السياسية:

ينوي دونالد ترامب تأسيس حزب سياسي جديد ويريد أن يسميه “الحزب الوطني”، فكيف يمكن أن يؤثر ذلك على الحزب الجمهوري من جهة وعلى النظام السياسي الأمريكي ككل من جهة أخرى؟

والقصة التي أوردتها أولاً صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، تقول إن ترامب تحدَّث في الأيام الأخيرة من رئاسته مع دائرته المقربة بشأن تأسيس حزب سياسي جديد؛ في محاولة منه لمواصلة التأثير في الحياة السياسية الأمريكية بعد أن يغادر البيت الأبيض، بحسب مصادر قريبة منه تحدثت للصحيفة.

وناقش ترامب الفكرة مع بعض مساعديه وأشخاص مقربين منه الأسبوع الماضي، وقالت المصادر إنه يريد أن يسمي الحزب الجديد “Patriot Party” أو “الحزب الوطني” أو حزب “المُحب لوطنه”.

وربطت وسائل الإعلام الأمريكية التي تناولت القصة بين تفكير ترامب في تأسيس حزب جديد وغضبه من قادة الحزب الجمهوري الذين تخلوا عنه ووجهوا له انتقادات عنيفة بعد أحداث اقتحام الكونغرس يوم الأربعاء 6 يناير/كانون الثاني.

وكان زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ وأبرز زعماء الحزب، ميتش ماكونيل، قد حمّل ترامب مسؤولية تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس، حيث قال في تصريحات، الثلاثاء 19 ينايركانون الثاني، إن “ترامب يستحق اللوم الموجَّه إليه، بسبب تحريضه على الشغب المميت في الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني”. وقد رفض البيت الأبيض التعليق على قصة الحزب الجديد.

هل فعلها أحد قبل ترامب؟

حتى الآن وفي ظل حديث مباشر من ترامب نفسه أو من أحد مساعديه حول قصة تأسيس الحزب الجديد، يظل غير واضحاً ما إذا كانت الفكرة التي يريد ترامب تنفيذها عبارة عن حزب سياسي بكل ما تحمله الكلمة، من تأسيس قاعدة من الأعضاء واختيار مرشحين في انتخابات الكونغرس القادمة بعد سنتين وما إلى ذلك، أم أنها مجرد واجهة إعلاميةٍ هدفها خدمة إمبراطورية الرئيس السابق التجارية حتى يظل تحت الأضواء، بحسب تقرير لمجلة بيزنس إنسايدر حول القصة.

والمعروف أن أمريكا يحكمها نظام سياسي ثنائي الحزبية في ظل وجود الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، ولا توجد تقريباً أحزاب أخرى تحظى بوجود سياسي، وإن كان جورج والاس، حاكم ولاية ألاباما الجمهوري، قد سبق ترامب إلى الانشقاق عن الحزب عام 1968، وأسس بالفعل “الحزب الأمريكي المستقل” الذي فاز بترشيح خمس ولايات بالفعل في رحلته للترشح للرئاسة.

لكن بخلاف محاولة والاس، لم يحظَ أي مرشح من خارج الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالفوز في أي انتخابات فيدرالية على مستوى البلاد، رغم أن بعض المرشحين المستقلين قد فازوا بمقاعد في الكونغرس سواء مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، لكن أعدادهم ضئيلة ويميلون للتصويت إما إلى الجمهوريين وإما إلى الديمقراطيين حسب قناعاتهم الشخصية.

ومن المتوقع أن تواجَه محاولة ترامب تأسيس حزب جديد بمقاومة عنيفة من جانب زعماء الحزب الجمهوري، لأن ذلك يمثل خطورة كبيرة على الحزب، إذ سينسلخ الجناح الترامبي وينضم إلى “الحزب الوطني” الجديد؛ وهو ما قد يؤدي إلى بداية النهاية للحزب الجمهوري، بحسب محللين.

والواقع أن محاولة ابتعاد كثير من المشرعين الجمهوريين عن ترامب قد أصبحت توجهاً عاماً بين كثير من قادة الحزب في أعقاب فضيحة اقتحام أنصاره الدموي للكونغرس يوم الأربعاء الأسود، والتي اعتبرها البعض الحريق الكبير الذي كاد يقضي على الحزب الأحمر، وبالتالي فإن تفكير ترامب في تأسيس حزب خاص به يعتبر تفكيراً منطقياً في هذا السياق.

ما الذي يراهن عليه ترامب؟

حتى تتضح الصورة بشأن ما ينوي ترامب فعله بعد أن يصبح رئيساً سابقاً، من المهم التوقف عند الإشارات التي جاءت في رسالة الوداع التي قام بتسجيلها وبثها البيت الأبيض مساء الثلاثاء، أي قبل ساعات من انتهاء رئاسته رسمياً، وتحدث عن الحركة الاجتماعية التي شكَّلها كسياسي وتضم الملايين من الوطنيين الأمريكيين وكيف أن تلك الحركة “في بدايتها فقط”.

كثير من المحللين يرون أن ترامب وإن غادر البيت الأبيض فإنه على الأرجح لن يختفي من الحياة السياسية، وأن الترامبية -وهو الوصف الذي يُطلَق على الجناح السياسي الذي أسسه الرجل المثير للجدل (القومية الأمريكية البيضاء)- أصبحت بالفعل واقعاً قائماً سوف يسعى لاستثماره فيما هو قادم.

فقد حصل ترامب على أصوات نحو 75 مليون ناخب أمريكي في الانتخابات التي فاز بها جو بايدن، ويرى كثير من المحللين أن على الأقل نحو ثلث ذلك العدد -أي نحو 25 مليون ناخب- لم يكونوا ناخبين جمهوريين تقليديين فيما سبق، لكنهم يمثلون القاعدة الانتخابية لترامب وهؤلاء من يراهن عليهم ترامب فيما هو قادم.

وجاءت كلمات ترامب بعد أن غادر البيت الأبيض للمرة الأخيرة ظهر الأربعاء 20 يناير/كانون الثاني، أمام بعض مؤيديه ومودعيه في قاعدة أندروز الجوية بواشنطن، قبل أن يستقل الطائرة الرئاسية للمرة الأخيرة في طريقه إلى فلوريدا، مُعبِّرة عما ينوي أن يقوم به، حيث قال: “سنعود.. بطريقة أو بأخرى”.

هل يتغير النظام السياسي الأمريكي؟

الشيء المؤكد الآن هو أن النظام السياسي الأمريكي ربما يكون في لحظة مفصلية من تاريخه الحديث، وكما كشف ترامب عن وجود قطاع عريض من المجتمع الأمريكي يشعر بالحنين إلى الماضي، حين كانت أمريكا دولة بيضاء تفرّق بين مواطنيها على أساس اللون، هناك أيضاً انقسام واضح داخل الحزب الديمقراطي وهو حزب يساري ليبرالي، لكن هناك جناحان متصارعان؛ أحدهما يسار الوسط الذي يمثله جو بايدن، والآخر اليسار الأقرب إلى الاشتراكية وأبرز رموزه بيرني ساندرز.

ترامب مخاطبا أنصاره يوم اقتحام الكونغرس- رويترز

وتناولت صحيفة الإندبندنت البريطانية بالفعل احتمال أن تشهد الساحة السياسية بواشنطن ميلاد أحزاب أخرى، في تقرير بعنوان “ماذا لو أصبح في الولايات المتحدة نظام من خمسة أحزاب؟”، رصد التحولات الكبيرة التي ظهرت جلياً على السطح خلال رئاسة ترامب، خصوصاً في أشهرها الأخيرة، والتي أبرزت الانقسام بصورة غير مسبوقة في العصر الحديث.

فالحزب الجمهوري، الذي التفَّ قادته حول ترامب وجعلوه أيقونة ورمزاً للحزب منذ ترشحه للرئاسة وفوزه بها قبل أربع سنوات، أصبح الآن منقسماً على نفسه بصورة غير مسبوقة، بعد أن أظهر اقتحام الكونغرس أن نائبه مايك بنس وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل يمثلان تياراً معادياً لتيار ترامب ورافضاً للانقلاب على الديمقراطية ورفض مزاعم سرقتها لصالح بايدن التي يصر عليها ترامب.

وهذا الموقف ليس إلا تجسيداً لانقسام أكثر عمقاً بين تيارين داخل الحزب؛ أحدهما هو التيار التقليدي المحافظ الذي يؤمن بقيم الرأسمالية وخفض الضرائب على رجال الأعمال والشركات الكبرى تشجيعاً للاستثمار ويميل سياسياً إلى الانعزال وعدم المشاركة الفعالة في أزمات وصراعات العالم، والتيار الثاني أو التيار الترامبي الذي يؤمن بتفوق العرق الأبيض وأن أمريكا بيضاء ولابد أن تظل كذلك ويرفض أنصاره قيم الديمقراطية إذا جاءت نتيجتها ضدهم كما حدث في الانتخابات الأخيرة.

وعلى الجانب الآخر، لا يعتبر الحزب الديمقراطي أكثر انسجاماً أو توحداً كذلك، فهناك أيضاً تياران داخل الحزب اليساري وكلاهما يسعى إلى الهيمنة على الحزب وتوجيه سياساته، فتيار ساندرز -الذي تنازل في آخر لحظة لبايدن أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي- أقرب إلى الاشتراكية وقيمها، بينما تيار بايدن تيار محافظ أكثر، ومن المتوقع أن تطفو الاختلافات والانقسام بين التيارين على السطح في وقت ما، خلال رئاسة بايدن، ما إن تخفت حدة الضجة التي يثيرها ترامب وأنصاره.

الخلاصة هنا هي أن النظام الديمقراطي الأمريكي، بإجماع المراقبين، يواجه تحديات غير مسبوقة ساهمت رئاسة ترامب في بلورتها ودفعها إلى السطح، بمعنى أن تلك التحديات كانت موجودة بالفعل قبل مجيء ترامب، لكن سنواته الأربع في البيت الأبيض قد أعطت دفعة غير مسبوقة لتيار اليمين المتطرف المؤمن بالقومية البيضاء للبلاد؛ مما أدى في المقابل إلى استنفار أكثر في الجانب الآخر من ناحية الأقليات من السود واللاتينيين وغيرهم، وهو ما يعني أن نظام الحزبين ربما يكون قد أصبح ضيقاً ولا يستوعب التيارات التي أصبح لها وجود فاعل على الأرض.
وكالات