السياسية:

يشعر سكان تل أبيب بوطأة حرب غزة بشكل فعلي لأول مرة في تاريخ المدينة الإسرائيلية المدللة.

فعندما استهدفت صواريخ المقاومة تل أبيب لأول مرة في بداية الحرب، اضطر نداف كوهين، الذي يملك حانة صغيرة في المدينة، إلى الانتقال هو وجميع الزبائن الذين كانوا في الحانة إلى قبو النبيذ تحت الأرض، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.

افترش كوهين وزبائنه الأرض في القبو فيما كانت تصل إلى أسماعهم أصوات “انفجارات” صواريخ القبة الحديدية وهي تحاول التصدي لصواريخ الحركات الفلسطينية، وأخذوا يشاهدون مقاطع الفيديو المنقولة مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لسقوط الصواريخ ومواقع الانفجارات على الخريطة.

وعكس الشائع، تعرضت تل أبيب العاصمة الاقتصادية للعدو الإسرائيلي، للقصف في حرب عام 2014، بل استطاعت كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) قصف حيفا في عام 2014، بصاروخ “آر 160″، الذي وصل مداه إلى 160 كيلومتراً، واعتبر آنذاك بمثابة تحول نوعي جديد، حسبما ورد في تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.

ولكنَّ قصف تل أبيب عام 2014، كان عملية رمزية إلى حد كبير، أما اليوم ففعلياً دخلت الحرب تل أبيب وأصبحت وطأتها الثقيلة محسوسة لسكان المدينة التي تعتبر رمزاً لتقدُّم إسرائيل وحصانتها.

ففي المعارك السابقة بين العدو الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية بغزة، ظلت تل أبيب في غالب الأحيان بعيدة عن خط النار. لكن خلال الأسبوع الماضي، استهدفت المقاومة الفلسطينية المدينة أكثر من مرة بصواريخها، فأصبح سكان المدينة على خط النار.

ولكن وصل الأمر في هذه الحرب، إلى إغلاق مطار بن غوريون القريب من تل أبيب مراراً، وتحويل مسار الرحلات القادمة إليه إلى مطار رامون بالقرب من إيلات، والذي تعرض بدوره لقصف صواريخ المقاومة.

وكان هذا أمراً غريبأ على سكان المدينة الساحلية -المعروفة عادةً في الأوساط الإسرائيلية باسم “الفقاعة” أو “دولة تل أبيب”؛ للإشارة إلى انعزالها عن خط المواجهة خلال حروب إسرائيل العديدة، حسب الصحيفة الأمريكية.

يقول كوهين: “آخر مرة سقطت فيها صواريخ على تل أبيب، كثير من الناس لم يعرفوا شيئاً عنها. وصحيح أن الناس في تل أبيب ما زالوا يذهبون إلى الشواطئ والحانات ويتسكعون في الشوارع، لكن شيئاً ما قد تغير” هذه المرة.

عدد الصواريخ التي تعرضت لها تل أبيب في ليلة وحيدة يعادل ما أطلق في حرب 2014

قائد الجبهة الداخلية للكيان الإسرائيلي، الجنرال أوري غوردين، قال إن ليلة السبت 15 مايو/أيار وحدها شهدت تل أبيب عدداً كبيراً من الصواريخ يفوق ما أُطلق عليها من صواريخ طوال مدة حرب عام 2014، التي استمرت 50 يوماً، بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية. وبحسب بيانات الاحتلال، قُتل ثلاثة أشخاص، الأسبوع الماضي، في وسط إسرائيل بعدما لم يتمكنوا من العثور على ملجأ قريب.

يأتي ذلك فيما قتل القصف الصاروخي والمدفعي الإسرائيلي على قطاع غزة أكثر من 230 شخصاً، منهم أكثر من 60 طفلاً، إضافة إلى أكثر من 10 شهداء قتلتهم قوات الاحتلال في مناطق الضفة الغربية خلال احتجاجات الأيام الماضية، بحسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية.

تحوَّل إطلاق الصواريخ على عاصمة القرار السياسي الإسرائيلي، وما يُعرف بمنطقة تل أبيب الكبرى، إلى شيء معتاد خلال الحملة الأخيرة لإسرائيل على غزة، لاسيما أن المقاومة تبدأ الأمر بإعلانات ليلية تحدد الساعة التي ستطلق فيها الصواريخ، وبعدها تنطلق صفارات الإنذار، ووميض التحذيرات على تطبيقات الهواتف الخلوية، فيتدافع سكان المدينة إلى “الملاجئ الآمنة” أو إلى أدراج المباني في غضون 90 ثانية.

وكان الناطق العسكري باسم كتائب القسام، “أبو عبيدة”، قد أعلن في 15 مايو/أيار 2021،  أنه “بعد قصف البرج المدني في غزة، على سكان تل أبيب والمركز أن يقفوا على رِجل واحدة وينتظروا ردنا المزلزل”.

وبعد ذلك، قالت “كتائب القسام” في بيان على موقعها الإلكتروني: “بأمر من قائد هيئة الأركان أبو خالد، محمد الضيف، رُفع حظر التجول عن تل أبيب ومحيطها لمدة ساعتين من الساعة العاشرة وحتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبعد ذلك أمر بعودتهم للوقوف على رِجل واحدة”.

ولا تزال أماكن سقوط الصواريخ عصيَّة على التنبؤ بها على نحو خطير، حسب الصحيفة الأمريكية.

ففي قاعة للحفلات الموسيقية في هرتسليا، شمال تل أبيب، اضطر المغني الإسرائيلي شولي راند إلى نقل عرضه إلى إحدى ساحات انتظار السيارات تحت الأرض، فيما كانت صفارات الإنذار تدوي في الأعلى. يقول راند إن المعركة الحالية زاد من تأثيرها أنها تأتي بعد جائحة كورونا، إذ أجبرت الإسرائيليين على العودة بسرعة مرة أخرى إلى وضع الأزمة.

سكان الشمال يعرضون استقبالهم، ودعوات لإبقاء البيوت مفتوحة للفارين

تنشر جمعيات على وسائل التواصل الاجتماعي دعوات تحث فيها المواطنين على ترك الأبواب الأمامية لمبانيهم مفتوحة؛ تحسباً لأن يحتاج بعض المارة إلى مأوى عند انطلاق صفارات الإنذار. 

وعرض إسرائيليون في شمال البلاد استضافة عائلات تل أبيب التي تريد مغادرة المدينة. كما أُلغيت الدراسة في المدارس إلى أجل غير مسمى.

وتعد منطقة تل أبيب الحضرية -مركز القطاع المالي في إسرائيل، ومأوى العدد الأكبر من شركات التكنولوجيا والمؤسسات الثقافية- أحد آخر المعاقل المتبقية المحسوبة على ما يوصف بالليبراليين الإسرائيليين.

هل يتحولون إلى اليمين أم يلومون نتنياهو؟

ويقول بعض السكان إن مزيداً من الناس في تل أبيب يتنامى تشددهم، وإن معظم الإسرائيليين فقدوا الثقة بإمكانية الوصول إلى سلام مع الفلسطينيين، حسب تقرير The Washington Post. 

لكن من جهة أخرى، يذهب كثير من سكان المدينة إلى أن المسؤولية عن تصاعد العنف تقع على عاتق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ويشير كثير منهم إلى أن اللوم يجب أن يوجه إلى نتنياهو، الذي كان من المتوقع على نطاق واسع، قبل أسبوعين فقط، أن يُطاح به من السلطة بعد فشله للمرة الرابعة في الانتخابات الوطنية والوصول إلى عدد مقاعد يكفل له الانفراد بتشكيل الحكومة.

تقول ميري تسايغ، وهي محاسبة تبلغ من العمر 50 عاماً وتقطن تل أبيب: “لم يكن هذا ليحدث لولا بيبي [نتنياهو]. إنه يستخدم هذه الحرب وسيلةً للإلهاء”.

وعلى النحو نفسه، يقول داني فيلنسكي، وهو ناشط يساري شارك في مظاهرتين لوقف الحرب خلال الأسبوع الماضي: “هذه حرب لأغراض سياسية، لم يكن لها أي داعٍ على الإطلاق”.

ويضيف فيلنسكي: “المشكلة ليست في غزة. الأمر يتعلق بحقيقة أن إسرائيل لا تنفك تزداد يمينية… خاصة في تل أبيب، وهي التي لطالما وُصفت بـ(الفقاعة) في إسرائيل ومعقل اليساريين والليبراليين، فهذا الشعور بالحياة الطبيعية آخذ في الانهيار. لا يشعر الناس بالأمان، لذلك يتجهون أكثر فأكثر نحو اليمين”، حسب قوله.

تكتيكات حماس أفقدت المدينة المدللة حصانتها

يقول الكولونيل المتقاعد مير إيسين، وهو ضابط استخبارات كبير سابق في الجيش الإسرائيلي، إنه بالمقارنة مع حرب عام 2014، فإن حماس وجدت طريقة لاستهداف تل أبيب بدرجة خطورة أكبر.

إذ استطاعت الحركة تكييف تكتيكاتها في محاولة للتغلب على نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي، حيث لجأت إلى إطلاق قذائف كثيفة باتجاه مواقع متعددة في غضون دقائق معدودة؛ للتغلب على القبة الحديدية.

وأضاف أن هذا أصبح ممكناً بفضل العدد الكبير من الصواريخ التي صنعتها الحركة في منشآت الإنتاج الخاصة بها تحت الأرض.

وأشار إيسين إلى أن “حماس تطلق مزيداً من الصواريخ، لكن الأدهى أنها غيرت طريقة إطلاقها: على دفعات؛ للتغلب على قدرة اعتراض القبة الحديدية، وفي الوقت نفسه عملت على تحديث قدرات الفتك الانفجارية برؤوسها الحربية”.

ونفذت كتائب القسام مشروع جمع مخلفات القذائف والقنابل الإسرائيلية التي لم تنفجر خلال حرب عام 2014، وقامت بإعادة تصنيعها واستثمارها، حيث ضاعفت قوتها الصاروخية وحققت كثافة وإدامة للنيران، حسب وكالة سبوتنيك، ووصل عدد تلك القذائف الإسرائيلية التي عُثر عليها إلى الآلاف، الأمر الذي جعل مخزون صواريخ المقاومة أكبر بكثير من حرب 2014، رغم الحصار على غزة.

عربي بوست