الإنتخابات العجيبة التي ستكون عواقبها أهم من نتائجها
ميشيل شحادة*
لم تشهد الساحة العربية (كما العالم) هذا القدر من الاهتمام باي انتخابات كما اهتمت بالانتخابات الامريكية الأخيرة. بدا المشهد سرياليا، نوع من الهوس، حيث تابعت الافراد والتجمعات العربية دقائق العملية الانتخابية. فأصبح كل فرد منا خبير بالنظام الانتخابي ومعانيه، ك “الهيئة الانتخابية،” وكم من الأصوات فيها لكل ولاية، وكيف تحسب الأصوات لنجاح المرشح. وتسرب اللونان الأزرق والاحمر الى مفردات اللغة السياسية العربية، ممثلة للحزبين الديمقراطي والجمهوري. وامتدت التكهنات بما تعنية نتائج هذه الانتخابات على أمريكا، من لا شيء الى انهيار النظام والحرب الاهلية وما بينهما.
وما لفت انتباهي كان حدة الحماس الذي اتسم به هذا النقاش بحيث أدى في احيان الى خراب صداقات بسبب تأييد المرشح الاخر. وغاب عن البال ان الفرق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري طفيف جدا خصوصا في السياسة الخارجية. فالانتخابات الأمريكية لم تعني يوما انتخاب للجوهر بل اختيار للشكل، الغلاف الذي يظهر به المضمون للعلن. فالنظام الأمريكي قائم لحماية مصالح الطبقة الرأسمالية المتحكمة بالنظام بقطبيه الديمقراطي والجمهوري. فالطيف السياسي الأمريكي موصد بحدود سياسية وأيديولوجية معدة بإحكام لا تسمح بالنفاذ منها. فهذا النظام له مؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية، وادواته والامنية والعسكرية والايديولوجية والإعلامية العميقة، التي تعمل على مدار الساعة من اجل حمايته واستمراره. فهو نظام بشكلين لمضمون واحد.
ماذا سيتغير في المضمون في حالة نجاح بايدن رئيسا للولايات المتحدة؟ لا شيء! ومن الاوصاف المصيبة للسياسة الامريكية كانت للرئيس القومي الخالد جمال عبد الناصر حين قال: “عبقريتكم ايها الأميركيين أنكم ابدا لا تتخذون خطوات غبية واضحة، بل تقومون بتحركات غبية معقدة مما يجعلنا نتساءل عن إمكانية كوننا نسينا شيئا.”
وهكذا حال الانتخابات الامريكية فما هي الا تحركات غبية معقدة لا تؤدي الى أي تغيير في المضمون. أمريكا تتحرك دائما لمصالح أمريكا كما تعرفها هي، ومصالحها الامبريالية باتت مكشوفة وواضحة للعالم وعلى مدى حقب طويلة من التجربة امتدت منذ الحرب العالمية الثانية حتى الان. ولكننا، يا للأسف، لا نزال نتصرف كما لو اننا نسينا شيئا.
نظرة الى ما قالته الصين عن سؤال ماذا سيحدث في حالة نجاح أي من المرشحين الأمريكيين، وماذا قالت روسيا وإيران، يعطي لمحة للبديل. اجابوا انه لا يهمهم من يكسب الرئاسة، ولكن ما يعنيهم هو موقف الإدارة الامريكية. أي ان اعينهم على المضمون.
هؤلاء لا يهتمون بالشكل لان لديهم استراتيجية وسياسات تتعامل مع الجوهر الأمريكي. فمن لديه استراتيجية واضحة يعرف كيف يقود سفينته في خضم أي عاصفة تأتيه من جهة أمريكا. ومن يتجرد من هكذا استراتيجية، كحالتنا العربية والفلسطينية خصوصا، سينتظر ويتخبط ويتلون ويتيه في الشكل، فيتأمل ويتفاءل ان يأتيه الخلاص بتغير شخص الرئيس الفظ باخر ناعم. ويغيب عنهم ان الرئيس الامريكي القادم سيبدأ من حيث انتهى المغادر. هكذا تتحول القشة التي تمنوها وتفاءلوا بها الى سراب، فيزدادون ترسبا في مستنقع الاستسلام والاوهام والتطبيع والرغبات الخائبة، وقد علمنا التاريخ اننا لا نتعلم من التاريخ.
الكاو بوي الصهيوني بايدن سيأتي، إذا نجح، ممتطيا جواده البالومينو، وفوق راسه هالة من النور الباهر، وبين يديه كتاب الديمقراطية وحقوق الانسان والحرية ونشيد الاناشيد الإسرائيلي، ويخطب بالعرب خطبته العصماء، ربما في مكة هذه المرة، كما فعل رئيسه أوباما في القاهرة، عندما كان نائبه، فيخر له الجميع ساجدينا، مهللين للمسيح الأمريكي المنتظر، الذي اتاهم مخلصا من “الشيطان الشيعي الأكبر،” إيران. اما الأنظمة العربية المطبعة، التي باعت نفسها وبايعت الشيطان، ترمب، وتدعمه وتتمنى بقائه رئيسا للأبد. هؤلاء يسكنون جهنم، ولا تلائمهم نعومة المخلص بايدن. ومع انهم يعرفون جيدا أن قلب أمريكا دائماً مع الكيان وعيونها على جيبوهم، لا يزعجهم ذلك البتة، ولا ترتجف لهم رمشه عين، فالكيان الصهيوني يستحق كل ما في جيوبهم، فهو حامي العرش والنموذج والقائد المغوار، الذي سيقودهم الى النصر على محور المقاومة و”الخطر الفلسطيني” المزعج، الذي يُغير على المستوطنين الأوروبيين “الأبرياء،” الذين يقتلون ويشنعون بالفلسطيني من اجل تحرير “وطنهم التوراتي” من “الغزاة العرب،” بعد الفين عاما من التيه والضياع في جميع ارجاء المعمورة. اما الفلسطيني الذي عاش على هذه الأرض منذ البدء فيجب التحالف مع الحركة الصهيونية لقلعه من التاريخ.
وهكذا تستمر القصة المستولدة والمفبركة في احشاء الرأسمالية الامبريالية في التوسع والنمو والتسلط على الوعي العربي، ونحن مبهورين بالجغرافيا الامريكية ومحافظاتها وارقامها والوانها، وكون العرب من اخترع علم الجبر ويؤمنون بالقسمة، فقد وضعتهم أمريكا على جدول الضرب، وهم سعداء يمارسون هوياتهم المفضلة في تحليل ايهما أفضل بايدن ام ترمب، ولا فرق بين فردتي حذاء في القدمين على رأي فيدل كاسترو.
سيبقى المضمون الامريكي قائماً ما لم تتغير موازين القوى على صعيده الداخلي أو العربي أو الفلسطيني. فنحن لا نحتاج ان نكتشف من هو الغلاف الأفضل، بايدن ام ترمب، بل علينا ان نفهم المضمون، وهو ان امريكا دولة امبريالية استيطانية، والكيان الصهيوني يشكل ذراعها وقاعدتها المتقدمة في المنطقة العربية، التي تعمل بشكل دؤوب ضد الامة العربية جمعاء وليس فقط ضد الفلسطينيين، ولا يمكن مهادنته او عقد سلام معه ابدا، وعلى القوى الوطنية والقومية والاسلامية ان تضع خططها واستراتيجياتها على هذا الأساس. عندها سنكون مستعدين لاي شكل او غلاف يأتي به هذا المضمون، وغير ذلك سنبقى، نعيد أسباب فشلنا وعوامل هزائمنا المتكررة التي أصبحت تراثا وتقليدا مشؤوما.
* المصدر : رأي اليوم
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع