كيف أصبحت الصين تحاصر أمريكا خفية؟
السياسية: رصد
دعك من خطابات بايدن وترامب الزاعقة، الواقع أن المنافسة بين الصين وأمريكا لم تعد في صالح الأخيرة، لأن بكين تحاصر واشنطن فعلياً وتستطيع شل حركتها.
مثل سلفه دونالد ترامب ، يلتزم الرئيس الأمريكي جو بايدن باستراتيجية مميزة مناهضة للصين، وتعهد بأن بكين لن “تصبح قائدة العالم وأغنى بلاده وأقواها.. وأنا موجود”.
لكن تقريراً لموقع Responsible Statecraft الأمريكي تحدث عن القدرات الخفية للصين التي تستطيع أن تشل بها حركة أمريكا اقتصادياً وعسكرياً.
وبينما يشير التقرير إلى تزايد قدرات بكين في مجالات عدة، لكنه يرى أن هناك وسيلتين تحديداً هما أقوى سلاح لدى بكين في مواجهة واشنطن.
المستقبل يحمل أخباراً سيئة لأمريكا
جايمي ديمون، المدير التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة جاي بي مورغان تشيس المصرفية العملاقة، التي يبلغ حجم أصولها 3.4 تريليون دولار، صارح بايدن بحقيقة المسألة. ففي حين يتوقع ديمون انفراجة فورية في الاقتصاد الأمريكي “يمكن أن تستمر حتى عام 2023″، يرى ديمون أن المستقبل يحمل أخباراً سيئة أيضاً.
كتب ديمون في الرسالة السنوية إلى حاملي الأسهم بالشركة أن “زعماء الصين يؤمنون بأن الولايات المتحدة في انحدار”. ويُضيف أن الولايات المتحدة واجهت أوقاتاً عصيبة في الماضي، لكن اليوم “يرى الصينيون أمريكا تخسر أرضاً في مجالات التكنولوجيا والبنية التحتية والتعليم، وشعبها تمزقه وتعرقله السياسة وغياب المساواة العرقية والمساواة في الدخول، وترى الولايات المتحدة بلداً عاجزاً عن تنسيق السياسات الحكومية (المالية والنقدية والصناعية والتنظيمية) على نحوٍ متماسك يحقق الأهداف الوطنية”.
أولى أسئلة المنافسة بين الصين وأمريكا..أيهما صاحب الاقتصاد الأكبر؟
عادة يتم التركيز على أن الصين تُعد “ثاني أكبر الاقتصادات العالمية”، في أي حديث عن المنافسة بين الصين وأمريكا.
ولكن الواقع أنه حتى قبل جائحة كورونا، أزاحت الصين أمريكا وأصبحت أكبر اقتصاد في العالم، وفقاً لقياسات صندوق النقد الدولي حسب أسعار صرف السوق، ووفقاً للقوة الشرائية للعملة الصينية في الصين، وليس الولايات المتحدة، وهي طريقة لقياس حجم الاقتصاد مختلفة عن الطريقة الأشهر وهي وفقاً للقوة الشرائية للدولار في الولايات المتحدة.
تشير هذه الطريقة التي استخدمها صندوق النقد الدولي إلى أن حجم السلع والخدمات التي تنتجها الصين قيمتها أعلى من الولايات المتحدة، إذا قيست قيمها بالعملة الصينية باعتبار أن الأسعار في الصين أرخص من أمريكا.
وفقاً لهذه الحسابات يفوق الاقتصاد الصيني نظيره الأمريكي بمقدار السُدس.
هواوي تتصدر هواتف الجيل الخامس
ولكن بصرف النظر عمن هو الاقتصاد الأكبر، فلقد تخطت الصين بالفعل الولايات المتحدة أو توشك على أن تسبقها في قطاعاتٍ بعينها، في مؤشر على أن المنافسة بين الصين وأمريكا، لم تعد في صالح الأخيرة.
فشركة هواوي الصينية امتلكت أكبر حصة في السوق العالمية للهواتف الذكية، بنسبة 20%، في الربع الثاني من عام 2020، وتجاوزت بهامشٍ بسيط شركة سامسونغ الكورية الجنوبية، وبهامشٍ كبير شركة آبل الأمريكية.(قبل أن تتضرر من عقوبات ترامب عليها).
ولكن اللافت أنه بحصة بلغت 47% في مجال هواتف الجيل الخامس، تتصدر هواوي القائمة في ذلك المجال البكر والأكثر تقدماً، إضافة إلى تفوق الذي أثار حنق الأمريكيين في مجال شبكات الجيل الخامس.
وعلى نطاق أوسع تستمر الصين في قطع أشواط مبهرة في تطوير قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حسب الموقع الأمريكي.
فقد أظهر تقرير التكنولوجيا المالية في الصين، المنشور في أكتوبر/تشرين الأول 2020، أن 87% تقريباً من المستهلكين الصينيين استعملوا الخدمات التكنولوجية المالية.
وبنظامٍ ضخم للمدفوعات عبر الهواتف المحمولة وصل حجم المدفوعات عليه إلى 29 تريليون دولار (200 تريليون يوان) في 2019، تتجه الصين سريعاً نحو أول مجتمع “لا نقدي” في العالم، وأضخم منظومة مالية تكنولوجية فيه بحلول نهاية العقد. وبالمقارنة، أقل من 10% من الأمريكيين يستعملون طرق الدفع عبر الهواتف المحمولة، ما يعني أن حدوث سيناريو مشابه في الولايات المتحدة بعيدٌ للغاية.
وفي سعيها المحموم نحو الابتكار، بدأت السلطات الصينية في الضغط باتجاه تطوير عملة رقمية في مناطق معينة في أغسطس/آب 2020. وكانت الأهداف المحددة هي تسهيل الحياة اليومية على المواطنين وزيادة أمان المدفوعات الرقمية. ففي حين تتطلب منصات المدفوعات غير البنكية مثل علي باي ووي تشات باي من المستخدمين ربط حساباتهم البنكية، يمكن فتح محفظة رقمية وإيداع العملات الإلكترونية بها فقط ببطاقة تعريف شخصية، مثل رخصة القيادة أو رقم الهاتف، ما سيتيح للمواطنين الصينيين بلا حسابات مصرفية دخول العالم الرقمي من أوسع الأبواب.
عملة رقمية صينية، فأين الدولار؟
نتيجةً لذلك، أصبح بنك الشعب الصيني أول البنوك المركزية الكبرى في إصدار عملة رقمية. ومن المتوقع إصدار اليوان الرقمي على نطاق أوسع تجهيزاً لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية في فبراير/شباط 2022، ما سيمنح اليوان الرقمي صيتاً دولياً.
وقد دق هذا أجراس الإنذار عند إدارة بايدن، إذ يحاول مسؤولون بوزارات الخزانة والخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي فهم التبعات المحتملة لنظام اليوان الرقمي، وبالأخص طرق توزيعه، وما إذا كان سيمكنه تجاوز العقوبات الدولية خاصة التي فرضتها واشنطن على إيران.
ويصر جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، على أن البنك مشاركٌ في مشروعٍ واسع النطاق للأبحاث والتطوير، بخصوص دولار رقمي مستقبلي. لكنه يشير إلى أن هذا المشروع لن ينطلق دون تمرير الكونغرس المنقسم انقساماً حاداً لقانون بخصوصه.
باختصار، وبغض النظر عن العملة المشفرة الصينية، فإن احتمالات إصدار الدولار الرقمي ليست كبيرة، على الأقل في المستقبل القريب.
استثمارات هائلة في البنية التحتية
ومن حيث التاريخ الاقتصادي الحديث، فإن نظرة عابرة على أداء الولايات المتحدة والصين في محاربة الانهيار المالي في 2008 تحكي قصة صادمة.
تركت الصين علامة لا تنمحي في مواجهتها للتحديات المالية، فقد زادت الحكومة من الإنفاق على البنية التحتية زيادة كبيرة، ما أدى إلى زيادة الواردات وساعد في رفع الطلب العالمي. وفي حين زادت هذه التحركات من ديون بكين، فقد أسهمت في وضع أساسات ساعدت على تحول اقتصاد البلاد إلى نموذج نمو مدفوع بالإنتاجية.
ومع أن بناء البنية التحتية على نطاقٍ واسع يتطلب استثماراً ضخماً مباشراً، فمن المضمون أنه سيؤدي إلى زيادة الإنتاجية على المدى البعيد. فتوفير الوقت والتكاليف على المتنقلين، وتحسين الوصول إلى الأسواق، والمنافسة الصحية، وزيادة حركة تبادل الأفكار، وتوسيع الإمكانات الإبداعية، بمُساعدة من البنية التحتية الحديثة، كلها تحفز التنمية الاقتصادية.
التركيز على تعليم الرياضات والتكنولوجيا
جمعت الحكومة الصينية بين التنمية السريعة للبنية التحتية وتحسين مهارات القوة العاملة، عبر وضع نظامٍ تعليمي يركز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). وخططت الحكومة لتعويض الانكماش المتوقع في قوتها العاملة بزيادة إنتاجية العمالة بهذه الطريقة.
وفي عام 2019، خصصت الحكومة 100% من التمويل البحثي للجامعات الكبرى إلى الجامعات التي تركز على تخصصات STEM، في حين خصصت كوريا الجنوبية 62% فقط من تمويلها لهذا الغرض. وفي المقابل، تنوعت الجامعات الأمريكية في المراكز المئة الأولى بين مجالات STEM والإنسانيات والعلوم الاجتماعية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، أطلقت ثلاث من أكبر شركات الاتصالات في الصين خدمات متقدمة من الجيل الخامس، لتصبح الصين أكبر شبكات الجيل الخامس في العالم. وبعد عامٍ واحد، نقلت صحيفة وول ستريت جورنال أن عدد المشتركين في خدمات الجيل الخامس في الصين أكبر من عددهم في الولايات المتحدة، من حيث العدد الإجمالي ونسبةً إلى عدد السكان.
الصين تحاصر أمريكا فعلياً بهذين السلاحين.. الأول المعادن الأرضية النادرة
تمتلك الصين ورقتي ضغط قويتين في مجالين قد يمثلان خطراً على الولايات المتحدة، حسب تقرير موقع Responsible Statecraft.
والورقتان هما الهيمنة على موانئ الحاويات في العالم، وإمدادات العناصر الأرضية النادرة بالغة الأهمية ليس فقط في قطاع تكنولوجيا المعلومات، بل أيضاً في إنتاج السيارات الكهربائية والهجينة، والمقاتلات النفاثة، وأنظمة توجيه الصواريخ.
ففي قطاع التصنيع، تجد الصين نفسها في موقفٍ جيد بفضل وفرة المعادن المميزة التي تُعرف بالمعادن الأرضية النادرة، وهي من المكونات الرئيسية لمنتجات متقدمة تكنولوجياً في مجال الطاقة النظيفة، مثل توربينات الرياح والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية، وفي أسلحة عدة من المقاتلات النفاثة إلى الغواصات النووية.
إنّ سيطرة بكين على سوق المعادن الأرضية النادرة جعلت من الصعب- وشبه المستحيل- على الدول الأخرى مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا أن تبني سلاسل التوريد الخاصة بها وتديرها بشكلٍ تنافسي.
وقد استغلت الصين إمداداتها من المعادن الأرضية النادرة لجذب المصنعين الأجانب وزيادة قوتها الصناعية. كما أنّ نفوذ بكين زاد المخاوف من أنّها ستمتص الصناعات عالية التقنية من البلدان الأخرى- وأنها ستحظى بنفوذٍ كبير في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.
وسبق أن استغلت الصين هيمنتها على المعادن الأرضية النادرة لأغراضٍ سياسية. ففي عام 2010، عقب تصاعد التوترات بين بكين وطوكيو، حظرت الصين- التي كانت تُنتج 93% من الإجمالي العالمي وقتها- صادراتها من المعادن الأرضية النادرة إلى اليابان.
وعاود هذا التهديد الظهور مرةً أخرى حين تنازع ترامب مع الرئيس الصيني شي جين بينغ حول التعريفات الجمركية عام 2019، حيث لوحت بكين بشكل غير رسمي بقطع الصادرات التي تنتج بكين نسبة كبيرة منها، وإيقاف التصنيع الأمريكي بشكل مفاجئ.
وليس من المفاجئ في الأعوام الماضية زيادة الطلب على هذه المعادن في الاقتصادات المتقدمة، فهي موزعة بتركيزات منخفضة ومن المكلف استخراجها من الخامات، وهذه الصناعة استثمرت فيها الصين كثيراً منذ السبعينات.
ووفقاً للمسح الجيولوجي الأمريكي في 2020، أنتجت الصين 58% من المعادن الأرضية النادرة، وانخفضت النسبة من 90% قبل أربعة أعوام، إذ توسعت الولايات المتحدة وأستراليا في تعدين هذه العناصر. لكن اعتباراً من 2018، استوردت الولايات المتحدة 80.5% من المعادن الأرضية النادرة من الصين. وفي مايو/أيار من هذا العام، أضافت إدارة ترامب هذه المعادن إلى قائمة من المعادن التي تُعتبر بالغة الأهمية للأمن الاقتصادي والوطني الأمريكي. وفي يوليو/تموز 2019، أعلنت الإدارة هذه العناصر “جوهرية للدفاع الوطني”، ما أتاح تخصيص موارد لوزارة الدفاع لتتحرك من أجل تأمين القدرات الإنتاجية المحلية للعناصر الأرضية النادرة.
لكن حتى إن زادت الولايات المتحدة من تعدينها لهذه العناصر، سيتطلب تكريرها تكنولوجيا متخصصة وعمالة مدربة واستثماراً أولياً مرتفعاً. وبسبب نقص هذه العوامل في الولايات المتحدة، تستمر الصين في شبه احتكار معالجة الخامات، مع شحن المواد الخام التي تحتوي على هذه العناصر الثمينة من خارج الصين إلى المواقع الصينية.
وتولد عملية التكرير أيضاً كميات كبيرة من المخلفات المشعة وتلوث البيئة. نتيجة لذلك، تلجأ الدول المتقدمة إلى إجراء عمليات التكرير في الاقتصادات النامية.
السلاح الثاني: أمريكا محاصرة بخطوط الملاحة الصينية
في شهادة أمام الكونغرس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، كشفت كارولين بارثولوميو، رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية، أن ثلثي أكبر 50 ميناءً من موانئ الحاويات البحرية على الأقل يملكها ويديرها صينيون أو تدعمها استثمارات صينية. ويشمل هذا محطات في موانئ أمريكية كبرى بلوس أنغلوس وسياتل.
وقبل عام، اعترف مسؤولون بشركة الشحن الحكومة الصينية China Ocean Shipping Company، وهي من أكبر خطوط شحن الحاويات في العالم، بأن الشركة وصلت بالفعل بين مساراتها وما يُعرف رسمياً بطريق الحرير البحري، لتربط بين أسواق إقليمية في غرب إفريقيا وشمالي أوروبا والكاريبي والولايات المتحدة، وتكوين شبكة تجارية عالمية أكثر شمولاً وتوازناً. وتشرح بارثولوميو أنه “في حالة نشوب نزاع، يمكن أن تستعمل الصين سيطرتها على هذه الموانئ وموانئ أخرى في إعاقة التجارة الواصلة إلى البلدان الأخرى”.
هل فازت بكين بواسطة سلطتها المركزية الصارمة؟
إجمالاً، بينما العالم يصارع جائحة تأتي مرة في كل قرن، نجد دولة سلطوية ملتزمة بالتخطيط المركزي تُطلق برامج تحقق منافع طويلة المدى لمواطنيها وتنفذها. وفي المقابل نرى جمهورية ديمقراطية مزقتها السياسة تتعامل مع الأزمات برد الفعل.
الحقيقة الجلية هي أن الرئيس الأمريكي لا يمكنه أن يراهن على أن سياساته، المستحسنة والمثيرة للجدل، ستصمد بعد انتهاء ولايته. ووصول ترامب للسلطة بعد أوباما أوضح ذلك تماماً، كما أوضحه وصول بايدن بعد ترامب. وحين نحكم على التخطيط المركزي فقط من حيث نتائجه النهائية، نجده يتغلب بوضوح على البرامج قصيرة المدى، وحتى وإن أدانته وارتابت فيه الحكومات الغربية التي يحاول بايدن ضمها إلى صفه في مواجهة الصين. فالواقع أن الصين هي البلد الوحيد الذي ينهض الآن في كوكبٍ مثخن بالجروح.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رأي الموقع