أبزرت وسائل الاعلام الإماراتية، افتتاح متحفاً في إمارة دبي الإمارتية تحت عنوان “متحف معبر الحضارات”، كأول معرض دائم يهدف إلى إحياء ذكرى “الهولوكوست” في شبه الجزيرة العربية، وقال مؤسس المتحف، أحمد المنصوري، “نحن جميعاً قلقون بشأن تصاعد معاداة السامية في أوروبا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة”، وأضاف المنصوري “بصفتنا مؤسسة ثقافية رائدة في الإمارات، من المهم جداً بالنسبة إلينا أن نركز على تثقيف الناس بشأن مآسي الهولوكوست، لأن التعليم هو الترياق للشفاء من الجهل، ومن خلال تعليم زوارنا وإبلاغهم عن الهولوكوست، سنخلق مزيداً من الوعي بشأن الخطر الذي يمكن أن يؤدي إليه هذا الخطاب السلبي والأفعال الناتجة منه”!!.

وفي سياق التطبيع الممنهج “كما ذكرنا” سمح النظام البحريني وفي بادرة هي الأولى على أحياء الجالية اليهودية في البحرين ذكرى “الهولوكوست”، في حفل أقامه كنيس “بيت الوصايا العشر” في العاصمة المنامة، في إطار دعم الملك لما يسمى “مشروع علاء الدين” الهادف لتعريف العرب والمسلمين بالمحرقة التي تعرض لها اليهود.

ولم يكن التضامن من قبل النظام الإماراتي في ما يسمى “الهولوكوست” وليد التطبيع الرسمي فقد سبقه عدد من الخطوات في هذا المسار، ولنا أن نًذكر بقرار رئيس دولة الإمارات في اغسطس 2003 الذي قضي بإغلاق “مركز زايد الدولي للتنسيق والمتابعة” الذي اقيم في العام 1999 في دولة الإمارات، بقرار من الجامعة العربية لتعزيز العمل العربي المشترك، وجاء في بيان الاغلاق “عندما علم الشيخ زايد ان مركز زايد الدولي للتنسيق والمتابعة انخرط في مسيرة تتناقض مع مبادىء التعايش بين الأديان أصدر توجيهاته لاغلاق المركز بصورة فورية”.

وجاء قرار الاغلاق “حسب العديد من المراقبين” بعد اتهامات بشان نشاطات المركز المعادي للأمريكان وللسامية، وحسب تلك المزاعم، فإن المركز استضاف باحثين يسعون إلى الترويج أن “اليهود بآلتهم الإعلامية استخدموا الهولوكوست لزرع الحقد ضد غير اليهود وتغطية المجازر التي يرتكبها الاسرائيليون”، وعلى الرغم من أن قرار الاغلاق أراد توجيه الانظار إلى أن نشاطات المركز المناقضة والمعارضة لمبادئ التعايش كانت السبب في ذلك القرار، إلا أن الواقع يشير إلى أن السياسة الخارجية للإمارات في تلك المرحلة وما اعقبها كشف أن قرار الاغلاق لم يكن سوى خطوة في مسار التقرب من إسرائيل الذي انتهى بالتطبيع المعلن دون مراعاة للحقوق العربية المصادرة والمنهوبة منذ عقود طويلة.

ختاماً، لا بد من التأكيد أن ما حدث خلال المراحل السابقة من قبل النظام الإماراتي والبحريني ليس سوى امتداد لحالة السقوط المستمر للأنظمة العربية تجاه قضية الشعب الفلسطيني العادلة، التي شهد على عدالتها العالم أجمع، وبالتالي فإن التقرب ومحاولة التماهي مع الصهاينة من خلال إحياء ذكرى المحرقة “الهولوكوست” ليس إلا إعلان واضح عن التخلي التام عن دعم الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه التاريخية من الكيان الصهيوني.

  • سبأ