لماذا لن يعيد إحياء الاتفاق النووي مع إيران “الاستقرار والأمان” للشرق الأوسط كما يعتقد بايدن؟
السياسية: رصد
“لا يمكن لإدارة بايدن شق طريق نحو شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً ببذل المزيد من المحاولات لشل طرف فاعل واحد في سباقات التنافس الإقليمية”/ تعبيرية
نشرت مجلة The National Interest الأمريكية مقالاً لبول بيلار، المسؤول السابق بالاستخبارات الأمريكية والمتخصص بشؤون الشرق الأدنى ومنطقة الخليج وجنوب آسيا، يتناول فيه مآلات العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني ونتائجه المرجوة كما يراها الرئيس الأمريكي جو بايدن، كانعكاس الاتفاق على استقرار الشرق الأوسط الملتهب.
ويقول بيلار، إنه وقد أصبحت الآن العودة إلى الامتثال للاتفاق متعدد الأطراف الذي يُقيِّد البرنامج النووي الإيراني، تبدو وكأنَّها تعود إلى مسارها الصحيح، وإن كانت غير مضمونة بحال من الأحوال، يجدر تذكُّر كم أنَّ القيود التي أخضعت إيران نفسها لها بتوقيعها على هذا الاتفاق استثنائية. فهي أكثر تقييداً بكثير من القواعد العامة التي تنطبق على البلدان الأخرى والتي يمكن بموجبها لأي دولة باستثناء إيران أن تخصب القدر الذي تشاء من اليورانيوم مثلاً.
وقد تحاشت بعض الدول القواعد والرقابة الدولية تماماً، مثل إحدى الدول في مكان آخر بالشرق الأوسط، والتي بَنَت ترسانة من الأسلحة النووية التي لا تعترف بوجودها لكن يُفهَم على نطاق واسع أنَّها موجودة فعلاً، وهي إسرائيل.
المخاوف الإيرانية والمكاسب الأمريكية
يقول بيلار: لم تحصل إيران على شيء مميز لقاء قبولها بالقيود والرقابة الاستثنائية بموجب الاتفاق النووي. فإيران، على سبيل المثال، لم تكن تبحث عن ذلك النوع من المساعدة الأمريكية لبرنامجها النووي التي حصلت عليها، أو سعت للحصول عليها، بعض الدول على الجانب الآخر من الخليج لبرامجها النووية. كل ما كانت إيران تتوقعه هو أن “تُعامَل بشكل طبيعي”، مثل أي دولة أخرى، في ما يتعلق بالتجارة والتبادل التجاري.
ولم تتنازل الولايات المتحدة عن أي شيء، في صورة مساعدة أو أي شيء آخر، عند موافقتها على الاتفاق النووي، باستثناء رفع العقوبات التي كان الغرض منها دفع إيران للانخراط في ذلك الشكل نفسه من المفاوضات الذي أنتج الاتفاق النووي.
ولم يكن على الولايات المتحدة حتى الوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي إلى حين وفاء إيران بالتزاماتها على نحو يمكن التحقق منه، بما في ذلك التخلي عن معظم اليورانيوم المخصب لديها، وإزالة أجهزة الطرد المركزي، وتفكيك مفاعل نووي، وإتمام كل التزاماتها الأخرى بموجب الاتفاق. بعد ذلك، منعت مخاوف القطاع الخاص والقصور الذاتي إيران من الحصول على التجارة الطبيعية والمنافع الاقتصادية المصاحبة التي كانت تتوقعها من الاتفاق، حتى قبل أن تتراجع إدارة ترامب تماماً عن التزامات الولايات المتحدة في 2018 وتشن حرباً اقتصادية لا قيود فيها على إيران.
وفي ضوء هذا، من غير المفاجئ اعتقاد الكثيرين في النظام الإيراني، لاسيما من ذوي الاتجاهات المتشددة، أنَّ إيران كانت الطرف الأقل استفادة من الاتفاق. ومن غير المفاجئ أيضاً أن يتحدث المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي اليوم عن الحاجة لـ”التثبُّت” من رفع العقوبات الأمريكية، وشعوره هو والمسؤولين الإيرانيين الآخرين بالمرارة من تجربتهم السابقة ورفضهم التخلي عن كل أوراق الضغط لديهم قبل ضمان امتثال الولايات المتحدة الكامل للاتفاق النووي.
معايير أمريكية مزدوجة
بقدر ما كان الاتفاق النووي مواتياً للولايات المتحدة، فإنَّه تسبب في الأثر الجانبي المؤسف المتمثل في الإبقاء على فكرة أنَّه يجب اختصاص إيران بشكل معين من التعامل وإخضاعها لمعايير لا تنطبق على أي بلد آخر في المنطقة. أدَّت مجموعة من الظروف إلى جعل الاتفاق النووي ممكناً، وهي الظروف التي من الواضح أنَّ إيران قررت في ظلها أنَّ السعي للحصول على سلاح نووي ليس في مصلحة إيران على أي حال، وبالتالي كان الإيرانيون مستعدين للتوقيع على اتفاق أغلق كل الطرق الممكنة نحو سلاحٍ كهذا في وجه إيران، وإيران وحدها.
لكنَّ هذا لا يعني أنَّ التعامل مع إيران بطريقة خاصة في مسائل أخرى لا تتعلق بحظر الانتشار النووي سيكون معقولاً أو مقبولاً بالنسبة لأي قائد إيراني، لاسيما في المسائل التي يعتبرها الإيرانيون مهمة لأمنهم القومي.
يعيش الإيرانيون في جوارٍ صعب؛ إذ توظف العديد من الأنظمة في المنطقة، بتهور، أساليب إبراز القوة والنفوذ التي تتعارض مع القانون الدولي والقواعد الدولية. وكانت إيران في مناسبات عدة هي الطرف المقصود من هذه الأساليب.
ولنأخذ على سبيل المثال الاستحضار المعتاد للإرهاب، كما في العبارة التي باتت تمثل اليوم “أكليشيه” مبتذلاً “الدولة الأولى الراعية للإرهاب”. استخدمت إيران بالفعل بعض الأساليب الإرهابية، في تاريخ الجمهورية الإسلامية الممتدة 4 عقود، كان أوضحها في شكل اغتيالات خارج الحدود للمعارضين بالخارج.
لكنَّ إيران ليست الطرف الرئيسي اليوم في لعبة الاغتيال خارج الحدود. ففي السنوات الأخيرة، كان التحرك الأبرز في هذه اللعبة هو قتل السعودية الوحشي للصحفي المعارض جمال خاشقجي في تركيا. كما أنَّ اللاعب الأكثر نشاطاً وخبرة في هذه اللعبة هو إسرائيل.
والسياسات الإقليمية الأوسع نطاقاً التي قد تُوصَم بـ”الإرهاب” لا تشير إلى إيران بأكثر مما تشير إلى بعض الدول الشرق أوسطية الأخرى. ففي سوريا، دعمت إيران نظام الأسد الحالي القائم منذ 50 سنة. والأنماط الشبيهة بتنظيم القاعدة هي موجودة في الطرف المقابل من الحرب الأهلية وتلقَّت دعماً ليس من إيران، بل من دول الخليج العربية.
وفي العراق، تدعم إيران -إلى جانب الولايات المتحدة- النظام العراقي في القضاء على “الخلافة” الإقليمية التي أنشأها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وقد قُدِّم الدعم في معظمه عبر الميليشيات العراقية التي لا تُعَد مجرد وكيلة لإيران، على الرغم من تصنيفها بهذا الشكل في كثير من الأحيان، بل هي أيضاً تمثل أجزاءً مهمة من الأجهزة الأمنية العراقية.
وكانت التصرفات الإيرانية التي تتوافق مع تعريف وزارة الخارجية الأمريكية للإرهاب على مدار العقد المنصرم تمثل ردود فعل على تصرفات مماثلة من آخرين ضد إيران. وكانت بعض الهجمات غير الناجحة كثيراً التي استهدفت دبلوماسيين إسرائيليين على الأرجح محاولات للثأر من سلسلة اغتيالات للعلماء النوويين الإيرانيين.
“ماذا المبرر لتقييد الرادع الإيراني إن لم يجرِ تقييد القوات المماثلة للخصوم؟”
يقول الكاتب الأمريكي إنه يوجد نمط مماثل يتعلَّق بالعنف السياسي المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط والذي قد لا يستوفي تعريف الإرهاب ويتضمَّن الاستخدام العلني للقوة العسكرية. فإيران لم تقم بشيء مماثل للحرب الجوية السعودية المدمرة التي ما تزال مستمرة ضد اليمن، أو اعتداءات إسرائيل الجوية المتواصلة في سوريا وبوادر ما يبدو أنَّها حرب بحرية غير معلنة في البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط والتخريب الإلكتروني المستمر.
ومن جديد، كانت التحركات التي قامت بها إيران، كما حدث مع الضربة الجوية باستخدام طائرات بدون طيار على منشآت نفطية سعودية في سبتمبر/أيلول 2019، “رد فعل” وفي هذه الحالة كانت رداً على محاولة إدارة ترامب تدمير تجارة النفط الإيرانية.
وتُظهِر القدرات الدفاعية المشروعة لدول الشرق الأوسط نمطاً آخر شبيهاً. ينسحب هذا على موضوع الصواريخ الباليستية الذي كثيراً ما يُؤتى على ذكره. نعم، لدى إيران صواريخ، لكن كذلك الحال بالنسبة لدول شرق أوسطية أخرى، وبعض هذه الصواريخ مُوجَّهة نحو إيران. فكانت السعودية هي مَن أطلقت سباق تسلح صاروخي شرق أوسطي حين حصلت سراً على أسطول من الصواريخ متوسطة المدى صينية الصنع في الثمانينيات.
ومن الأمور ذات الصلة أيضاً بهذا الموضوع الحالة البالية والمتداعية لسلاح الجو الإيراني، وهو ما يجعل الصواريخ واحدة من سبل إيران القليلة لردع خصومها الإقليميين. ماذا سيكون المبرر لتقييد هذا الرادع إن لم يجرِ تقييد القوات المماثلة للخصوم؟
بعيداً عن الاتفاق النووي.. ما الاستنتاجات الرئيسية التي يجب الوصول إليها؟
الأول هو أنَّ التركيز الأمريكي المعتاد على إيران –والمتجذر في التاريخ والسياسة المحلية- ينتج صورة مشوهة وغير مكتملة على نحوٍ خطير لمصادر انعدام الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.
ثانياً، يجب الاعتراف بأنَّ خطة العمل الشاملة المشتركة هي طريقة ناجحة وليدة الصدفة للتعامل مع المسألة النووية. ولا يجب القيام بأي محاولة لتوسيعها لتشمل مسائل أخرى وتحويلها إلى شيء لم يكن ممكناً أبداً حدوثه في وقت التفاوض عليها وما يزال غير ممكن الآن.
ثالثاً، إذا ما بقي الاتفاق النووي قائماً، سيتعين أن تتجاوز المفاوضات التكميلية بشأن المسائل المتعلقة بإيران التركيز الضيق على إيران. فالاتفاقات الوحيدة الممكنة التي يمكن أن تؤثر على الصواريخ الإيرانية، على سبيل المثال، هي الاتفاقات التي تفرض قيوداً، على مدى الصواريخ مثلاً، على دول الشرق الأوسط الأخرى كذلك.
وبشكل أوسع، لا يكمن الطريق نحو شرق أوسط أكثر استقراراً وأمناً في بذل المزيد من المحاولات لشل طرف فاعل واحد في سباقات التنافس الإقليمية، بل بإدارة الاختلافات بين كل المتنافسين وإيجاد سبل يمكنهم من خلالها التعايش في سلام، وقد طرح
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رأي الموقع