إشكالية النظام الانتخابي الأمريكي
السياسية – مركز البحوث والمعلومات:
خلال الأسابيع القليلة الماضية سيطر الصراع الانتخابي في الولايات المتحدة الأمريكية على المشهد عالمياً، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والمقررة في الثالث من شهر نوفمبر الحالي.
بعيدا عن الجدل الدائر في العالم وفي والولايات المتحدة الامريكية عن اسم الرئيس القادم، فإن العديد من التفاصيل حول الكيفية للوصول إلى البيت الأبيض مبهمة لدى الكثير من المتابعين حول العالم، حيث يُعتقد أن الوصول إلى رئاسة بلد ديمقراطي كالولايات المتحدة الأمريكية يكون من خلال انتخابات مباشرة تحسم بحصول أحد المترشحين على النسبة الأعلى ،كما هو قائم في أغلب الديمقراطيات حول العالم، إلا أن واقع العملية الانتخابية في أمريكا “ليست كذلك” لكونها تتضمن مراحل مختلفة تمتد لأسابيع وأشهر طويلة قبل أن تحسم الانتخابات.
ويكون البدء بعقد اجتماعات لكل حزب (الجمهوري – الديمقراطي) يتم من خلالها تقديم المترشحين لمنصب الرئاسة، حيث يسعى كل مرشح لحشد التأييد عبر مؤتمرات داخلية للحزب ويعرض المرشح برنامجه الانتخابي في مسعى إلى استقطاب المؤيدين داخل الحزب.
وفي المرحلة التالية، تعقد الانتخابات التمهيدية في شهر يناير من عام الانتخابات، ويشارك في تلك الانتخابات أعضاء الحزب الواحد في جميع الولايات الأمريكية ليحصل أحد المتنافسين على العدد الأكبر من مندوبي الحزب على مستوى البلد. بحيث أن المرشح الحاصل على دعم العدد الأكبر من مندوبي الولايات يكون المرشح الرسمي للحزب لخوض الانتخابات الرئاسية.
وبعد ذلك، تأتي مرحلة المؤتمرات القومية للحزبين لإعلان اسم المرشح بشكل رسمي لكل حزب، وفي الغالب يكون انعقاد المؤتمر القومي لكل من الحزبين في وقت قد اتضحت معالم مرشح الحزب للرئاسة، ويمكن القول إن مرحلة المؤتمرات القومية هي الإشارة الحقيقية لبدء السباق الفعلي بين الحزبين ومرشحيهما باتجاه البيت الأبيض، وفي اعقاب ذلك يكون إنفاق الملايين على الحملات الدعائية على المستوى الوطني ككل مع التركيز على الولايات المؤثرة ذات الثقل في المجمع الانتخابي القومي “كاليفورنيا، تكساس، نيويورك، وفلوريدا”.
وفي هذا السياق، تشير الارقام الصادرة من الحملات الانتخابية إلى أن الانفاق المالي قد حطم الأرقام في الانتخابات السابقة، ووفقاً لمركز السياسة المستجيبة (Center for Responsive Politics)، (مجموعة بحثية تبحث في تأثير المال المنفق في عالم السياسة داخل الولايات المتحدة)، أن الإنفاق الإجمالي على الحملات الانتخابات الحالية يقدر بـحوالي 7.2 مليار دولار لكلا الحزبين وبنسبة إنفاق للحزب الديمقراطي تقارب 53.6% فيما إنفق الجمهوريين ما نسبته 46.4% ، ويتوقع المركز ارتفاع المبلغ مع نهاية شهر أكتوبر الحالي مع إعلان جمع التبرعات.
وحسب الدستور الأمريكي، فإن انتخاب “الرئيس ونائبه” يكون بطريقة غير مباشرة عبر ما يسمى بـ المجمع الانتخابي، (خلافا للانتخابات المباشرة التي تتم في اختيار أعضاء مجلس النواب)، الذي يمنح الناخب الأمريكي حق الاقتراع في 3 نوفمبر الحالي من أجل انتخاب الرئيس من الناحية العملية، غير أنه من الناحية الفنية والواقع “دستوريا” يكون الاقتراع لاختيار المجمع الانتخابي داخل كل ولاية، وهذا المجمع (المندوبين) هو حصيلة صناديق الاقتراع ولكل ولاية عدد مختلف من المندوبين تبعاً لعدد ممثلي الولاية في الكونجرس(مجلس الشيوخ ومجلس النواب).
ويكون الفائز إما للمندوبين الجمهوريين وإما للديمقراطيين، ويحصد الفائز جميع اصوات المندوبين بنظام الفائز يحصد الكل، ويبلغ عدد المندوبين “المجمع الانتخابي” الكلي على المستوى الوطني 538 عضوا، وهذا العدد يوازي عدد أعضاء الكونغرس بمجلسيه “النواب والشيوخ”، إضافة إلى ثلاثة أعضاء من مقاطعة كولومبيا التي يوجد بها العاصمة واشنطن.
وعلى الرغم من معرفة اسم المرشح الفائز في الانتخابات الرئاسية٬ خلال الساعات التالية٬ إلا أن الإعلان وبشكل رسمي عن الرئيس القادم يتطلب قيام أعضاء المجمع بدورهم “في وقت لاحق من شهر ديسمبر” بالاجتماع في عواصم ولاياتهم للإدلاء بأصواتهم في اقتراع سري لاختيار الرئيس ونائبه، والمرشح الفائز بمنصب الرئيس من يحصل على أصوات أكثر من نصف عدد المندوبين أي أكثر من 270 صوتاً.
وتفرز أصوات أعضاء المجمع الانتخابي رسمياً أمام الكونجرس في يناير “من العام التالي”، وفي حال لم يتمكن المجمع الانتخابي من حسم الأمر في حال تعادل الاصوات، فإن الأمر يحال بأكمله إلى مجلس النواب.
الذي يقوم بدوره باختيار رئيس الولايات المتحدة من بين المرشحين الحائزين على المراتب الأولى، ويكون لكل ولاية صوت فقط يعبر عن رأي أغلبية نواب الولاية، وبالتالي يكون المرشح الحاصل على أغلبية الاصوات هو الرئيس الجديد، والتاريخ الانتخابي الأمريكي سجل حالات لم يتمكن المجمع الانتخابي من حسم العملية الانتخابية، وتحديدا في 1824 عندما حسم مجلس النواب الأمر وأعلن فوز المرشح جون كوينسي آدامز بمنصب الرئيس بعد أن توزعت أصوات المجمع الانتخابي ما بين المرشحين وفشل أي منهم في الحصول على الأغلبية المطلوبة والمحددة بـ 270 صوت.
وهكذا يتضح أن الطريق نحو البيت الأبيض يمر بعدد من المراحل التي تجعل الانتخابات الأميركية من أطول وأعقد الانتخابات في العالم، وهذه الفلسفة الخاصة لنظام الانتخابات في واقع الأمر حصيلة الكثير من المؤتمرات التي جعلت الآباء المؤسسين (جورج واشنطن، جيمس مادسون، توماس جيفرسون) للنظام الجمهوري الوليد يعملون من جانب على تجنب فكرة الوقوع تحت سيطرة حكومة ترتكز إلى أغلبية مطلقة مما قد يجعلها تميل إلى الاستبداد، ومن الجانب الأخر الحفاظ على حقوق الولايات في الانتخابات الرئاسية، من خلال جعل حق الانتخاب محصوراً للمجمع الانتخابي دون أن يكون للشعب حق الاختيار المباشر للرئيس.
وينظر عدد من خبراء الدستور في الولايات المتحدة أن فلسفة المجمع الانتخابي أو الهيئة الناخبة كان مقصودا لخصوصية المجتمع الأمريكي في تنوعه الثقافي والمرتبط بدوره بواقع التنوع العرقي في المجتمع، وبالتالي فإن نظام المجمع الانتخابي سوف يساعد في الحد من تأثير العواطف السياسية للناخبين، إضافة إلى أن “المؤسسون الأوائل” كانوا أكثر حرصا على حقوق سكان الولايات ذات الكثافة السكانية القليلة بما يحول دون إهمالها من المرشحين للرئاسة لصالح الولايات الكبرى.
وفي هذا الإطار، يشير عدد من المؤيدون للمجمع الانتخابي انه في حال فوز مرشح رئاسي معين بأصوات المجمع في الولايات الكبرى (كاليفورنيا وتكساس ونيويورك فلوريدا وبنسلفانيا إلينوي أوهايو)، لن يكون كافياً للفوز بمنصب الرئيس وبالتالي فان كلا المرشحين يبقيان في حاجة ماسة للأصوات في الولايات الصغيرة للوصول إلى العدد المطلوب من أصوات المجمع الانتخابي الكلي.
وما يشد الانتباه أمام هكذا تجربة ديمقراطية، أنه منذ أن وضع الدستور الأمريكي سنة 1787 وخلال أكثر من قرنين من الزمن، لم يشهد الدستور تحولاً نحو إعادة حق الاختيار في الانتخابات الرئاسية للشعب بشكل مباشر، بل إن جماعات الضغط سعت خلال مراحل زمنية مختلفة على إبقاء نظام المجمع الانتخابي كما هو عليه دون تعديل، لإنها وجدت من خلاله فرصة للحفاظ على مصالحها، يضاف إلى ما سبق أن وسائل الإعلام، التي تتحكم بالمعرفة التي تصل إلى الجمهور، تعمل على إظهار الحياة الأمريكية عموماً والعملية السياسية بتفاصيلها المختلفة على أنها الأمثل والأنسب للمواطن الأمريكي.
تتجلى التناقضات في نظام الانتخابات الأمريكية “الذي يثير الكثير من الجدل بين المتخصصين” عن مدى استجابته للإرادة الشعبية، حيث أن الناخبين الكبار (أعضاء المجمع الانتخابي أو المندوبين) من كلا الحزبين لا يكون لزاماً عليهم إعطاء أصواتهم للمرشح الرئاسي الذي يمثل أحزابهم، بالإضافة إلى أن المرشح الفائز بالرئاسة ليس بالضرورة أن يحصل على النسبة الأكبر من أصوات الغالبية الشعبية، وهذا ما حدث في انتخابات عام 2000 باختيار المجمع الانتخابي وبعدد 271 من الأصوات لصالح المرشح جورج بوش رغم أن منافسه الديمقراطي “ال جور” تغلب عليه في عدد الأصوات الشعبية وبفارق تجاوز 540 ألف صوت. وتكرر هذ التناقض في الانتخابات الأخيرة عام 2016 ما بين المرشح دونالد ترامب الذي استطاع الوصول إلى منصب الرئيس من خلال فوزه بأصوات المجمع فيما كانت الخسارة من نصيب المرشحة هيلاري كلينتون رغم فوزها بالأصوات الشعبية.
يبقى القول، أن الجدل بشأن نظام المجمع الانتخابي في الولايات المتحدة يتصاعد مع مرور الوقت، إلا أن الثابت في هذا السياق يشير بوضح إلى أن القوى السياسية المهيمنة والتي ترى أن النظام الحالي يلبي مصالحها لن تقف مكتوفي الأيدي أمام الدعوات المطالبة بإدخال الإصلاحات المناسبة والمواكبة للمتغيرات في عالم اليوم.