الرابح والخاسر في التسوية الروسية لأزمة ناغورنو كاراباخ
شكّلت هذه التسوية، بسرعة إقرارها، مفاجأة لأغلب الأطراف غير المعنيّين مباشرةً بها، إذ إنَّ تصريحات أذربيجان وأرمينيا كانت بعيدة من أن تؤسّس لتسوية واسعة وتفصيليّة، مثلها مثل العمليات العسكرية الأخيرة على الأرض.
شارل أبي نادر*
بعد أكثر من اتفاقية لوقف لإطلاق النار، بقيت جميعها غير فعّالة، توصَّل قادة أذربيجان وأرمينيا في التاسع من الشهر الحالي، وبرعاية مباشرة من الرئيس الروسي، إلى اتفاق تسوية أنهى – حتى الآن – مسلسلاً من الحروب والمواجهات، كانت نسختها الأخيرة قد أخذت طابعاً مدمراً وشرساً اختلف عن مواجهات العامين (1990-1993)، نظراً إلى تطور القدرات والأسلحة العسكرية لدى الطرفين، وخصوصاً لدى الجيش الآذري، الذي حسم معركته الأخيرة بنماذج متطورة جداً من الطائرات المسيّرة التركية والإسرائيلية.
هذه التسوية الصاعقة شكّلت، بسرعة إقرارها، مفاجأة لأغلب الأطراف غير المعنيّين مباشرةً بها، إذ إنَّ تصريحات الطرفين المتقاتلين، الآذري والأرميني، كانت، وإلى ساعة قريبة من إخراج التسوية، مثلها مثل العمليات العسكرية الأخيرة على الأرض، بعيدة كلّ البعد من أن تؤسّس لتسوية سريعة وواسعة وتفصيليّة، كتلك التي جاءت نتيجة توافق الرؤساء الثلاثة المذكورين، وخصوصاً مع ظاهرة استهداف المدنيين والمناطق الآهلة بشكل مقصود لدى الطرفين.
بنود التسوية الأساسية تقضي، إضافة إلى وقف إطلاق النار، بأن تحتفظ أذربيجان بالأراضي التي سيطرت عليها قواتها في ناغورنو كاراباخ في القتال الأخير، وأن تنتشر قوة حفظ سلام روسية على امتداد خطّ القتال في الإقليم، والأهم في بنود التسوية يعود إلى سيطرة أذربيجان على مناطق أغدام وكلبجار ولاتشين، بحيث تتضمن الأخيرة ممراً آمناً ومحمياً يربط أرمينيا بستيباناكيرت بإشراف القوات الروسية… فكيف يمكن تقييم معطيات هذا الاتفاق وأبعاده؟ وهل يمكن تحديد الرابح والخاسر فيه؟
بالنسبة إلى الجانب الروسي
قد تكون روسيا الطرف الخارجي الأكثر ربحاً من هذه التسوية، فهو الّذي قادها وأخرجها على وجه السرعة، لتأتي وكأنها عقاب للفريقين على إسقاط المروحية الروسية فوق المنطقة الحدودية بين أرمينيا وأذربيجان، في الوقت الذي حافظ من خلالها الجانب الروسي أولاً على موقع متقدّم في النفوذ الخارجي لمنطقة جنوب القوقاز، وثانياً على علاقة جيدة مع الدولتين، متخلّصاً من الإحراج الذي رافق موسكو منذ دعمها أرمينيا للسيطرة على أراضٍ آذرية خلافاً للقانون الدولي في العام 1993، واضعاً نقطة ارتكاز داخل إقليم ناغورنو كاراباخ عبر وحدات حفظ أمن وفرض سلام ومراقبة على الأقل لمدة 5 سنوات قادمة، يستطيع من خلالها التأثير في رعاية أو على الأقل مراقبة وحماية مصالح روسيا وأمنها القومي في جنوب القوقاز.
بالنسبة إلى الجانب الإيراني
ربحت طهران أيضاً علاقة جيدة مع الدولتين (أذربيجان وأرمينيا)، مع وقف التوتر على حدودها، إضافةً إلى إقفال (مبدئياً) مسار دخول الإرهابيين إلى منطقة جنوب القوقاز الاستراتيجية والحيوية لأمنها، وهو موضوع يحتاج ربما إلى متابعة واسعة لاحقاً للتأكد من إمكانية تحققه، كما نزعت من “إسرائيل” فرصة ذهبية كانت تستغلها، وتحت غطاء متابعة فعالية أسلحة متطورة (طائرات مسيّرة وأجهزة رصد) باعتها لأذربيجان، لمراقبة العمق الإيراني وتهديد أمن إيران القومي.
بالنسبة إلى أرمينيا
صحيح أنها خسرت الحرب، وأرغِمت عبر الضغوط الميدانية على إعادة مناطق آذرية كانت سيطرت عليها بين العامين 1990 و1993، إضافةً إلى خسارة سلطتها الحالية شعبياً وسياسياً، إلى درجة قد تطيح بها قريباً، ولكنها ربحت أمناً وسلاماً وإبعاداً لخطرٍ داهم مؤكد على جغرافيتها، أبعد من إقليم ناغورنو المتنازع عليه، إضافةً إلى أنها ربحت وضعاً سياسياً خارجياً مستقراً قد يؤسس لإيجاد حل دولي يعطيها سلطة على إقليم ناغورنو كاراباخ مع عاصمته ستيباناكيرت (المعدل)، بعد استعادة أذربيجان المناطق المذكورة، مع إمكانية كبرى لأن تعيش مستقبلاً استقراراً اقتصادياً واعداً.
بالنسبة إلى أذربيجان
من الطبيعي أنها أكثر الرابحين، من خلال استعادتها مناطق واسعة كانت خسرتها سابقاً، مع ربط آمن لإقليم ناختشيفان الذي كان محاصراً ومفصولاً عنها بالكامل، إضافةً إلى محافظتها على علاقة جيدة سياسياً واقتصادياً مع روسيا وإيران وتركيا وجورجيا، وربما مستقبلاً مع أرمينيا، مع خسارة أرمن إقليم ناغورنو غاراباخ أية فرصة مستقبلية لتشكيل إدارة ذاتية مستقلة عنها (عن أذربيجان)، إضافة إلى أنها أثبتت نفسها قوة فاعلة لها حضورها العسكري والسياسي في جنوب القوقاز.
بالنسبة إلى تركيا
في الظاهر، يبدو أن تركيا ربحت من التسوية، إذ إنها كانت، ومنذ البداية، الداعم الرئيس لأذربيجان في معركة استعادة إقليم ناغورنو سياسياً وعسكرياً. وقد ظهر الرئيس إردوغان الفائز في التحدي بمواجهة أكثر من دولة أوروبية وغير أوروبية، إضافةً إلى تحدي أرمينيا طبعاً، ولكن حقيقة الأمر أن تركيا ستكون عملياً الخاسر الأكبر في التسوية الحالية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: كانت أنقرة خارج التسوية بعد أن كانت تشكّل خطّ الهجوم الأول في المعركة. وفي الوقت الذي كانت تدفع الرئيس الآذري وحكومته إلى استغلال الوضع الميداني والعسكري، ومتابعة الضغط عسكرياً، واستكمال السيطرة على كامل الإقليم وباقي المناطق المحتلة من أرمينيا، فقد حصلت التسوية في موسكو من دون أن يكون لها أيّ دور فيها، كما أنها (التسوية) لم تلحظ أي تواجد لوحدات تركية، سواء كانت عسكرية أو أمنية أو وحدات مراقبة.
ثانياً: لن تستطيع تركيا إكمال مناورتها الخفية من إطلاق معركة استعادة أذربيجان لأراضيها المحتلّة، إذ إنَّها كانت المحرك الأول لهذه المعركة منذ بداية الصيف الماضي، سياسياً ودبلوماسياً، وذلك بالتزامن مع فتحها معركة الحدود البحرية مع اليونان وملفّ جزيرة ميس بالتحديد، إذ كانت عينها على نصب كمين للمجتمع الدولي، يقف فيه مع أرمينيا بشكل مخالف للقوانين الدولية، ويرفض استعادة أذربيجان لأراضيها، فتستغل أنقرة هذه الثغرة لتضغط في شرق المتوسط، وتعيد النقاش وتوزيع المياه الاقتصادية الخالصة شرق اليونان، لكي تستفيد من الجرف القاري الذي تملكه اليونان حالياً، انطلاقاً من ملكيتها لجزيرة ميس القريبة من الساحل التركي على المتوسط.
* المصدر : الميادين نت
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع