السياسية:

أورد موقع Politico الأمريكي الأسبوع الماضي خبراً عن إبحار سفينتين حربيتين إيرانيتين متجهتين، على ما يبدو، إلى المحيط الأطلسي. وتعليقاً على ذلك، أعرب مسؤولون بوكالة الأمن القومي الأمريكي عن قلقهم من أن تكون هذه السفن متجهةً إلى فنزويلا بشحنات تنتهك العقوبات الأمريكية المفروضة على كاراكاس.

وبالفعل، دعا السيناتور الأمريكي ماركو روبيو الإدارة الأمريكية إلى منع وصول هذه السفن إلى وجهتها، لكن واقع الأمر أن أي إجراء أمريكي ضد هذه السفن سيكون غير قانوني، وينتهك أحد المبادئ الأساسية للنظام الدولي، وهو “الحصانة السيادية”. ومن ثم فإن تكاليف أي تحرك مباشر ضد هذه السفن ستكون باهظة، وتستدعي اتهام الولايات المتحدة بالنفاق حيال النظام القائم على القواعد، وربما تعريض السفن البحرية الأمريكية لخطر معاملة مماثلة من خصوم الولايات المتحدة، كما يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.

يمكن لإيران أن تنقل أي شيء عبر هذه السفن بموجب هذا المبدأ

وتنامت علاقات وثيقة بين كراكاس وطهران خلال العقد الماضي، إذ وجدت كل دولة منهما سبيلاً في الأخرى لأن تكون صمام أمان لها من العقوبات الأمريكية. وكان الحفاظ على تجارة النفط ذا أهمية خاصة لكلا البلدين، فقد عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، في السنوات الأخيرة، إلى اعتراض العديد من سفن الشحن تحت دعوى الاشتباه في نقلها نفطاً إيرانياً بالمخالفة للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لكن هذه المرة مختلفة، فالسفن التي تنقل الشحنات هذه المرة سفن حربية إيرانية، وبموجب القانون الدولي يمكن لإيران أن تنقل أي شيء عبر هذه السفن، وأن تتحدى الولايات المتحدة بأنها “لا يُمكنها المساس بها”.

يرجع ذلك إلى أن “قانون البحار الدولي”، العرفي والتقليدي، يمنح السفن الحربية والسفن الحكومية الأخرى حصانةً سيادية. وفي أوقات السلم، فإن الحصانة السيادية هي أشبه عملياً بحصن وقاية ضد الولاية القضائية لأي دولة أجنبية. وفي حين أن ذلك قد يشمل استثناءات في ظروف قصوى محددة، مثل التعامل مع الدول الفاشلة أو السفن الحربية المزيفة أو التي تنقل أسلحة دمار شامل، إلا أن الحالة التي نحن بصددها لا تنطوي على أي من ذلك، فهي نموذج تنطبق عليه مباشرة محاذير التعرض بموجب قوانين البحار الدولية.

تعرِّف اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) السفن الحربية على أنها سفن “تابعة للقوات المسلحة الخاصة بإحدى الدول” تحت قيادة ضابط في قائمة الخدمة العسكرية للدولة، ويُديرها طاقم في حالة جيدة. وفي هذه الحالة، فإن كلاً من السفينتين الإيرانيتين: الفرقاطة التي لم يذكر اسمها والسفينة “ناوبندر مكران” (IRINS Makran 441)، تتوافقان بوضوح مع تعريف السفينة الحربية المحمية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للبحار.

ما هو مبدأ “الحصانة السيادية”؟

من جهة أخرى، فإن اتفاقية الأمم المتحدة، التي تعتقد الولايات المتحدة أنها تشير إلى القانون العرفي الدولي، تنص صراحةً على بعض قوةِ الحصانة السيادية. وفي أعالي البحار، فإن الحصانة السيادية مطلقة. وتنص المادة 95 صراحةً على ما يلي: “تتمتع السفن الحربية في أعالي البحار بحصانةٍ كاملة من الولاية القضائية لأي دولة غير دولة العلم [المحمول على السفينة]”. وتنص المادة 96 على نفس الحصانة المطلقة للسفن المملوكة للحكومات أو التي تُديرها في أعالي البحار. كما ينطبق هذا الحق أيضاً في المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ)، إذ لا يوجد في هذا القسم ما يستدعي إبطال العمل بهذه الأحكام.

وحتى في البحار الإقليمية، تظل الحصانة السيادية حماية قوية، إذ تتمتع السفن الحربية بحق المرور دون مساس في البحار الإقليمية الأجنبية. ويجوز للدولة الساحلية أن تضع قواعد للسلامة الملاحية، لكنها ليس لديها في الأساس سلطة فرضِ هذه اللوائح على السفن الحربية الأجنبية التي تنتهك أنظمة التزام الفواصل الخاصة بحركة مرور السفن أو ما شابه ذلك. وما دامت السفينة الحربية تتخذ مساراً سلمياً، ولا تهدد الدولة الساحلية، فإن أقصى ما يمكن للدولة الساحلية فعله حيالها هو أن تأمرها بمغادرة بحرها الإقليمي. أما المنع أو الاحتجاز فهي أمور غير واردة ما لم تهدد السفينة الحربية الدولةَ الساحلية، فعندها فقط يُسمح للدولة الساحلية باتخاذ ما تراه من تحركات للدفاع عن نفسها.

ولا تختلف المياه الداخلية، مثل الموانئ، اختلافاً جوهرياً عن ذلك. تحتاج السفينة الحربية بالطبع إلى إذن الدولة الساحلية لدخول مياهها الداخلية. ومع ذلك، حتى هنا، حيث تتمتع الدولة الساحلية بسلطاتها الأكبر، تحتفظ الحصانة السيادية الخاصة بالسفينة بسلطتها بموجب القانون الدولي العرفي المقبول على نطاق واسع. وهو ما شدَّدت عليه “المحكمة الدولية لقانون البحار” (ITLOS) في قضية السفينة “إيه آر إيه ليبرتاد” ARA Libertad لعام 2012. 

والسفينة ليبرتاد هي سفينة أرجنتينية احتُجزت في ميناء “تيما”، بدولة غانا، في أواخر عام 2012، وذلك بموجب حكمٍ لمحكمة أمريكية يتعلق بديون سيادية أرجنتينية غير مسددة، استندت إليه المحاكم الغانية في حكمها باحتجاز السفينة في الميناء، كما حاولت السلطات الغانية الصعودَ على متن السفينة. لكن في ديسمبر/كانون الأول 2012، أمر قضاة المحكمة الدولية لقانون البحار بالإجماع بالإفراج فوراً عن السفينة الأرجنتينية، مستندين في ذلك إلى أن “السفينة الحربية تحوز سيادة” دولة العلم الذي ترفعه، و”وفقاً للقانون الدولي العام، تتمتع السفينة الحربية بالحصانة، حتى في المياه الداخلية للدول الأخرى”.

وبعد أن أجرى قضاة المحكمة الدولية لقانون البحار استقصاء دقيقاً لكل من القوانين المتعلقة بالمياه الداخلية والسفن الحربية الأجنبية قبل إقرار اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ونصّ هذه الاتفاقية نفسها، خلصوا في النهاية إلى أن “السفن الحربية في المياه الداخلية تتمتع بالحصانة من الخضوع للولاية القضائية للدولة الساحلية، ويشمل ذلك الحصانة من الإجراءات القضائية أو أي تدابير متعلقة بتنفيذ أحكام، و[أن] ذلك راسخ في القانون الدولي العرفي”.

بناء على ذلك، لا يتغير شيء حتى لو تيقن المسؤولون الأمريكيون من أن السفن الإيرانية كانت تحمل أسلحة تنتهك العقوبات الأمريكية على كاركاس. أما فيما يتعلق بالعقوبات التي أقرها مجلس الأمن الدولي على كوريا الشمالية، فإن هذه العقوبات ربما تنطوي على أقوى نظام للعقوبات للمواد المحمولة على متن السفن، وقد حظي بدعم من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن (حتى وإن كان تطبيق الصين لها متقاعساً). وعلى الرغم من الصمت حيال السفن المحصَّنة ذات السيادة، فإن أحدث قرار صدر في عام 2017 سمح للدول الأعضاء بـ”مصادرة وتفتيش واحتجاز أي سفينة خاضعة لولايتها القضائية في مياهها الإقليمية”. وذلك بعيداً عن السفن الحربية، التي ينص القانون الدولي العرفي على أنها لا تخضع أبداً في وقت السلم للولاية القضائية لأي دولة أجنبية.

أشد عقوبات الأمم المتحدة صرامةً ليس لها ولاية على السفن الحربية المحصنة

بالعودة إلى حالة السفن الحربية الإيرانية، فإنها ما دامت لا تهدد باستخدام القوة، فإن الحصانة السيادية الممنوحة بموجب قانون البحار تحميها أينما كانت، سواء في أعالي البحار أو المناطق الاقتصادية الخالصة أو البحار الإقليمية أو المياه الداخلية. وهو ما يعني أن حتى أشد عقوبات الأمم المتحدة صرامةً ليس لها ولاية على السفن الحربية ذات الحصانة السيادية.

في سيناريو آخر، يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهل القانون الدولي، زاعمةً أن إيران تفعل ذلك في الخليج الفارسي، لكن ذلك سيأتي مع تكاليف باهظة. فأي محاولة أمريكية لإنفاذ القانون بنفسها على سفينة حربية إيرانية قد يؤدي إلى خسارتها لقضية أمام المحكمة الدولية، وأي هزيمة مذلة من هذا النوع ستمنح إيران مزيداً من الجرأة. وحتى إذا نجحت إجراءات إنفاذ أمريكية من هذا النوع فنياً وقانونياً، فإن ذلك قد يعرِّض السفن الحربية الأمريكية لخطر مماثل، إذا قررت الصين، على سبيل المثال، أن السفن الحربية الأمريكية التي تزوِّد تايوان بالأسلحة تنتهك أي عقوبات صينية على تايوان في المستقبل.

بالإضافة إلى ذلك، فإن أي تحرك أمريكي ضد سفن حربية إيرانية، بصرف النظر عن نجاحه أو فشله، من المتوقع أن يعقِّد جهود الولايات المتحدة لتأمين مصالحها ويضع الولايات المتحدة في موقع المنتهك لقواعد النظام الدولي. ومن ثم، إذا أرادت الولايات المتحدة منعَ السفن الحربية الإيرانية من الوصول إلى فنزويلا وتعزيز مصالحها عالمياً، فإن الجدير بها أن تنتهج سبيل الدبلوماسية بدلاً من القوة، وحثَّ الدول على طول الطريق على حرمان السفن الإيرانية من اللجوء إلى موانئها إذا طلبت ذلك. وبعيداً عن هذا وذاك، من الأفضل لصانعي السياسة والمسؤولين الأمريكيين المنتخبين الذين يتوقون لإرسال البحرية الأمريكية أو خفر السواحل لمهاجمة السفن الإيرانية أن يتذكروا دائماً القاعدة الأساسية التي تتمتع بها السفن الحربية بموجب الحصانة السيادية الدولية: “لا يحق لك المساس بهذه السفينة”.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع