هل تُكرّر تركيا تجربة الهزيمة في اليمن؟
السياسية – رصد:
عُرف اليمن على مرّ العصور باسم “اليمن السّعيد”، نظراً إلى تراكم ثقافة السّلام والتّسامح فيه، وسُمي “مقبرة الغزاة”، لكونه عصياً على أيّ غزو أجنبي، كما سمّاه الأتراك “مقبرة الأناضول”، فقد كانت خسائرهم البشريّة فيه تعدّ أكبر الخسائر بالنّسبة إلى أيّ قوة غازية حاولت احتلال اليمن، فالوثائق التركيّة الرسمية تُشير إلى أنّ 300 ألف جندي وضابط وقائد من جيش الدولة العثمانية قتلوا في اليمن.
لذا، لا غرابة في أنَّ مقابرهم منتشرة على طول المناطق الشمالية والغربية والوسطى لليمن. ولا نُجانب الصَّواب إذا ما قُلنا إنّ هزيمة الأتراك في اليمن كانت مُقدّمة لتفكُك وانهيار الدولة العثمانية التي استنزفت جزءاً كبيراً من قدراتها في اليمن.
وفي 18 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، نشرت صحيفة “يني شفق” التركيَّة مقالاً لياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي، بعنوان “نظرة تركيا إلى اليمن في ضوء تجربتها في ليبيا وأذربيجان والصومال”، يُشيد فيه بدور بلاده في الدول التي تدخَّلت فيها، محاولاً إسقاط ذلك الدور على اليمن، ثم ينتقل إلى مهاجمة ما يُسمى “عاصفة الحزم” الَّتي كانت بلاده على علم مُسبق بها، بل وقدَّمت الدعم للرياض، ليتّضح لأنقرة في ما بعد عدم صواب موقفها ودعمها لتحالف العدوان على اليمن.
وينتقد أقطاي، فشل التحالف السعودي الإماراتي وسياسته في إضعاف اليمن، وهي التي تقوم على التّعامل مع جميع الأطراف اليمنيين كأعداء وعدم تمكينهم من التحاور في ما بينهم، ويقول إنّ السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار في اليمن هو الاعتراف بكلّ شرائح الشعب اليمني، وفتح الطريق أمام حوار من شأنه أن يجلب السلام، ولكنَّ أقطاي ختم مقاله بتعصّب فج وتناقض نسف كلّ ما طرحه عن السلام في اليمن، قائلاً: “إنّ النظر إلى حزب الإصلاح في اليمن باعتباره عدواً، يعني القضاء على جميع الشرائح في اليمن وجلب شعب آخر من الخارج”.
اختزال أقطاي لجميع شرائح الشعب اليمني في حزب جلب لنفسه العداء، ومباركة العدوان على اليمن، ينمّان عن جهل وإساءة إلى الشعب اليمني وإلى العلاقات اليمنية – التركية، ويُعبر عن ثقافة إقصائية لأقطاي، وهي الثقافة نفسها لحزب “الإصلاح” الذي يدَّعي تمثيل اليمن والدفاع عنه، في الوقت الذي يبيع كوادره للخارج في صفقات مشبوهة، فيما كان الأجدر به وهو يتلقى هزائم في ما تبقى من الجبهات، ولا سيما في مأرب، الاحتفاظ بمُقاتليه للدفاع عما يدّعيه، بدلاً من إرسالهم إلى ليبيا كمرتزقة لتركيا!
كما تقوم قياداته بنهب أموال الشعب اليمني المُتحصلة من عائدات النفط والغاز وتهريبها إلى الخارج، فقد تمكّنت قيادات حزب “الإصلاح” من وضع اليمن في المرتبة التاسعة بين الدول الأكثر شراء للعقارات في تركيا، بشراء أكثر من 2200 ألف عقار وتأسيس 164 شركة حتى نهاية العام 2019، وفق تقرير معهد الإحصاء التركي. وقد نال المسؤولون في الحزب الحصة الأكبر في تلك الاستثمارات.
يأتي هذا المقال في إطار توجّه تركي إعلامي وسياسي مُستفزّ تجاه اليمن، يرتبط بالفتور الحاصل في علاقات أنقرة بالرياض وأبو ظبي، مستثمراً ورقة حزب “الإصلاح” المُصنف جماعة إرهابية من قبل النظامين السعودي والإماراتي، رغم أنه تصنيف مؤقت يستجيب لدواعٍ مرحلية بالنسبة إلى السعودية، فعلاقة “الإصلاح” بالنظام السعودي لا انفكاك لها. ومهما بلغت علاقته بتركيا، فإنها تظلّ ثانوية أمام علاقته بحاضنه التاريخي “النظام السعودي”، الذي يعتبر الحزب ركيزة رئيسة لنفوذه في اليمن.
ورغم محاولات الإعلام التركي تهيئة الرأي العام الداخلي لنوع من التدخّل في اليمن، فمن الصّعب على الشّعب التركي تقبُل تكرار التجربة المريرة لجيشه، والتي لا تزال حاضرة في ذاكرته وفي أغاني التراث التركي.
إعادة ضبط السياسة الخارجية التركية تجاه اليمن
طموحات إردوغان التوسعية المرتبطة بالماضي العثماني تدفع به إلى التدخل في الشؤون الداخلية للدول، فسوريا مثال حي لعدوان تركي ينتهك السيادة ويرتكب الجرائم بحق أبناء الشعب السوري العزيز.
وأصبحت السياسة الخارجية التركية، وفقاً للتقرير الصادر عن مفوضية الاتحاد الأوروبي في تشرين الأول/أكتوبر 2020، تتّسم بالعدائية بشكل متزايد، بما يُهدد السلم والاستقرار في المنطقة. لذا، صوَّت البرلمان الأوروبي في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري على اتخاذ عقوبات ضد تركيا، رداً على سياساتها العدائية تجاه قبرص واليونان، إضافة إلى التوتر الذي طرأ مؤخراً على علاقاتها بألمانيا وفرنسا.
مثل هذه السياسة التركية يُمكن أن تقضي على طموحات أنقرة وفرصها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كما أن وصول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى البيت الأبيض يحمل مخاوف تركية من إمكانية العودة لاستثمار الورقة الكردية أميركياً ضد أنقرة.
لذا، إن مثل هذه المؤشرات يقتضي إحجام إردوغان عن كل الملفات التي توسّع فيها إقليمياً، وعودة تركيا إلى سياسة “تصفير المشاكل”، عبر تحسين علاقاتها مع جميع جيرانها وإنهاء صراعاتها التاريخيّة. عندها، يُمكن أن نرى تركيا ترسم حدودها البحرية مع اليونان القريبة بدلاً من ذهابها إلى ليبيا.
إنّ انتقال تركيا من دور شركة أمنيّة مصدّرة للمرتزقة أو دور إنساني مشبوه جنوب اليمن عبر حزب “الإصلاح” إلى دور سياسي فاعل يُسهم في إحلال السلام في اليمن، يحتاج إلى التحرر من عقلية أقطاي المتعصّبة وتوسيع مجال الرؤية التركية، لتتضح حقيقة المشهد اليمني، فالسياسة الخارجية التركية تجاه اليمن بحاجة إلى إعادة تقييم مُحدداتها وضبطها، بحيث تكون عقلانية لا إيديولوجية، وتنطلق من اعتبارات المصالح القومية التركية واعتبارات مهمة، مثل تجربتها السابقة في اليمن، وتقييم تجربة فشل واستنزاف تحالف العدوان عليه، وموقف دول تحالف العدوان من أي تدخل تركي، إضافة إلى ضرورة إدراك أن حزب الإصلاح “ماركة” سعودية مُسجّلة، كما يرزح الرئيس المنتهية ولايته هادي وما يُسمى بالحكومة “الشرعية” و”المجلس الانتقالي” تحت الوصاية الجبرية للنظامين السعودي والإماراتي، فيما تبقى صنعاء الطرف الأكثر حضوراً وتعبيراً لتطلعات الشعب اليمني العزيز للسلام.
إنّ النجاحات التي يُمكن أن تكون قد تحقّقت من وجهة نظر تركيا في ليبيا أو قطر أو غيرها، لا ينبغي أن تكون مقياساً أو حافزاً لمغامرة في اليمن، فالمعطيات السابقة، إضافة إلى وجود مساعٍ أممية لإحلال السلام، لا تؤهل تركيا لأي نوع من التدخل في اليمن، ولا سيما عسكرياً، كما تقترح التوجه نحو صنعاء كخيار براغماتي مُتاح يعدّ أقصر الطرق لأي توجه سياسي تركي لتحقيق مصالح مشتركة، من خلال المساهمة في إحلال السلام في اليمن، فصنعاء ودماء الشهداء لن تقبل بغير إسقاط الوصاية والهيمنة الأميركية على اليمن والمنطقة.
وهذا التوجه الثوري هو أحد القواسم المشتركة مع أنقرة، ويُمكن أن يكون مدخلاً لتفاهمات، ولا سيما أن المنطقة مُقبلة على مرحلة مفصلية، سمتُها الرئيسية قيادة العدو الإسرائيلي لمحور التطبيع واستهداف الدول الرافضة للهيمنة والوصاية بأساليب أبسطها الحرب الباردة.
ختاماً، ما لم يستطع حزب “الإصلاح” تحقيقه بمعية عدوان دولي عريض ضمَّ أكثر من 15 دولة، لن يكون بمقدوره تحقيقه عبر محاولاته لتوريط تركيا، كما أنَّ محاولات إطالة أمد العدوان أو جعل اليمن ساحة لتصفية الحسابات مرفوض ومُدان، ولن يُحقق مصالح لتركيا أو حزب الإصلاح.
إضافةً إلى ذلك، إنّ اعتراف تركيا بخطأ سياستها الداعمة للعدوان على اليمن يتطلب تصويب تلك السياسة وليس تكرارها، فالمكانة الإقليمية لتركيا تنأى عن حضور مشبوه في اليمن يُزاحم الفشل السعودي – الإماراتي أو يجعلها مطية لحزب يخسر مصالحه وحضوره فيه، ناهيك بضمان مصالح غيره.
لذا، إنَّ طرق الأبواب الداعمة لإنهاء العدوان والحصار وإحلال السلام في اليمن، من شأنه تهيئة المناخ لتحقيق مصالح مشتركة للبلدين، في ظل الأمن والاستقرار الضامن لتلك المصالح، فهذا هو التوجه الأمثل لتركيا، كما يُمكن للتاريخ أن يُعيد نفسه في اليمن إذا ما شاء إردوغان، ولكن المؤمن لا يُلدغ من جُحر مرتين.
* المصدر: الميادين نت
* المادة الصحفية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع