السياسية:

جاء إعلان البحرية الأمريكية أنها ستجري مناورات بحرية كبيرة إلى جانب بلجيكا وفرنسا واليابان في الشرق الأوسط، ليكشف تصاعد التوتر بين أمريكا وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني بشكل لم يكن يتوقع قبل مجيء إدارة بايدن للسلطة.

فلقد ذكرت وكالة الأسوشيتد برس، أن هذه المناورات ستجرى في منطقة بحر العرب وخليج عمان عبر مشاركة سفن من الدول الأربع منها حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديغول”، وكذلك السفينة الهجومية البرمائية الأمريكية “يو إس إس ماكين آيلاند”. كما ستشارك الفرقاطة البلجيكية “HNLMS Leopold I” والمدمرة اليابانية JS” Ariake”، بالإضافة إلى طائرات من الدول الأربع.

وتأتي التدريبات في الوقت الذي تخلت فيه إيران عن جميع قيود اتفاقها النووي لعام 2015 مع القوى العالمية، في أعقاب قرار الرئيس دونالد ترامب عام 2018 بالانسحاب من جانب واحد من ذلك الاتفاق، حسبما ورد في تقرير لموقع RT الروسي.

ولم يصدر رد فعل فوري من إيران على التدريبات البحرية القادمة.

ولكن هذه التطورات بين أمريكا وإيران تشير إلى أن الأجواء المحيطة بأزمة الملف النووي الإيراني تزداد توتراً، رغم أنه كان المتوقع أن مجيء بايدن قد يعني تخفيف التوتر بين واشنطن وطهران، باعتبار أن بايدن كان نائباً للرئيس في عهد أوباما الذي أبرم الاتفاق النووي، كما أن بايدن والديمقراطيين عامة كانوا من أشد منتقدي انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وفرض عقوبات أشد على طهران.

ولكن يبدو أن الطرفين (أمريكا وإيران) عالقان في إرث ترامب، مع لجوئها لسياسة عض الأصابع، قبل إطلاق مفاوضات جدية لحل الأزمة.

رغم اتفاقهما على ضرورة العودة للاتفاق النووي، لماذا يتبادلان التصعيد؟

ومنذ البداية بدا واضحاً أن رغم رغبة أمريكا وإيران المعلنة في العودة للاتفاق النووي الإيراني، إلا أن الشيطان يكمن في التفاصيل.

تريد إدارة بايدن عودة فورية لإيران للاتفاق النووي وعكس المراحل التي وصلت إليها منذ تخليها عن التزاماتها في الاتفاق، الأمر الذي جعل الادارة الأمريكية والأوروبيين يحذرون من قرب وصول طهران للقنبلة النووية.

كما يبدو أن إدارة بايدن تأخذ على محمل الجد انتقادات دول الخليج وترامب للاتفاق النووي، ملمحة إلى ضرورة بحث برنامج إيران من الصواريخ الباليستية، إضافة إلى أنشطة الميليشيات الموالية لها في الدول العربية، آخذة بعين الاعتبار مخاوف السعودية وإسرائيل تحديداً.

وخلال جلسة الاستماع لتعيينها كمديرة للاستخبارات الوطنية، أجابت أفريل هينز عن سؤال من السيناتور سوزان كولينز حول آراء هينز بشأن عودة أمريكا للاتفاق النووي الإيراني.

وقالت: “أعتقد بصراحة أننا ما زلنا بعيدين عن ذلك”. وأضافت بعد ذلك أن بايدن وفريقه “سيتعين عليهم أيضاً النظر في قضايا الصواريخ الباليستية”- في إشارة إلى استمرار إيران في تطوير ترسانة متطورة من الصواريخ الباليستية- بالإضافة إلى “أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار” الأخرى قبل الانضمام إلى الاتفاقية النووية.

في المقابل، فإن إيران ترفض توسيع أي تلميح لتوسيع الاتفاق ليشمل أنشطة الميليشيات التابعة لها في المنطقة، وكذلك برنامج الصاروخي، ملمحة إلى أن السعودية تقتني أنظمة صاروخية باليستية صينية الصنع تتجاهلها أمريكا، إضافة إلى امتلاك دول الخليج قوى جوية متطورة.

فأي محاولات لجعل إيران تقبل إعادة التفاوض وإضافة بنود جديدة للاتفاق تشمل التخلص من برنامج الصواريخ الباليستية، أو جعل مدة الاتفاق أطول مما كان متفقاً عليه (10 سنوات)، كما تريد السعودية على لسان وزير خارجيتها، سيكون من الصعب أن توافق عليها حكومة الرئيس حسن روحاني في ظل الضغوط والانتقادات التي توجه لها من قبل المحافظين.

بايدن أيضاً سيواجه ضغوطاً هائلة من جانب اللوبي الإسرائيلي داخل واشنطن، ولن يكون بمقدوره، بحسب مراقبين، الموافقة على شروط إيران، وهي رفع العقوبات التي فرضها ترامب بشكل مباشر، وكذلك دفع تعويضات مليارية لإيران عما سببته تلك العقوبات من أضرار، وبالتالي ربما يكون الاتفاق النووي الإيراني أصبح بالفعل في حكم الميت إكلينيكياً، وربما تكون هذه النقطة هي العامل الذي شجع السعودية على أن تضع شروطها أخيراً على الطاولة.

وإضافة لهذا الخلاف بين أمريكا وإيران الذي يضيف بندين جديدين للاتفاق النووي، فإن ترتيب عودة أمريكا للاتفاق النووي الإيراني محل خلاف على ما يبدو.

فخلال أول إحاطة لها قالت السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جين بساكي: “يجب أن تستأنف إيران الامتثال للقيود النووية الكبيرة بموجب الاتفاق من أجل المضي قدماً”.

في المقابل، حسم المرشد الإيراني، علي خامنئي، الموقف قائلاً، إن “شرط طهران للعودة عن خفض التزاماتها في الاتفاق النووي، هو إلغاء كافة العقوبات”، مشدداً على أن “هذا موقف لن يتغير”.

وقال خامنئي إن “إيران لن تتراجع عن خفض الالتزامات بشأن الاتفاق النووي، إلا بعد التحقق من صحة رفع العقوبات، وهذا موقف يتفق عليه جميع المسؤولين”.

من الممكن أن يكون كل هذا بمثابة تكتيك تفاوضي من قبل أمريكا وإيران على حد سواء، حيث يتم اتخاذ موقف متشدد في البداية من أجل بناء مساحة للمناورة لتقديم تنازلات لاحقاً. لكن من الممكن أيضاً أن يؤخر هذا الموقف- أو حتى يهلك- احتمالية العودة إلى المسار الدبلوماسي بين الخصمين اللدودين.

إيران تضغط بأقوى أوراقها

وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخراً إن لدى إيران الآن أكثر من 2440 كيلوغراماً، وهو ما يزيد على ثمانية أضعاف الحد الذي حدده الاتفاق النووي لعام 2015. إن وقت “الاختراق” بالنسبة لإيران لصنع سلاح نووي- وهو طموح تنكره- أصبح الآن أقصر بكثير من عام.

هو أمر تباهى به وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في مقال له في مجلة Foreign Affairs الأمريكية، حيث أقر بأن إيران زادت بشكل كبير من قدراتها النووية منذ مايو/أيار عام 2019، لكنها فعلت ذلك بما يتفق تماماً مع الفقرة 36 من الاتفاقية النووية، التي تسمح لإيران “بالتوقف عن تنفيذ التزاماتها” بموجب الاتفاق إذا توقف أحد الأطراف الموقعة الأخرى عن التزاماته.

وقال: “إذا عادت واشنطن إلى اتفاق إيران النووي لعام 2015، فسنحترم أيضاً التزاماتنا بموجب الاتفاق بالكامل”. وقال إن الكرة “في ملعب الولايات المتحدة الآن”.

وأضاف: “ينبغي أن تبدأ إدارة بايدن ذلك برفع جميع العقوبات المفروضة أو المعاد فرضها منذ تولي ترامب منصبه بالكامل. وإيران بدورها ستلغي جميع الإجراءات التصحيحية التي اتخذتها في أعقاب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي”.

المفارقة أنه قال بعد هذه الخطوات الأمريكية، إن بقية الدول الموقعة على الاتفاق ستقرر بعد ذلك إن كان ينبغي السماح للولايات المتحدة باستعادة مقعدها على الطاولة الذي تركته عام 2018. لكن الاتفاقات الدولية ليست أبواباً دوارة، والعودة إلى اتفاق تم التوصل إليه بعد مفاوضات- والتمتع بامتيازاته- ليس حقاً تلقائياً يتمتع به أحد الأطراف بعد مغادرته عشوائياً.

على وجه التحديد يريد النظام الإيراني من الولايات المتحدة أن ترفع العقوبات وتفك تجميد الأصول المالية الخارجية لإيران قبل أن توافق طهران على التراجع عن التطورات الأخيرة في برنامجها النووي.

تصعيد إيراني ميداني

إضافة إلى التصعيد الإيراني الأساسي عبر المضي قدماً في البرنامج النووي استخدمت، طهران أوراقها الإقليمية للتصعيد ضد واشنطن وحلفائها.

ففي العراق، وترت الأجواء وتم تنفيذ هجمات ضيقة النطاق على الأمريكيين، رغم نفي إيران لعلاقتها بهذه الهجمات (الأمريكيون أقروا بصعوبة تحديد هل حلفاء طهران يتحركون عفوياً أم بأوامر أم هناك صراع أجهزة داخل إيران ينعكس على العراق).

وعلق وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، على هذه الهجمات قائلاً: “إن الولايات المتحدة ستفعل ما يلزم للدفاع عن نفسها، وما يتعيّن على إيران استخلاصه من هذا الأمر مجددًا هو أننا سندافع عن قواتنا، وأن ردنا سيكون مدروساً ومتناسباً”.

وفي اليمن، رد الحوثيون على حسن النية المبدئي الذي أظهرته إدارة ترامب، برفع اسمهم من قوائم الإرهاب، والحديث عن وقف الدعم الأمريكي لجهود الحرب السعودية، بتصعيد للمعارك في مأرب بشرق اليمن إضافة إلى تكثيف هجماتهم على أراضي السعودية نفسها بواسطة الصواريخ والطائرات المسيرة.

هل يسير بايدن على نهج ترامب؟

ورغم أن إدارة أوباما للتفاوض مع إيران حول الملف النووي، اتسمت بدرجة كبيرة من الصبر، إلا أنه من الواضح أن بايدن، في العديد من الملفات، قد تأثر بنهج ترامب، أو على الأقل استجاب للنقد الموجه لإدارة ترامب.

إذ يبدو أن بايدن سيسير على نهج ترامب في العلاقة مع الصين، حتى إن وزير خارجيته أنتوني بلينكين نطق بتصريح نادر قاله إن ترامب على حق فيما يتعلق في هذا الملف، واتبع ذلك قيام بايدن بتصعيد غير مسبوق مع روسيا وصف فيه رئيسها فلاديمير بوتين بالقاتل.

وها هو في ملف العلاقة بين أمريكا وإيران، يرد على تصعيد طهران في العراق بقصف أهداف لجماعات تابعة لإيران في سوريا، وأرسل طائرات بي 52 للمنطقة كما فعل ترامب في أواخر أيامه، ثم أخيراً ها هو يجري مناورات بحرية ضخمة.

مغزى المناورات الأمريكية

 واللافت هنا أيضاً مشاركة دول مثل اليابان في المناورات (إضافة لفرنسا وبلجيكا)، والدولة الآسيوية لم تكون يوماً طرفاً في أزمة الملف النووي الإيراني، ولديها علاقة جيدة نسبياً بطهران، ولكنها من أكثر الدول المعنية بأمن الخليج بسبب اعتمادها على نفط المنطقة.

ومن هنا كانت مشاركة اليابان إضافة إلى بلجيكا الدولة الأوروبية الصغيرة رسالة مفادها أنه حتى هاتين الدولتين المسالمتين تقفان إلى جانب الحليف الأمريكي ضد إيران.

رغم أن أمريكا وإيران تريدان العودة للاتفاق النووي، إلا أن كلاً منهما لديها تصور لهذا الاتفاق وخارطة الطريق للعودة له، وكل منهما تريد تعزيز موقفها التفاوضي عبر ما يمكن وصفه بالتصعيد المحسوب.

هل يخرج التصعيد بين أمريكا وإيران عن السيطرة؟

رغم أن الإدارة الأمريكية بعثت برسالة إيجابية لإيران مؤخراً، هي الإفراج عن 3 مليارات دولار من أرصدة إيران في ثلاث دول هي العراق وسلطنة عمان وكوريا الجنوبية، إلا أن الغالب على الرسائل المتبادلة بين البلدين في الآونة الأخيرة هو التصعيد.

والنتيجة أن أمريكا وإيران عالقتان في هذه الحالة المرشحة للتصاعد، فإذا استمرت إيران في التقدم في أنشطتها النووية، فقد تخرق خطاً أحمر إسرائيلياً أو حتى أمريكياً، قد ينتهي بعملية قصف جوي لبرنامجها النووي.

وحتى لو تم تجنب هذا السيناريو عبر تأني طهران في الاقتراب من العتبة النووية، فإن التصعيد بين أمريكا وإيران، قد يخرج عن السيطرة خاصة في العراق، حيث تتجاور القوات الأمريكية مع مئات الآلاف من أعضاء العشرات من الميليشيات العراقية الشيعية المشهورة بفوضويتها، إضافة إلى خضوعها لعدة أجهزة إيرانية متنافسة في غياب الرجل القوي قاسم سليماني، وهو ما قد يخرج الأمور عن حدود تعزيز الأوراق التفاوضية التي تلعبها كل من أمريكا وإيران على السواء.

عربي بوست