عن اليمن والغزو “الوهابي” السعودي (1/2)
بعد انحسار النفوذ العثماني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وجدت الإمامة الزيدية في اليمن نفسها في صراعٍ مع الجار الشمالي الذي كان يسعى إلى الهيمنة، ويمرّ بحالةٍ من التوسّع المطّرد
السياسية – رصد :
حسام عبد الكريم*
في البداية، يجب القول أنه لا توجد إحصائيات. فكلّ ما نسمعه من نِسبٍ مئويةٍ حول التشكيلة المذهبية للمجتمع اليمني، إنما هي تعبيرٌ عن توجّهات القائلين بها ولا تعكس بالضرورة الحقيقة على الأرض، فالأرقام دائماً خاضعةٌ للتّلاعب بها حسب الهوى والميول. ولكن يمكن القول بشكلٍ إجمالي أنّ اليمن به مكوّنان أساسيّان: شيعي زيدي (يسود خصوصاً في شمال البلاد) وسنّي شافعي (في الجنوب) يمتزجان في كثيرٍ من المناطق وما بين القبائل في طول البلاد وعرضها.
ومن ناحيةٍ تاريخية، كان المكوّنان الشيعي والسنيّ في اليمن متآلفين إلى حدٍّ كبير، رغم سيطرة الإمامة الزيدية الشيعية على الحكم منذ أكثر من ألف سنة. لم تحدّثنا كتب التاريخ عن الكثير من حالات الصراع والتقاتل المذهبيّ في اليمن، خلافاً لمناطقَ أخرى في العالم الإسلامي. لم تسعَ الإمامة الزيدية الحاكمة إلى فرض التشيّع في البلد بالقوة والإكراه، كما لم يقم الشوافع (كما يُطلق عليهم في اليمن) بحربٍ مذهبيةٍ سنيّةٍ ضد إخوانهم الزيديين.
بعد انحسار النفوذ العثماني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وجدت الإمامة الزيدية في اليمن نفسها في صراعٍ مع الجار الشمالي الذي كان يسعى إلى الهيمنة، ويمرّ بحالةٍ من التوسّع المطّرد. بدأ الاستهداف السعودي الوهّابي لليمن عن طريق الحج. فقد قامت قواتٌ تابعةٌ لابن سعود بارتكاب مذبحةٍ كبيرة بحق قافلة الحجاج اليمنيين سنة 1923 في منطقة اسمها “وادي تنومة” أثناء سيرها إلى مكة، ووصل عدد الضحايا إلى ثلاثة آلاف.
وسرعان ما تحوّل الاستهداف من تهديدٍ لخط سير الحجّاج إلى حملةٍ سياسيةٍ عسكريةٍ كبيرة. أراد عبد العزيز آل سعود، المسلّح بالحركة الوهابية في نجد، أن يبسط نفوذه على اليمن أيضاً ليكمل سيطرته على جزيرة العرب كلها. وأسفرت نتيجة الصراع الطويل بين السعودية (الوهابية) واليمن (الزيدية) عن نجاح الملك عبدالعزيز، المتفوّق عسكرياً، في انتزاع مناطق عسير ونجران وجيزان (وسكانها مزيجٌ من الشيعة الاسماعيلية والزيدية) من اليمن وضمّها إلى مملكته. اضطرّ الإمام يحيى حميد الدين على الموافقة وقبول “اتفاقية الطائف” سنة 1934 مع ابن سعود التي ثبتت الأمر الواقع ورسّخت ما حصل على الأرض من توسّعٍ سعوديٍّ في المناطق اليمنية، مقابل توقّف الزحف والهجمات السعودية على اليمن وضمان سلامة الحجاج. ولكنّ تلك الاتفاقية كانت أقرب ما تكون إلى هدنةٍ طويلة الأمد حيث نصّت على تحديد المدّة، 20 سنة قابلة للتجديد.
وعلى الرغم من مرارة خسارة جزءٍ من الأرض “والرعيّة”، إلاّ أنّ الإمام يحيى التزم بالاتفاق وسادت بين الطرفين حالةً طويلةً من السلام والهدوء. واستمر الحال كذلك إلى ما بعد وفاة الملكين الكبيرين من كلا الطرفين، عبد العزيز ويحيى، بل وتوثّقت العلاقة بين المملكتين خصوصاً مع ظهور النفط وانتقال أعدادٍ كبيرةٍ من اليمنيين إلى عمل والعيش في السعودية.
وفي عام 1962، حصلت قفزةٌ نوعيّةٌ في العلاقة بين الطرفين ووصلت مرحلة التحالف التام وذلك عندما حصلت الثورة/الإنقلاب على حكم الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين في اليمن. صار للطرفين عدوٌّ مشتركٌ يهدّد وجودهما على حدّ سواء، جمال عبد الناصر في مصر، الذي قرّر أن يساند النظام الجمهوري الجديد في اليمن بكل قوة، فقابله الملك فيصل بدعمٍ لا محدود للإمام البدر بن أحمد حميد الدين. وهكذا فإن السعودية (الوهابية) صارت أهمّ حليفٍ وداعمٍ لحكم الإمامة الزيدية (الشيعية) آنذاك.
مع ثبات النظام الجمهوري واستقراره، خفتت قليلاً النبرة الدينية في اليمن ولم يعد ثمة حديثٍ عن شرعية حكم “بني هاشم” و”آل البيت” كما ساد الحال في عهد النظام السابق، وسادت بدلاً من ذلك شعاراتٌ وطنيةٌ وقوميةٌ عروبية، تتقاطع مع أحياناً مع نزعاتٍ يساريةٍ اشتراكية، رغم أنّ الكادر البشري الذي قام بالثّورة واستلم مقاليد الحكم (السلال/ الأرياني/ الحمدي) ينتمون إلى الزيدية من الناحية المذهبية (والذين كان آخرهم الرئيس علي عبد الله صالح ذاته).
حالة الهدوء والسلام المذهبي في الداخل (اليمني) وفي الخارج (مع السعودية) استمرت حوالى ربع قرنٍ إلى أن بدأت تتضعضع، وكانت المبادرة سعودية المنشأ. فيبدو أنّ الوهابية السعودية التكفيرية بطبعها، مع فورة النفط ووفرة الأموال والامكانيات، قد وجدت نفسها في موضعٍ يمكّنها من مهاجمة عدوّها المذهبي القديم (الزيدي -الشيعي) في عقر داره! ووجدت الوهابيّة السعودية، مع وجود الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، فرصةً للتمدّد في اليمن وتحويل شعبه إلى السلفيّة الوهابية.
كان علي عبد الله صالح مطيعاً للسعودية، يقبل عطاياها المالية بكل سرورٍ ومستعداً لفتح أبواب اليمن لها لتفعل ما تشاء ما دام نظامه لا يُمسّ بسوء. وصل “تعاون” صالح مع السعودية إلى حدّ تجاوزه للثوابت الوطنية اليمنية، حين وقّع سنة 2000 مع السعودية “معاهدة جدة” يعترف فيها بشكلٍ نهائيٍّ بالحدود اليمنية السعودية كما هي، أي أنّه تنازلٌ عن حقّ اليمن بصورةٍ رسميّةٍ، ووثيقة تثبّت ضمّ مناطق عسير ونجران وجيزان إلى الأرض السعودية (اختلفت التقديرات بشأن الرشوة التي قبضها صالح من السعودية نظير ذلك. ويؤكد الكثيرون أنها كانت بالمليارات، قبضها صالح شخصياً هو وشريكه عبد الله الأحمر).
البداية كانت مع شيخٍ يمنيٍّ أصله من مدينة صعدة (معقل الزيديّة التاريخي في اليمن) اسمه مقبل الوادعي. كان الوادعي يعيش منذ فترةٍ طويلةٍ في السعودية التي حصل على جنسيتها واعتنق مذهبها (الوهابي). وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عاد الوادعي إلى صعدة بمهمةٍ كلفته بها الوهابية السعودية: التبشير بالمذهب والقضاء على الزيدية في عاصمتها! تحت ستار الدعوة للإسلام.
قام الوادعي بتأسيس معهد “دار الحديث” في بلدة دماج، في ضواحي صعدة. كانت الميزانية مفتوحةً والإنفاق بلا حدود. وبالإضافة إلى “دار الحديث”، أنشأ الوادعي مراكز “تحفيظ القرآن” في أماكنَ عديدةٍ أخرى في صعدة. وشيئاً فشيئاً، اتضّحت معالم مشروع الوادعي وضخامته. تحوّلت “دار الحديث” إلى ما يشبه جامعةً سلفيّةً عالميّة يأتيها طلابٌ متشددون من شتى أنحاء العالم لينهلوا من “العلم الشرعي” الذي يبشّر به الوادعي وبقية الشيوخ الوهابيين.
كان الطلاب القادمون من الخارج لا يدفعون مقابلاً، بل يتمّ الإنفاق عليهم وإيواءهم وحتى تزويجهم! ولإلقاء الضوء على حجم المشروع الوهابي في صعدة ونوعيته، أشير إلى تقارير الصحافة الجزائرية سنة 2014 (بعد خروج السلفيين من دماج إثر هزيمتهم في القتال مع أنصار الله) التي ذكرت إنّه تجري محاكمة 30 جزائرياً من الوافدين من اليمن على خلفية الانتماء إلى جماعاتٍ سلفيّةٍ إرهابيةٍ تقاتل خارج البلاد.
وتحدثت الصحف عن شبكةٍ ضخمةٍ في منطقة “وادي سوف” في الجزائر تقوم بتجنيد شبّانٍ وإرسالهم إلى صعدة في اليمن حيث يلتحقون فور وصولهم بـ”دار الحديث” ومن ثم ينقلبون من طلابٍ لعلم الحديث إلى “مجاهدين”، إذ يتلقّون تدريباتٍ بمعهد دماج على استخدام الأسلحة وصنع القنابل وكيفية زراعتها على أيدي متطرفين ليبيين استعداداً “للجهاد” ضد “الحوثيين الكفرة”! وقدّرت الصحافة عدد الجزائريين في صعدة بحوالى 200 مقاتلاً!
ولنا أن نتخيّل حجم الأذى الذي كان يلحق بالزيدية من أهل صعدة بسبب هذا “المعهد” الذي تأسس في بلدهم. فالمناهج الوهابية التي تُعلَّم به كانت تدور حول “شِرك الشيعة والرافضة” إلى آخر العقائد الوهابية المعروفة. وهذه عيّناتٌ من المناهج الدراسية التي كان يعلّمها الشيخ مقبل الوادعي لتلاميذ معهد “دار الحديث”: (الروافض والشيعة أشدّ على الإسلام من اليهود والنصارى)/ (الشيعة هم آلةٌ لكـلّ طاعنٍ في الإسلام)/ (السنّة بين الشيعة والشيوعية)/ (الشيعة وحربهم لسنّة المصطفى)/ (رياض الجنّة في الردّ على أعداء السنة)/ (الطليعة في الردّ على غلاة الشيعة) ومثلها الكثير؛ أيّ أنّ الناس في صعدة كان عليهم أن يروا بأعينهم ويسمعوا بآذانهم، صباح مساء، إهانة عقائدهم وتكفير مذهبهم وشتم رموزهم، وأين؟ في عقر دارهم.
كلّ هذا، وحكومة علي عبد الله صالح لا تحرّك ساكناً لوقف ما يجري في عاصمة الزيديّة. سارت الأمور على هوى الوادعي الذي كان يرى ازدهار معهده وتوسّعهِ المطّرد وظنّ أنه قُضِي الأمر وأنّ أحداً لن يقدر على وقف الزحف الوهابي. وبعد ذلك كلّه، كان من الطبيعي إذن أن يظهر من يتصدّى للغزو الفكري السعودي ويدافع عن المذهب في وجه الغرباء الذين يحاولون تغيير البنية المذهبية للناس في صعدة وبقية اليمن. وهنا نهض بدر الدين الحوثي.
كان السيّد بدر الدين الحوثي ينتمي إلى عائلةٍ عريقةٍ من أئمة الزيدية وفقهائها. وبحكم نسَبِه الذي يرجع إلى آل البيت، كان يحظى بمكانةٍ مرموقةٍ في أوساط الناس في صعدة، وفي اليمن عموماً. وكان عالماً كبيراً وله كتبٌ كثيرةٌ في الفقه وأصول الدين والعلوم الشرعية. بدأ السيّد الحوثي في التصدي فكرياً للغزو الوهابي. فألّف “الإيجاز في الردّ على فتاوى الحجاز” و”من هم الوهابية” وغيرها من الكتب التي تردّ على تهجّمات الوهابيين ودعاياتهم.
التفّ غالبية الناس في صعدة حول إمامهم ورأوا فيه منقذاً لهم من براثن السلفيين التكفيريين. ولكن سرعان ما بدأ السيّد الحوثي يتعرّض لمضايقاتٍ وتهديدات (ويُقال أنه تعرّض حتى لمحاولة اغتيال)، مما اضطرّه إلى مغادرة اليمن خوفاً على حياته. ذهب أولاً إلى السعودية التي سمحت له بالبقاء فيها 10 أيام غادر بعدها إلى الأردن ثم سوريا وأخيراً وصل إلى إيران سنة 1994 وبقي فيها لسنة ثم عاد إلى اليمن.
لم يكن ذهاب السيّد بدر الدين الحوثي إلى إيران مستغرَباً، فهو في الواقع كان، من البداية، من المعجبين بالإمام الخميني، وله كلامٌ إيجابيٌّ جداً عنه وعن الثورة الإسلامية التي أطاحت بعرش الشاه في إيران. ومن البديهي أنّ فترة وجود السيّد الحوثي في إيران شهدت تعارفاً وتواصلاً بينه، كإمامٍ زيديّ، وبين فقهاء الإماميّة الإثني عشريّة، مما أدّى إلى مزيدٍ من التقارب والتفاهم بين المذهَبيْن الشيعيين.
ولكنّ السيّد بدر الدين كان طاعناً في السن، وكان فقيهاً وعالماً قبل كل شيء. ولذلك، فإنّ قيادة الحركة الشعبية التي أطلقها انتقلت إلى ابنه الأكبر حسين، فيما اكتفى هو بدور الأب الروحي أو المرشد… يتبع
* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع