السياسية:

شهد عام 2020 كشف 14 جاسوساً روسياً في سبع دول، منها هولندا وبلغاريا وكولومبيا وسلوفاكيا وسويسرا، وتمكن المعارض أليكسي نافالني من تسجيل مكالمة مع ضابط مخابرات روسي تكشف مؤامرة تسميم المعارض الأبرز لفلاديمير بوتين، فهل فقد أستاذ الجاسوسية الأول مهاراته أم أن هناك أسباباً أخرى؟

بوتين أستاذ الجاسوسية

كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واحداً من أقدم ضباط جهاز الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي)، وكان الرئيس السابق لجهاز الأمن الفيدرالي، ومنذ توليه رئاسة البلاد قبل أكثر من عقدين من الزمان انعكست طبيعته الاستخباراتية على تعاملات موسكو في علاقاتها الدولية.

وفي مقال نشرته صحيفة Moscow Times منتصف العام الماضي حول الفضائح المتكررة لاكتشاف جواسيس روس حول العالم، رصد المقال كيف أن عقلية روسيا ككل في علاقاتها الدولية أصبحت تتمحور حول أعمال الجاسوسية وعقد الصفقات، وهو ما يمكن إرجاعه بشكل أساسي إلى بوتين نفسه.

بومبيو وجه اتهاماً مباشراً لروسيا بالوقوف وراء الهجوم السيبراني على الوكالات الأمريكية، تعبيرية

وتعمل شبكات الجاسوسية الروسية بشكل أساسي تحت ستار وظائف دبلوماسية في السفارات الروسية حول العالم، وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي أعلنت هولندا طرد اثنين من الدبلوماسيين الروس من أراضيها زاعمة أنهما كانا يعملان كجاسوسين تحت غطاء دبلوماسي، واتهمتهما باستهداف قطاع التكنولوجيا وتشكيل “شبكة كبيرة من الموارد البشرية” في القطاع، وهو مصطلح يعني تجنيد “جواسيس محليين”.

وفي يناير/كانون الثاني 2020، ألقت سويسرا القبض على عملاء للمخابرات الروسية في دافوس وأيضاً كانوا يحملون جوازات سفر دبلوماسية ويخططون لاستهداف المنتدى الاقتصادي العالمي، رغم أن أحد المقبوض عليهم كان يعمل متخفياً كسبّاك.

لكن ربما يكون نجاح المعارض أليكسي نافالني في تسجيل مكالمة مع أحد ضباط الاستخبارات الروسية منتحلاً شخصية مسؤول كبير في الجهاز مما ورط الضابط في ذكر تفاصيل عن عملية تسميم نافالني، من أكثر الأمور التي سببت إحراجاً لروسيا ولرئيسها بوتين، بحسب تقرير لشبكة CNN.

ماذا يحدث لجواسيس روسيا؟

موقع The Daily Beast الأمريكي تناول قصة تكرار القبض على جواسيس روسيا في الخارج وأسبابها في تقرير له، إذ ليس من الواضح ما إذا كان ذلك مجرد مصادفة أم أنّ هناك نوعاً من التسريبات من داخل وكالات الاستخبارات الروسية. وقال أندريه سولداتوف، أحد أفضل مراقبي الأجهزة الأمنية اطلاعاً في روسيا، للموقع الأمريكي: “هناك بعض الاختراق بالطبع. ولا أعلم ما إن كان جديداً أو قديماً، ولكن يبدو أن قراراً كبيراً قد اتُّخِذَ لاستخدام الاختراق في إبطاء العمليات الروسية الهجومية”.

وحتى الآن، كان أكبر اكتشاف لعملية روسية خارج البلاد هو الهجوم السيبراني الهائل ضد مواقع الحكومة والشركات الخاص الأمريكية، والذي كُشِفَ عنه الشهر الماضي. إذ قال مايكل دانييل، منسق استراتيجية الأمن السيبراني في مجلس الأمن القومي بعهد باراك أوباما، لموقع The Daily Beast إنّ هناك أدلة إضافية على أنّ البراعة التشغيلية الروسية لتلك العمليات كانت “على أعلى المستويات”. لكنّه أشار إلى أنّ رصد الاختراق مثل ضربةً بالنسبة لهم كذلك.

وأوضح دانييل، الرئيس التنفيذي الحالي لـCyber Threat Alliance: “استمرت العملية لتسعة أشهر قبل اكتشافها، ولكن من المحتمل أنّهم كانوا يأملون في استمرارها لوقتٍ أطول”.

ورغم أنّ السلطات الأمريكية لم تذكر روسيا رسمياً على أنّها المصدر “المرجّح” للهجوم السيبراني إلّا بعد شهرٍ تقريباً من انتشار الأخبار، لكن الصحفيين والخبراء السيبرانيين نسبوا الهجوم سريعاً إلى وكالة الاستخبارات الخارجية الروسية، التي تُشغّل مجموعة مخترقين تُدعى “الدب الدافئ Cozy Bear”.

لكن الضجيج حول نجاح وكالة الاستخبارات الخارجية كان مبالغاً فيه؛ إذ كان الهجوم نتاج جهدٍ مشترك مع وكالة مكافحة التجسس المحلية الروسية، جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، الذي يمتلك قدرات سيبرانية أكبر بكثير من وكالة الاستخبارات الخارجية. وتورّطت مجموعة “الدب الدافئ” من قبل في العديد من وقائع الاختراق سابقاً، كما أنّها مرتبطةٌ بجهاز الأمن الفيدرالي الذي نفّذ عمليات عدائية سيبرانية ضد الغرب لسنوات.

وبصفته جهازاً لمكافحة التجسس، يُدير جهاز الأمن الفيدرالي نظاماً يُعرف باسم نظام أنشطة التنفيذ والتحقيق (سورم)، الذي يُنفّذ عمليات الرقابة السيبرانية المحلية الأكثر قوة في روسيا. ولكن في ظل نظام بوتين، توسّعت عمليات جهاز الأمن الفيدرالي لتشمل جمع المعلومات الاستخباراتية، والتدابير النشطة المزعومة خارج البلاد، حيث تحوّلت تقنياتها الحاسوبية المتقدمة للغاية إلى سلاحٍ له قيمة متزايدة.

كم جهاز تجسس تمتلكها روسيا؟

إذ قال سولداتوف، الذي يسرد كتابه “الرفاق The Compatriots” أنشطة عملاء روسيا في الخارج، إنّ وكالات التجسس تتعاون معاً عادةً: “القدرات السيبرانية لجهاز الأمن الفيدرالي أكبر بكثير من وكالة الاستخبارات الخارجية. كما يتمتّع جهاز الأمن الفيدرالي بموقعٍ أفضل لتجنيد المخترقين، لأنّ الجهاز هو جهة إنفاذ قانون تُحاكم على الجرائم السيبرانية. ويُمكنه الاعتماد على خبرات الشركات السيبرانية الخاصة؛ لأنّه الجهة التنظيمية للسوق السيبراني في روسيا، والجميع يعتمدون على الجهاز في الواقع. وفي الهجمات السيبرانية ضد الغرب، يكون دور وكالة الاستخبارات الخارجية هو جمع الاستخبارات وتحديد الأهداف -أو اختيار المنظمات التي تُهم الوكالة فقط”.

وبعبارةٍ أخرى، يُمكن القول إنّ وكالة الاستخبارات الخارجية الخارجية تُحدّد الأهداف الاستخباراتية، بينما يُنفّذ جهاز الأمن الفيدرالي عملية الاختراق الفعلية عادةً باستخدام خبرات المخترقين الذين يزدهرون في العالم السري للإجرام داخل روسيا.

كما أوضح دانييل، مستشار وكالة الأمن القومي السابق: “يستطيع الروس تنفيذ العمليات السيبرانية بكفاءةٍ شديدة نظراً لقدراتهم التنظيمية؛ إذ يستطيعون الجمع بين الأهداف الاستخباراتية وبين الخبرات التقنية لتنفيذ عمليات سيبرانية تُحقّق الأهداف الاستراتيجية الأوسع”.

واستبعد اكتشاف الاختراق بواسطة الاستخبارات البشرية، وهي وجهة النظر التي تردّدت في التقارير الإعلامية. ووفقاً لمصادر استشهدت بها شبكة CNN الأمريكية، ربما نبّه المخترقون شركة FireEye لوجودهم حين نفّذوا “مخاطرةً محسوبة” هجومية عن طريق الانتقال من استهداف البريد الإلكتروني إلى استهداف المعلومات الحساسة. ورغم نجاح الاختراق، لكن ترك أثرٍ كهذا يُمثّل إخفاقاً استخباراتياً آخر لوكالة الاستخبارات الخارجية وجهاز الأمن الفيدرالي.

كيف يؤثر الفساد على عمل الجواسيس؟

لكن إخفاقات وكالة الاستخبارات الخارجية تتضاءل مقارنةً بفشل جهاز الأمن الفيدرالي في تسميم نافالني، الذي نجح في خداع ضابط جهاز الأمن الفيدرالي ليكشف تفاصيل عملية محاولة قتله في محادثةٍ هاتفية مُسجّلة. كما تتضاءل عند مقارنتها بالزلات الخرقاء لمديرية المخابرات الرئيسية (الاستخبارات العسكرية الروسية) في محاولاتها لقتل سيرغي سكريبال في مارس/آذار عام 2018. لكن وكالة الاستخبارات الخارجية وجهاز الأمن الفيدرالي، إلى جانب مديرية المخابرات الرئيسية، تُعاني من نفس العيوب التي تُسيطر على نظام بوتين للحوكمة: الفساد، والمحسوبية، والمنافسة بين الوكالات.

إذ علّق الخبير الأمني مارك غاليوتي قائلاً: “تمتلك الأجهزة مسؤوليات متداخلة (مثل تورّط جهاز الأمن الفيدرالي المتزايد في العمليات الخارجية)، وتتنافس بلا هوادة من أجل التفوّق على بعضها البعض. وهو نظامٌ أشبه بآكلي لحوم البشر”.

وبالنسبة لضباط وكالة الاستخبارات الخارجية، الذين يشغلون عادةً مناصب دبلوماسية أو تجارية مرموقة في الخارج ويجمعون معلوماتهم من مصادر بشرية، فمن المفترض أن يبرزوا فوق الجميع. ومن الصعب تخيّل أنّ فخرهم بصورة منظمتهم، كوكالة استخباراتية شديدة الاحترافية، لن يهتز في ظل وقوع إخفاقات استخباراتية. أو أنّهم لن يشعروا بالحرج حين يُنظَر إلى زملائهم في الأجهزة الأخرى على أنّهم غير أكّفاء أمام العالم.

وقد أوضح رئيس وكالة الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين أنّ وكالته تُواجه تحديات، خاصةً في ما يتعلّق بالولايات المتحدة؛ إذ قال في مقابلةٍ مُطوّلة خلال نوفمبر/تشرين الثاني: “تُعد أجهزة الاستخبارات الأمريكية، وفي مقدمتها وكالة الاستخبارات المركزية، من بين أقوى الأجهزة الاستخباراتية في العالم. والزملاء في تلك الوكالة هم خصومنا الرئيسيون”.

ورغم التحديات، يعيش ناريشكين ونظيره رئيس جهاز الأمن الفيدرالي أليكساندر بورتنيكوف أياماً رائعة. ففي يناير/كانون الثاني عام 2018، كشف موقع روسي أنّ بورتنيكوف يعيش داخل مقر إقامة فاخر على أطراف سانت بطرسبرغ، وهو عقار غير مذكور في بيان الدخل الرسمي الخاص به.

وفي ديسمبر/كانون الأول، نقل موقع Mediazona الروسي أنّ ناريشكين وعائلته يستمتعون بسخاء رجل الأعمال الأذربيجاني الثري غود نيسانوف، الذي يمتلك العديد من الفنادق ومراكز التسوق بموسكو؛ إذ طارت نجلة ناريشكين فيرونيكا على متن طائرة خاصة مملوكة لنيسانوف إلى باكو للاحتفال بعيد ميلادها في يخت نيسانوف الفاخر. كما سافر آل ناريشكين بطائرة نيسانوف إلى النمسا في رحلة تزلج. وقبل بضع سنوات حصلت فيرونيكا، حين كانت في الـ23 من عمرها، على شقة كبيرة في موسكو قيمتها 1.4 مليون دولار بمساعدة رجل أعمال أذربيجاني مُقرّب من نيسانوف. وكان راتب والدها السنوي في ذلك الوقت 68 ألف دولار فقط.

وبالنسبة لناريشكين وبورتنيكوف، فإن هذه التقارير تُخفي أعظم بكثير مما تُظهره. وهذا لأن مرؤوسيهم يعيشون حياةً أقل جودة؛ إذ رسم موقع Glagol الإخباري الروسي مؤخراً صورةً قاتمة لكيفية عيش ضباط الأجهزة الأمنية العاديين: “العاملون في جهاز الأمن الفيدرالي، ووكالة الاستخبارات الخارجية، ومديرية المخابرات الرئيسية ليسوا آلهة. وفي روسيا، من المقبول عموماً أنّ الأشخاص المميزين أخلاقياً وذوي الإرادة القوية هم من يعملون في الأجهزة الاستخباراتية والأمنية. وأنّهم يتلقون مقابل عملهم أجراً لائقاً وامتيازات لا يحصل عليها المواطنون العاديون… لكن الواقع مختلف… وليست هناك رفقة في الرتب المتوسطة والدنيا. وإذا دخلت مساراً خاطئاً، لن يُساعدك أحد – وستصير بمفردك. وليست هناك نقابة عمالية، أو مساعدة نفسية، بل هناك جهاز لكشف الكذب ومن يفشل في الاختبار يُفصل بدون أثرٍ رجعي ودون مكافأة لنهاية الخدمة. كما أنّ الرواتب منخفضة نسبياً: إذ تتراوح بين 400 و1,000 دولار شهرياً”.

وبالنسبة لبوتين، فإنّ تركيزه ينصب على نجاحات أجهزته. فقبل أيامٍ من الهجوم السيبراني الروسي الكبير على الولايات المتحدة، أثنى بوتين على ضباط وكالة الاستخبارات الخارجية لـ”إسهاماتهم القيمة في ضمان أمن البلاد، وتنفيذهم المهام الأكثر صعوبة” في خطابٍ ألقاه بمناسبة الذكرى المئوية لوكالة الاستخبارات الخارجية في الـ20 من ديسمبر/كانون الأول عام 2020.

لكن على ما يبدو فإنّ الجولة الأخيرة من الكشوفات الاستخباراتية لم تُزعِج زعيم البلاد، وفي هذه المرحلة، ما الذي يُمكن أن يخسره من كشف حيله وألاعيبه؟

وكالات