السياسية – متابعات :

حملت التصريحات المتعلقة بالمفاوضات النووية في فيينا، خلال الأشهر الماضية، كثيراً من التفاؤل باقتراب المباحثات بين إيران ومجموعة (4+1) من خواتيمها المثمرة، لكنِ انقضت عدّة جولات من المفاوضات، وجاءت حكومات وحُلّت أخرى، من دون رؤية الدخان الأبيض يتصاعد من غرف فيينا المغلَقة.

فيما يلي نعرض بعض العقبات أمام إبرام الاتفاق بين أميركا وإيران والدول الكبرى، وهي عقبات قد تُذَلَّل في الأسابيع المقبلة، أو قد تساهم في إفشال كل الجهود المبذولة حتى الآن.

1- معارضة في الكونغرس
ما زالت سياسة “الضغوط القصوى”، التي كرّسها الرئيس السابق دونالد ترامب، عقب انسحابه من الاتفاق النووي عام 2018، تلقى قَبولاً عند الساسة الأميركيين، على الرغم من فشلها في تحقيق أهدافها، وإرغام إيران على الموافقة على ما عُرف بـ”اتفاق ترامب”، أو، على الأقل، القبول بالتفاوض بشأن اتفاق جديد، يعود بمكاسب أقل على طهران.

لذلك، سيتوجّب على جو بايدن التعامل مع هذه المعارضة التي يترأّسها صقور الجمهوريين في الكونغرس، كرون جونسون ومايكل ماكول، اللذين يطالبان وزملاءَهما الإدارةَ الأميركية بالحصول على موافقة الكونغرس على إبرام ما يجري الاتفاق عليه في فيينا، وهو أمر لن يؤدي إلى نتائج مهمة، نظراً إلى سيطرة الديمقراطيين على الكونغرس، لكنه يساهم في تعكير صفو المفاوضات، وإضافة تعقيدات جديدة، فضلاً عن الموجودة أصلاً.

وكانت صحيفة “بوليتيكو” الأميركية أضاءت على المساعي الجمهورية لـ”خنق أيّ عودة يقودها بايدن إلى الاتفاق الإيراني”، متذرِّعين بالرغبة في التوصل إلى اتفاق يسمح بـ”تقليص نفوذ إيران” في المنطقة، والحد من برامجها العسكرية، بالاعتماد على النفوذ الذي أتاحته العقوبات الأميركية على طهران.

يستند الجمهوريون، في سجالهم، من أجل استدراج إدارة بايدن إلى الكونغرس، إلى “قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني”، الصادر عام 2015، بدعم من الحزبين، والذي ينص على إحالة أيّ “اتفاق جديد” يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني على الكونغرس لمراجعته خلال مدة قدرها شهران، وليكون له الحق في رفضها ومنع دخول الصفقة حيزَ التنفيذ.

قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015، قدَّمت إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما خطة العمل الشاملة والمشتركة إلى الكونغرس، إلى جانب التقييمات والشهادات المطلوبة، في امتثال للقانون. وعليه، حظي الكونغرس بفرصة مراجعة الاتفاق، والاستماع إلى مسؤولي الإدارة وشهود آخرين، وإجراء مشاورات مع السلطة التنفيذية. وبموجب هذه المباحثات، جرى تمرير الاتفاق، وعُمل به حتى انسحاب واشنطن الأحادي منه.

لكنّ الأمر لم يُحسَم إلى الآن: هل تنتهي مفاوضات فيينا باتفاق جديد بين إيران وأميركا والدول الضامنة، أم فقط بـ”العودة” إلى الاتفاق السابق، مع إحداث بعض التغييرات؟ الواضح أن الأمور لا تقترب من اتفاق جديد ـ في ظل رفض طهران أيَّ تفاوض جديد تحت الضغط والعقاب -، وإنما من إعادة إحياء اتفاق عام 2015.

2- ضغوط إسرائيلية للتعطيل
“إسرائيل ستقوم بعمل كل شيء ممكن لمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية”، هذا ما صرّح به وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي يائير لابيد بعد يومين من نيل حكومته الثقة. يعلم لابيد أن المطلب الإسرائيلي تخطى دائماً هذه الحدود، وأن الإسرائيليين لم يَرْضَوا يوماً بضمانات عدم حيازة إيران السلاح النووي (فاتفاق عام 2015 كان يضمن ذلك)، وإنما يريدون إدراج عناوين أُخرى تتعلق بالبرامج العسكرية والصاروخية لإيران، وبدور الأخيرة وحلفائها في المنطقة، وبالتالي تجميد تهديدات حرس الثورة الإيراني وفصائل المقاومة في الإقليم، جنباً إلى جنبِ تجميدِ المشروع النووي الإيراني عند مستوى محدَّد.

كان رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، أحد أبرز معارضي الاتفاق الدولي مع إيران عام 2015، بل هاجمه في خطاب أمام الكونغرس الأميركي، خارجاً بذلك عن الأعراف الدبلوماسية، ومتسبباً بتوترات بين إدارته وإدارة الرئيس أوباما. رأى نتنياهو آنذاك أن الاتفاق يُنذر بخطرين: السماح لإيران بالتسلح بأسلحة نووية خلال 10 أو 15 عاماً، حتى لو التزمت الاتفاقَ، وضخ مليارات الدولارات لما وصفه بـ”الإرهاب الإيراني وآلة الحرب التي تهدّد إسرائيل والعالم بأكمله”.

بلغ أَوْجُ إصرار “إسرائيل” على التعاطي مع الملف النووي الإيراني، وفق استراتيجية متمايزة عن صديقتها واشنطن، في تصريحات نتنياهو، مطلع حزيران/يونيو الماضي، والتي حذّرت من وضع “إسرائيل” في موقع المفاضَلة بين “الصديقة العزيزة للولايات المتحدة وإزالةِ تهديدها الوجودي، لأن إزالة التهديد ستتغلّب”.

التصريحات الإسرائيلية تُرجمت عملياً من خلال مجموعة عمليات أمنية في الداخل الإيراني، أو عَبْرَ استهداف أسطول السفن الإيرانية غير العسكرية في البحر الأحمر. وكان من أهم هذه العمليات اغتيال العالِم الإيراني محسن فخري زاده، الذي كان يرأس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية. وهو اغتيال أشارت طهران إلى امتلاكها “أدلةً جادة” على ضلوع “إسرائيل” فيه، ووُصف بأنه بداية لمرحلة جديدة تخلّت فيها إيران عن بعض التزاماتها النووية، وبدأت فيها رفعَ نسبة التخصيب إلى 20%، واستخدامَ أجهزة طرد أكثر تطوراً.

حاولت “إسرائيل” التأثير في مسار المفاوضات الإيرانية مع مجموعة (4+1) في فيينا، وبدأت محاولانها في نيسان/أبريل الماضي، فأرسلت إلى واشنطن وفداً أمنياً رفيع المستوى، ضمّ مستشار الأمن القومي ومدير الموساد السابقَين، واللذين التقيا كبار المسؤولين الأميركيين، الذينَ أطلعوهما على سير المفاوضات مع إيران، وكرروا على مسامعهما التزام واشنطن حمايةَ أمن “إسرائيل”، من دون أن يحقق الوفد الإسرائيلي أيَّ خرق جديد يتمثّل بانتزاع شروط من إيران تضمن الحد من نشاطاتها الإقليمية المهدِّدة لـ”إسرائيل”.

حكومة نفتالي بينيت ويائير لابيد هي الأخرى متمسكة بالحدّ من قدرة إيران، عسكرياً ونووياً، بل إنها تتّهم بنيامين نتنياهو بالتسبب بتقدم البرنامج النووي الإيراني نحو حيازة طهران قنبلةً نووية، وتلومه على تفضيله “إلقاء خطابات بمساعدة أوراق بريستول، والقيام بعروض علاقات عامة، بدلاً من دفع أعمال حيوية”، وفق ما قال مكتب بينيت سابقاً.

الحكومة الجديدة، بخلاف حكومة نتنياهو، خفّفت من التصعيد الكلامي تجاه الاتفاق النووي، وبدأت البحثَ عن وسائل أخرى قد تؤدّي إلى تعطيل الاتفاق النووي، أو “تفجيره”، في حال إقراره، وهذا ما أشار إليه الصحافي الإسرائيلي، رون بن يشاي، الذي تحدّث عن استعدادات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لاحتمال مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في المستقبل القريب، وذلك باستخدام “أساليب هجوم متعددة”. لكن ذلك لا يعني أن “إسرائيل” ستنجح في وقف برنامج إيران، أو تعطيل فرص الوصول إلى اتفاق.

3- “اتفاق نووي” وقضايا غير نووية
طرحت واشنطن، منذ البداية، مشروعها لعقد اتفاق مع إيران يشمل حلفاءها والسياسات ذات الصلة في الشرق الأوسط، إلا أن طهران رفضت التفاوض بشان أيّ أمر مستحدَث، قبل رفع كامل العقوبات عنها، وتعويضها عن خسائرها التي لحقت بها جرّاء العزلة.

تريد إدراة بايدن أن يكون الاتفاق الجديد تثبيتاً لمرحلة جديدة هادئة نسبياً مع إيران، ومُطَمْئِناً للحلفاء في الشرق الأوسط، الذين لاموا إدارة باراك أوباما بسبب حرمانهم من ثمار الاتفاق، وهي، بشكل أو بآخر، تريد أن تحقّق نتائج أقرب إلى “انتصار دبلوماسي” على طهران، يمنحها مزيداً من الثقة في المنطقة.

هذا بالتحديد ما جعل مهمة الوصول إلى اتفاق مُرضٍ شاقةً، وأدى إلى فشل تحقُّقه خلال الجولات الـ6 الماضية، بل ربما يُؤْذِن بفشله مطلقاً إذا أصرّت واشنطن على اقتران المباحثات بشان النووي بقائمة كبيرة من المطالب الأخرى.

مندوب إيران لدى المنظمات الدولية في فيينا، كاظم غريب آبادي، تحدّث، يوم الخميس الماضي، عن بعض الأسباب التي عرقلت الوصول الى الاتفاق في مفاوضات فيينا الأخيرة. واحدٌ من أهم هذه الأسباب، كما يوضح آبادي، هو “ربط كل التفاهم بقبول بند بشأن المفاوضات المستقبلية فيما يتعلّق بالقضايا الإقليمية”، الأمر الذي يوضح تمسك الولايات المتحدة بمبدأ “كل شيء أو لاشيء”، واستعدادها لإطاحة المفاوضات النووية التي اقتربت من نهايتها، إن لم تشكّل مدخلاً لتفاهمات بشأن مسائل إقليمية أخرى.

4- إيران قد لا تظلّ متمسكة بالتفاوض
كان انسحاب أميركا من الاتفاق النووي عام 2018 حدثاً مؤسفاً للساسة الإيرانيين، الذين راهنوا على اندماج بلادهم في السوق الاقتصادية العالمية، وعودة الاستثمارات على وقع التطمينات التي حملها الاتفاق الدولي. وفعلاً، تسبّبت العقوبات، التي طالت مئات الشركات والمصارف والجهات، بانكماش اقتصاد البلاد باطّراد، بدءاً بعام 2017 (بعد نموّ كبير بلغ 12.5% عام 2016)، حتى بلوغ معدل الانكماش 4.99% عام 2020.

تحتاج إيران، بلا شك، إلى الأموال التي يؤمّنها رفع الحظر عن مدّخراتها البنكية وعودة صفقاتها التجارية مع دول العالم، فضلاً عن فتح باب الاستثمار والتعاون الاقتصاديَّين مع القطاعات الخاصة. ووفق معهد التمويل الدولي (IIF)، سيساهم الاتفاق النووي المرتقب في نمو الاقتصاد بنسبة 4.4% هذا العام، وبنسبة 6.9% عام 2022، و6% عام 2023.

كما أن حكومة الرئيس المنتخَب إبراهيم رئيسي ستكون في حاجة إلى ثمار الاتفاق النووي من أجل تحقيق ما وعد به خلال الحملة الانتخابية، من تأمين فرص عمل للشباب، وحل مشكلة السكن، ومشكلة الفوارق الطبقية بين المواطنين. ولهذا، فإن حكومة رئيسي ستكون معنية بمواصلة التفاوض مع واشنطن من أجل الوصول إلى نتائج مُرضية.

إلاّ أن القيادات الإيرانية بدأت ترسل رسائل متبرِّمة من المماطلة الأميركية في حسم خياراتها، منتقدةً، عبر رأس سلطاتها، السيدِ علي خامنئي، المراهنةَ على المفاوضات مع الغرب، والتي “لم تحقّق أيَّ تقدم”، وخصوصاً أن “الغربيين والأميركيين يتصرّفون بغدر وخبث في مفاوضاتهم”.

السيد خامنئي اعتبر، في وقت سابق، أن طُول المفاوضات سيكون “مُضراً بالبلاد”، وهو الأمر الذي كرره مسؤولون إيرانيون، مؤشّرين على ضرورة الإسراع في حسم مسار المفاوضات. لكن الأهم من أمد المفاوضات، أن إيران تبدو متخوفة من إصرار واشنطن على تجنّب تعهدها عدمَ الانسحاب مرةً جديدة من الاتفاق. وهو ما يُنذر بتضييع مزيد من فرص التركيز على الخيارات البديلة عن الغرب، والتي دعا السيد خامنئي مراراً إلى عدم تفويتها.

* المصدر : الميادين نت