السياسية:

قبل حتى أن تنطلق صواريخ المقاومة من غزة دفاعاً عن الأقصى وحي الشيخ جراح، لم يكن هناك صوت لرئيس السلطة محمود عباس، واستمر الصمت حتى وقف إطلاق النار، فلماذا أصبح فجأة ممثلاً للفلسطينيين؟

هذا التساؤل طرحته مجلة Foreign Policy الأمريكية في تقرير لها، انطلقت في محاولة إجابته من لحظة وقف إطلاق النار في الساعة الثانية من فجر الجمعة 21 مايو/أيار، بين الإسرائيليين والفلسطينيين بوساطة مصرية.

وفي حين أن ميزان القوى العسكرية يميل بوضوح لصالح العدو الإسرائيلي، التي قتلت غاراتها الجوية نحو 250 فلسطينياً فيما قتلت صواريخ المقاومة الفلسطينية 12 شخصاً بحسب السلطات الإسرائيلية، إلا أن المحصلة الإجمالية للمواجهة هي انتصار فصائل المقاومة الفلسطينية في هذه الجولة بصورة لم يكن يتوقعها أحد، مما أدى إلى إعادة نضال الفلسطينيين من أجل حقوقهم إلى واجهة المشهد، في حين لم تحقق المفاوضات السلمية أي نتيجة تذكر.

المقاومة جعلت للفلسطينيين صوتاً مسموعاً

فلأول مرة منذ فترة طويلة، شعر الفلسطينيون بأنهم أفصحوا حقاً عن سخطهم الكامن حيال التجاوزات الإسرائيلية بدلاً من ابتلاع كبريائهم مرة أخرى والتعويل على الأمل في أن ينتبه العالم لما يعانونه، واتحد الفلسطينيون ليس فقط في غضبهم على إسرائيل التي لا تتورع عن استخدام القوة المفرطة ضد سكان غزة، لكن أيضاً في دعمهم لردِّ حركة حماس وفصائل المقاومة على إسرائيل. ورأى الفلسطينيون صواريخ المقاومة على أنها ردٌّ مناسب من شعب ساخط، ومع انتهاء المعركة دون تنازل أي من الطرفين، احتفل آلاف الفلسطينيين.

ويقول خبراء إن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة بعد عام 1967 وكذلك فلسطينيو الداخل بدأوا يلتفتون إلى مزايا تنظيم حملةٍ موسعة للمقاومة المسلحة لتكثيف نضالهم من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة والتصدي لسياسات الفصل العنصري التي يقولون إن إسرائيل تنتهجها ضدهم.

وأشار عدد من الخبراء الذين تحدثت إليهم مجلة Foreign Policy، إلى أن الفلسطينيبن ببساطة سئموا انتظار محادثات أو اتفاقات تقود إلى دولة منفصلة على طول حدود ما بعد حرب 1967، أو قبل إعلان إسرائيل سيطرتها على القدس الشرقية، ومن ثم فهم سيدعمون أي انتفاضة مسلحة تذكِّر إسرائيل بأنهم لن يتخلوا عن حقهم في تقرير مصيرهم وأنهم لن يقبلوا أبداً بالوضع الراهن الذي ترغب إسرائيل في فرضه عليهم كأمر واقع.

السخط على رئيس السلطة

وفي القلب من حالة السخط العميقة على الكياني الإسرائيلي التي تريد التحايل على مطالب الفلسطينيين بدلاً من حلها، يأتي كذلك سخط الفلسطينيين على رئيسهم، محمود عباس، الذي يرى معظم الفلسطينيين أنه شخص عاجز وضعيف، وفي بعض الأحيان يتنافس على حفظ أمن إسرائيل على حساب حقوق الفلسطينيين. وقد جاءت الأزمة الأخيرة لتفاقم ذلك التراجع بمكانته، في حين يُتوقع أنها زادت من شعبية حركة حماس والمقاومة، وتميل شكوك البعض إلى أن مزيداً من الشبان الفلسطينيين يستجيبون لنداء المقاومة بحمل السلاح ما استمر شعورهم بأنه ليس ثمة خيارات أخرى وأن لا شيء هنالك ليخسروه.

ويقول آخرون إن الأزمة أعطت زخماً لحركة فتح التي يتزعمها عباس ولحركة حماس لكي يعملا على توحيد المقاومة الفلسطينية وإعادة تنظيمها، والإبانة لإسرائيل أنها ستدفع ثمناً باهظاً إذا ما استمر تعنُّتها الذي يمنع الوصول لأي حل مقبول لكلا الجانبين.

ويصعب القول ما إذا كان أي من الاحتمالين سيتحقق، لكن ما يمكن قوله إنه مع انتهاء المواجهة الأخيرة، لم تحقق إسرائيل شيئاً ذا بال، إلا إذا اعتبرت دولة الكيان الإسرائيلي نجاحها في إيقاع مزيدٍ من الضحايا إنجازاً، غير أنه لا توجد قرينة للاعتقاد بأنها ردعت المقاومة عن إطلاق الصواريخ مرة أخرى. وبدلاً من ذلك، أدَّت سياساتها والمواجهة الأخيرة التي طال أمدها بلا داعٍ، إلى إضعاف عباس.

حرب نتنياهو أضعفت عباس

فضَّلت إسرائيل والولايات المتحدة محمود عباس، الذي يُنظر إليه على أنه معتدل، ليحل محل ياسر عرفات بعد وفاته في عام 2004. في هذا العام، اختير عباس زعيماً لحركة فتح، وفي ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام في أثناء ترشحه للرئاسة الفلسطينية، دعا إلى إنهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي كانت مستمرة منذ عام 2000.

ومنذ ذلك الحين، وبينما تخوض حركات المقاومة، وعلى رأسها حركة حماس و”الجهاد الإسلامي”، معارك متقطعة مع إسرائيل، كان النهج العام للسلطة الفلسطينية بقيادة عباس -الذي يعتبره المجتمع الدولي ممثلَ الشعب الفلسطيني- هو الانخراط في محادثات مع إسرائيل والغرب لحل الأمور سلمياً.

لكن نهج المحادثات لم يفضِ إلى شيء، وحتى بقايا الأمل التي كان بعض الفلسطينيين يتشبثون بها، قضى عليها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بإعلانه في عام 2018، نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، التي يعتبرها الفلسطينيون عاصمة دولتهم المستقبلية في إطار خطة حل الدولتين.

ثم جاءت اقتحامات الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين للمسجد الأقصى في رمضان لتشكِّل نقطة تحوُّل أخرى، فبعد أن أطلقت “حماس” الصواريخ رداً على الانتهاكات الإسرائيلية، اجتاح شعور بالقوة عديداً من الفلسطينيين، بعد أن شعروا بأن هناك أحداً يتحدث بالنيابة عنهم ويتحرك دفاعاً عن مصالحهم. وقال كثيرون إن سياسة الاعتدال والمفاوضات التي ينتهجها عباس لم تُجدِ شيئاً منذ سنوات، وإن سياسة التفاوض اللانهائي أو استجداء المفاوضات في كل مرة ليست فقط نوعاً من العبث، ولكنها مهينة أيضاً.

هل انتهى دور رئيس السلطة؟

بناءً على ذلك، يتوقع عديد من الخبراء الفلسطينيين أن يزداد تقدير الفلسطينيين لحركة حماس والمقاومة في أعقاب المواجهة الأخيرة، وأن عباس سيفقد القدر الهيّن من المصداقية التي كانت متبقية لديه.

وهو ما يذهب إليه علي الجرباوي، أستاذ العلوم السياسية والوزير السابق في حكومة السلطة الفلسطينية، إذ يقول إن حالة اليأس بين الناس من عملية السلام الميتة كانت ملموسة، وهو ما يُتوقع أن يزيد من دعمهم لحركة حماس.

وأضاف الجرباوي للمجلة الأمريكية: “أعتقد أنَّ دعم الناس للمقاومة المسلحة بقيادة حماس سيزيد، لأن الفلسطينيين المعتدلين مثل عباس لا يجدون شريكاً جيداً في إسرائيل. حركة حماس ستحصد مزيداً من التأييد بين الناس، نعم، بالتأكيد. لكن ما الخيارات الأخرى؟ لا توجد طريقة أخرى سوى المقاومة المسلحة. لا أمل في المفاوضات، فهي سيرورة لا نهاية لها. أما المقاومة المسلحة، فقد أعطت الناس أخيراً بعض الأمل”.

ويذهب مصطفى البرغوثي، وهو سياسي فلسطيني يشغل منصب الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية وعضو المجلس التشريعي الفلسطيني، إلى الرأي نفسه، ويقول إن الفلسطينيين بعد الأزمة الأخيرة تزايد شعورهم بأن المقاومة العسكرية أنجح سبيلاً من الدبلوماسية. وأضاف البرغوثي: “آخر ما يريد الناس رؤيته هو تكرار الماضي، والاتفاقات المؤقتة، وما شابه”.

أما دانا الكرد، وهي أستاذة مساعدة في معهد الدوحة للدراسات العليا، فتقول إن فقدان عباس مصداقيته كان بسبب إخفاقاته العديدة، فقد “تجاوز فترة ولايته بكثير”، في إشارة إلى أن عباس يتمسك بالسلطة منذ عام 2005.

وتلفت دانا الكرد إلى أن “حقيقة أن عباس يهيمن على رئاسة السلطة الفلسطينية منذ عام 1994، ولم يحقق أياً من أهدافها ويبدو كمن يعمل عائقاً أمام تحرير فلسطين”، سبب آخر ليضيق الناس به ذرعاً.

وتشير كذلك إلى أن الناس نظروا إلى قرار عباس تأجيل الانتخابات التي كان من المفترض إجراؤها الشهر الماضي، بعد توقفٍ دامَ 15 عاماً، على أنه قرار مدفوع بخشيته من خسارة منصبه، “وزاد على ذلك منع الشرطة الفلسطينية للناس من التظاهر في بداية المواجهة الأخيرة رداً على ما كان يحدث بالقدس، ما فاقم سخط الناس عليه حقاً”.

ومع ذلك، أبدى البرغوثي نوعاً من التعاطف مع عباس، ووصفه بأنه “ضحية” للإسرائيليين والأمريكيين، فقد صدَّق الرجل وعودهم وبذل كل طاقته في صنع السلام عن طريق المفاوضات فقط، وقال إن “الإسرائيليين خذلوه، وخذَله المجتمع الدولي”.

لكن من جهة أخرى، يقول آخرون إن عباس، البالغ من العمر 85 عاماً، لا سبب يدعوه للقلق وإنه سيظل رئيساً إلى نهاية حياته، فلا نائب له ولا شخص قريباً مستعداً لتحدّيه. وحتى منافسو عباس البارزون، مثل مروان البرغوثي، الذي يُنظر إليه على أنه منافس قوي له، ويشير استطلاع رأي أجراه مركز القدس للإعلام والاتصال إلى أنه كان سيحصل على أصوات أكثر من عباس في الانتخابات لو كانت عُقدت، محبوسٌ بسجن إسرائيلي ومحكوم عليه بخمسة أحكام مؤبدة، إضافة إلى 40 عاماً أخرى.

وهناك أيضاً محمد دحلان، الذي يُعتقد أنه كان له دور في صفقة التطبيع الإسرائيلية مع الإماراتيين الذين يحظى بدعمهم، إلا أنه يفتقر إلى الشرعية داخل الأراضي الفلسطينية.

الخلاصة من ذلك أنه لا سبيل سوى انتظار ما ستسفر عنه الأيام، وأن نرى ما إذا كان مزيد من الفلسطينيين سيختارون حقاً الكفاح المسلح، وما إذا كانت فورة الغضب الأخيرة ستخمد شيئاً فشيئاً. والجدير بالذكر هنا أن أسهُم حماس وإن ارتفعت، فإن عديداً من الفلسطينيين يقولون إنهم واعون بعيوب الحركة ويعارضون سياساتها. ومع ذلك، فإنَّ دعمهم لصواريخ حماس والمقاومة يكشف قدر اليأس الذي يشعرون به حيال السبل الدبلوماسية ومدى استماتتهم على أي تحرك يفضي إلى تغيير في المسار الراهن.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع