بقلم/ هدى القباطي:

(12 رجل غاضب)، فيلم كلاسيكي شهير أُنتج عام 1957 من إخراج سيدني لوميت، وهو مقتبس عن مسرحية للكاتب ريجنالد روز الذي كتب سيناريو الفيلم ايضاً.

الفيلم يروي قصة عن هيئة محلفين مكونة من اثني عشر رجلاً اجتمعوا معاً داخل غرفة صغيرة، لتحديد مصير الشاب ذو الثمانية عشر ربيعاً على تهمة القتل من الدرجة الأولى الموجهة إليه، وفي خضم الحقائق التي طُرحت في المحكمة يقرر الرجال جميعهم بأن الولد مذنب، ما عدا واحداً منهم والذي يرفع يده مع اختيار براءة الفتى.

يتفرد الفيلم بشخصياته المتنوعة والمختلفة في مستوياتها الثقافية والاجتماعية والتي أظهرت النفس البشرية بتفكيرها المتقلب، ومشاعرها القوية وانعدام تفهمها للأمور التي لا تراها أو لا تصدق بوجودها، فهنالك تناقض تام بين القرارات التي تتخذها الشخصيات وبين عقل الإنسان المتفتح والواعي لأهمية ما بين يديه من قرار قد يؤدي بحياة إنسان آخر الى التهلكة، وفي الكفة الأخرى فإن هنالك من البشر من يعطي للعقلانية مكانة أكبر مهما كانت قوة المعارضة التي يواجه بها.

ففي حين أن الفيلم – الذي امتد 96 دقيقة – لم يُصور إلا في غرفة واحدة، غير أنه أخذ المشاهدين إلى عالم كبير بشخصياته التي جسدت الواقع المعاش والذي يشاهد على الدوام، بل وفتحت الآفاق للنظر البعيد ومعرفة خبايا بعض الشخصيات الأخرى.

تقوم حبكة الفيلم الرئيسية على اعتراض المهندس الشاب على القرار الذي اتخذه زملائه دون الحديث عن الموضوع وباستعجال تام، ويواجه تلك المعارضة برغبته في تفهم الأمور والحديث عنها، حيث أن الحديث هو السبيل الأول للوصول إلى الحقائق وتفكيكها بما يتناسب مع الواقع، وعلى الرغم من معارضتهم للبقاء ومناقشة قضية واضحة كما يقولون -والتي قد يذهب ضحيتها شاب بريء في مقتبل العمر- لأغراض شخصية أو أفكار مبنية على مشاعر وتجارب مسبقة، إلا أن المهندس الشاب لم ينثنِ أمام هكذا معارضة وقرر إبقائهم تحت سقف تلك الغرفة الحارة قليلة التهوية للنقاش حول موضوع لن يكتمل وينتهي إلا باتفاق الجميع على كون الفتى مذنباً من عدمه.

وفي هذه الخطوة حكمة كبيرة، فإذا تخلى الشاب عن فكرته وانصاع للآخرين في قرارهم لانتهت الجلسة وبكل سهولة، ولكنه قرر الإبقاء عليهم وإعطائهم فرصة للنظر للأمور من زاوية أخرى.

عَبَر هذا المهندس الشاب عن شخصية المرء الذي يبحث عن الحقيقة والحقيقة فقط، والذي سيسعى جاهداً مهما كانت المعارضة حوله قوية، ومهما كان مختلفا عن الآخرين إلى الوصول لجوهر الأمر وتفصيله، وهنا نجد أنه سخر معرفته ورغبته الكامنة في معرفة الحقيقة على أغراضه الشخصية ومشاعره الذاتية التي يمكن أن تأخذه إلى طريق آخر قد يكون خاطئاً!

وتنوعت الشخصيات الأخرى بين كبير السن ذو الخبرة، والشاب الصغير منعدم الخبرة، وبين الشخص الذي يرى الأمور من منظور شخصي وتجارب سابقة والشخص الذي يخشى معارضة الجمهور خوفا من الهجوم عليه، ونجد أن تجسيد الشخصيات كان رائعاً وملائماً لرسالة الفيلم التي تسعى جاهدة لإعطاء الاختلاف في الآراء مساحة أكبر، حتى وان لم تذكر اسم أي من الشخصيات مستعملة إياهم كرموز لرسالتها.

طريقة الوصول إلى المغزى كانت منظمة، بسير أحداث ملائم لأفكار الشخصيات وتطورها خلال فترة الفيلم، وهذا ما أعطى الفرصة للتعرف على الشخصيات أكثر وعن قرب، حياتهم الشخصية، أولوياتهم، نظرتهم للحياة، والتي شغلتهم تماما عن حياة الآخرين او اولجتهم فيها بشكل كبير.

كان الإخراج جذاباً جداً، فقد استطاع المخرج لوميت أن يجعل المشاهدين مشدوهين ومندمجين أيضا مع أحداث فيلمه، ويؤكد ذلك ارتفاع تقييم الفيلم على موقع IMDB .

وبالرغم من كون الفيلم تدور أحداثه في غرفة واحدة، وهذا ما قد يدفع بعض الناس للشعور بالملل لمن يحب أفلام الحركة من الجمهور الحالي، إلا أنه جعلها نقطة إيجابية ومميزة كونه أول من استخدم هذه الفكرة في تقديم المحتوى.

ويتجلى الإبداع في الفيلم؛ بأداء الممثلين الذي استطاعوا تجسيد شخصياتهم بطريقة جميلة وواقعية، كما لو كنت تشاهد مشهداً حياً أمام عينيك لأشخاص يتشاجرون حول التهمة الموجهة لشاب صغير، وحول اختلاف الآراء التي تصاعدت وأصبحت موجة من الغضب يوجهها كل رجل نحو الآخر لاختلافه عنه في الآراء أو الأفكار أو المعتقدات.

يعتبر (12 رجلاً غاضباً) من أفضل الأفلام السينمائية على الإطلاق، وما يزال متربعاً على عرش الأفلام السينمائية المخلدة حتى يومنا هذا كفيلم كلاسيكي رائع وتحفة فنية لا يمكن إنكارها على مدى السنين، فقد كان جوهرة رائعة قدمتها السينما الكلاسيكية بذكاء وابداع كأثر حضاري وتاريخي.

عندما تشاهد هذا الفيلم ستجد نفسك تتعمق في شخصياته وحواراته، وصولاً إلى النهاية القوية التي جمعت نهاية النقاش الذي اعتقد الجميع أن لا فائدة منه، والتي تثبت أن للأمور بواطن لا نراها ما لم نعطِ أنفسنا الفرصة للتعمق فيها والنظر لبواطنها بهدوء ودون تحيز، وهنا نصل إلى ذروة الرقي ألا وهي الاعتراف بالخطأ.