عبدالباري عطوان*

سارع جو بايدن الرئيس الأمريكي المُنتَخب إلى توجيه رسالة عالية الأهميّة إلى ايران عبر صحيفة “نيويورك تايمز” يُؤكّد فيها على استِعداده للعودة إلى الاتفاق النووي، مُؤكّدًا أنّه بُدون هذا الاتّفاق ستنزلق دُول المنطقة الرئيسيّة (السعوديّة، تركيا، مِصر) إلى سباقٍ نوويّ يَصعُب التنبّؤ بمخاطره.

هذه الرّسالة التي جرى ترتبيها على عجلٍ في وقتٍ كانت فيه السّلطات الإيرانيّة تُرمّم جُروحها، وتُحاول امتِصاص صدمة اغتِيال العالم النووي الأوّل محسن فخري زادة المُهينة، جاءت لتعزيز الجناح الإصلاحي برئاسة حسن روحاني ووزير خارجيّته محمد جواد ظريف، الذي يُواجِه ضُغوطًا قويّةً من الجناح المُتشدّد المدعوم من المُرشد الأعلى الذي يُطالب بالرّد بقُوّةٍ، على كافّة الجبَهات على عمليّة الاغتِيال هذه المُتّهمة أجهزة الاستِخبارات الإسرائيليّة بالوقوف خلفها.

***
أخطر ما في هذه الرّسالة التي ستزيد من غضب المُتشدّدين، وإحراج “المُعتدلين” في المُؤسّسة الإيرانيّة الحاكمة عدّة نقاط:

الأولى: تأكيد بايدن على أنّ مُفاوضات العودة إلى الاتّفاق النووي ستتناول عدّة مواضيع أبرزها تفكيك برامج الصّواريخ الباليستيّة الإيرانيّة.

الثّانية: إشراك دول أُخرى في المُفاوضات مِثل المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة، ودون أيّ ذِكر لمِصر أو العِراق أو تركيا، وهذا يعني وضع إيران وبرامجها النوويّة تحت وصاية إقليميّة بعد الوِصاية الدوليّة.

الثالثة: تمديد فترة القُيود على أنشطة إيران لإنتاج المواد الانشِطاريّة التي قد تُستَخدم لصُنع أسلحة نوويّة، وهذا يعني إطالة المُدّة الزمنيّة للاتّفاق النووي إلى أكثر من عشر سنوات.
الرابعة: الحُصول على التزامٍ إيرانيّ بوقف كُلّ الدّعم السّياسيّ والعَسكريّ والماليّ للأذرع العسكريّة الحليفة في اليمن ولبنان وسورية والعِراق وفِلسطين المُحتلّة.

سيكون من الصّعب على الجناح الإيراني المُتشدّد أن يقبل بكُل، أو بعض، هذه الشّروط الأمريكيّة التّعجيزيّة المُسبَقة، لأنّ هذا يعني تقزيم “الثّورة الإيرانيّة”، ونسف كُل أدبيّاتها في داخل إيران وخارِجها، وتحويلها إلى “دُويلة” منزوعة المخالب والأنياب، فقبل أيّام أصدر مجلس الشورى الإيراني الذي يُسيطِر عليه الصّقور قرارًا بالإجماع للانتِقام لاغتِيال فخري زادة، مَصحوبًا بقراراتٍ أُخرى برفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 20 بالمِئة، ومنع المُفتّشين الدّوليين من زيارة وتفتيش المُنشآت النوويّة الإيرانيّة.

المسألة الأُخرى التي ربّما تغيب عن ذِهن إدارة بايدن، والمُراهنين على الجناح المُعتدل، أنّ بحث هذه الأهداف المذكورة آنفًا، وخاصّةً مسألتيّ الصّواريخ الباليستيّة، ورفع السّقف الزّمني للاتّفاق، يحتاج إلى أمرين، الأوّل مُوافقة البرلمان ومن ثمّ المُرشد الأعلى السيّد علي خامنئي أوّلًا، والثّاني أنّ إيران مُقبلة على انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة في أيّار (مايو) المُقبل، أيّ بعد أربعة أشهر من تولّي بايدن السّلطة، ولا نعتقد أنّ هذه المُدّة كافية للتّفاوض على الاتّفاق وتعديله، (الوصول إلى اتّفاق استغرق 5 سنوات من التّفاوض)، ولا نعتقد أيضًا أنّ هُناك أيّ فُرصة لاستِمرار الإصلاحيين في الحُكم، وفوزهم في هذه الانتِخابات، ومُواصلة المُفاوضات مع الإدارة الجديدة بالتّالي في ظِل ازدِياد شعبيّة المُتشدّدين.

السيّد خامنئي كان وما زال مُعارِضًا للاتّفاق النووي، وازدادت مُعارضته بعد تخلّي إدارة ترامب عنه، وفرض عُقوبات قاسية، بل قاتلة على إيران، وبات مُقتَنِعًا، حسب مصادر مُقرّبة منه، تفضيله للنّموذج الكوري الشّمالي، فلو تنازل زعيمها كيم جونغ أون عن تجاربه النوويّة والصاروخيّة والباليستيّة ورضَخ للشّروط الأمريكيّة لأصبَحت بلاده مُستَعمرة أمريكيّة.

***
ما زالت أخطار العُدوان الإسرائيلي الأمريكي المُتوقّع على إيران قائمةً، مثلما بات الانتِقام الإيراني لاغتِيال فخري زادة حتميًّا، وسيكون الرّد دقيق ومَحسوب ومُؤلم في الوقتِ نفسه، لأنّ غِيابه سيعني نِهاية النّظام الإيراني، وهو ما كان يهدف إليه ترامب، أيّ تغيير النّظام، فعمليّة الاغتِيال هذه أحدثت جُرحًا غائِرًا نازِفًا في هيبة النّظام وكرامته ومصداقيّته.

بنيامين نِتنياهو الذي يُواجِه انتخابات برلمانيّة رابعة، ومُحاكمة وشيكة بتُهم قضايا فساد ويُريد تزعّم حِلفًا سُنِّيًّا عَربيًّا ضدّ إيران، لا يملك إلا بضعة أسابيع لتنفيذ مُخطّطه الفوضويّ هذا، وما تقاطر المسؤولين الأمريكيين في إدارة ترامب الى منطقة الشّرق الأوسط، وبالتّحديد الرياض والدوحة وأبوظبي (بومبيو ثمّ كوشنر) إلا تحضيرًا لتنفيذ هذا المُخطّط العُدواني، وإفشال إدارة بايدن قبل أن تبدأ، وهذه الأسابيع القليلة المُقبلة القادمة هي فُرصته الأخيرة لجرّ ترامب إلى الحرب بطَريقةٍ أو بأُخرى، ولا نَستَبعِد عمليّات اغتِيال أُخرى، أو هجمات عسكريّة مَحدودة، أو مُوسّعة في الأيّام القليلة القادمة.. واللُه أعلم.

* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع